ماذا كانت تتضمن المائدة القاهرية في زمن المماليك؟

أكلات منوعة وعادات وتقاليد صارمة

MOHAMED EL-SHAHED / AFP
MOHAMED EL-SHAHED / AFP
طاهٍ مصري يجهّز اللحم في مطعم "كابر صبحي" في ضاحية شبرا شمال القاهرة

ماذا كانت تتضمن المائدة القاهرية في زمن المماليك؟

"وبعد أن اطمأن بهم الجلوس ساعة من الزمان أقبل عليهم عبد وعلى رأسه سفرة طعام فيها أوان من الصيني والبلور... وكانت هذه السفرة مما درج وطار وسبح في البحار، كالقطا والسمان وأفراخ الحمام وشياه الضأن وألطف السمك. فلما وضعت تلك السفرة بينهم تقدموا وأكلوا بحسب الكفاية. ولما فرغوا من الأكل قاموا عن الطعام، وغسلوا أيديهم بالماء الصافي والصابون الممسك، وبعد ذلك نشفوا أيديهم بالمناديل المنسوجة بالحرير والقصب، وقدموا لنور الدين منديلا مطرزا بالذهب الأحمر فمسح به يديه. وجاءت القهوة فشرب كل منهم مطلوبه، ثم جلسوا للحديث..." - حكاية نور الدين ومريم الزنارية، "ألف ليلة وليلة".

ينظر عادة إلى المماليك على أنهم قساة دمويون، غليظو القلوب وشديدو الطباع، وقد يكون هذا صحيحا، لكن لهذه الغلظة وجها آخر شديد الوداعة، فمن المعروف أن كثيرا من المماليك كانوا يقضون بعضا من أوقات السلم في الصيد والتنزه والاهتمام بالخيول، وكانوا معروفين بالأناقة وحبهم للعطور وحب العمارة، كما كانوا متذوقين للفن وللجمال، وللطيبات من الطعام أيضا. ففي لفتة تكشف جانبا حميميا من حياة البلاط المملوكي، يروى أن السلطان الصالح (صالح) قرر أن يدعو والدته ورفاقه المقربين إلى وليمة عظيمة، وما كان منه إلا أن شد على وسطه مئزر الطهي، وأشرف على طبخ أطباق الوليمة وتولى مهمة إعداد المائدة ووضع الأطباق عليها بنفسه. وفي الحقيقة، لم يكن الطعام مجرد حاجة إنسانية أو مذاقا لذيذا فحسب، بل كان سجلا إنسانيا حافلا بالحكايات عن حكم المماليك وأناقتهم، وعن تمازج التوابل والعادات والأطعمة في مدينة عالمية، وأهم حاضرة شرقية في زمنهم، أي القاهرة.

دخول الإسلام

في البداية، جلب الفتح العربي مع اللغة العربية والدين الإسلامي العديد من التأثيرات والتحولات. إذ أرسى دعائم التجديد في المنظومة الزراعية للبلاد، فلم تكتف الأراضي الخصبة على طول نهر النيل بإنتاجها الوفير القديم، بل استقبلت المحاصيل الجديدة. فدخل الأرز، وتجذر قصب السكر، وأينعت ثمار الموالح، مما أضاف إلى المائدة المصرية ثراء في المكونات وتوسعا في الخيارات الغذائية.

تعمل كتب الحسبة كدليل رقابي، كاشفة عن آليات الضبط الصارم لأسواق الغذاء والتنظيم الدقيق لأصحاب المهن المرتبطة بالطعام، والتي تزيد على عشرين مهنة

ومع توالي القرون، لم يقتصر هذا التنوع على المجال الزراعي، بل امتد ليصوغ النسيج البشري للمجتمع. فتحت رعاية الخلفاء والسلاطين، تحولت مصر إلى مركز ثقافي ونقطة جذب حضارية، تضاعف فيها تعداد السكان من العرب المسلمين والأقباط. وقد عززت الهجرات المتوالية، خاصة بعد هجمات المغول في آسيا الوسطى، من مكانة مصر كملاذ إقليمي. فاستوطنها الأتراك والأكراد والمغاربة والسودانيون والفرس والعراقيون وغيرهم، لتغدو موطنا متعدد الأطياف والأعراق، وتتقابل على أرضه بالتالي المذاقات والأمزجة.

Khaled DESOUKI / AFP
رجل مصري ينقش على صينية نحاسية خارج متجر في شارع المعز في الحي الإسلامي القديم في القاهرة

منابع المذاق

تؤكد التركيبة البشرية المتنوعة للقاهرة التاريخية أن المطبخ هو ساحة تفاعل ثقافي بامتياز، وينعكس هذا الثراء في التراث العربي الذي تناولته باولينا ليفتسكا في كتابها "الطعام: أصنافه، إعداده، آدابه في القاهرة خلال العصور الوسطى". يتمثل هذا التوثيق أولا في مدونات الطهي، التي تتدرج من كتابات مبكرة مثل كتاب "الطبيخ" لابن سيار الوراق، وصولا إلى كتاب "كنز الفوائد في تنويع الموائد المملوكية"، الذي يزهو بثمانمائة صنف، كدليل على الغزارة المطبخية.

وفي المقابل، تعمل كتب الحسبة كدليل رقابي، كاشفة عن آليات الضبط الصارم لأسواق الغذاء والتنظيم الدقيق لأصحاب المهن المرتبطة بالطعام، والتي تزيد على عشرين مهنة، من الحبوبيين الأوائل والخبازين إلى الجزارين والقصابين والباعة المتخصصين كـالرواسين والفوالين. هذه الكتب، خاصة كتب الشيزري وابن الأخوة وابن بسام، ليست مجرد قوائم تنظيمية، بل هي شهادات حية تكشف التفاوت الاجتماعي والاقتصادي.

Khaled DESOUKI / AFP
متطوّعون يشوون أسياخ اللحم استعدادا لوجبة إفطار جماعي في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان

يتكامل هذا المشهد مع مصادر معرفية أخرى، مثل كتب الحوليات التاريخية، كأعمال المقريزي وابن إياس وكتب الرحلات، كرحلات ابن بطوطة وابن جبير، التي تضيف بعدا إثنوغرافيا إنسانيا، برصدها الحي لطقوس وعادات الطعام، وأيضا مؤلفات العقاقير والأغذية، مثل عمل إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، التي تكشف الوعي القديم بالصحة والتغذية من منظور طبي، هذا بجانب النصوص الأدبية مثل "ألف ليلة وليلة"، التي تثري السرد بوصف فني رفيع للموائد والأطباق، مما يضيف بعدا جماليا، وتشكل هذه المصادر مجتمعة إطارا معرفيا متكاملا وذكيا، يفكك العلاقة المعقدة بين السلطة والتجارة والتمازج الثقافي، وبين ما كان يقدم على المائدة اليومية.

ماذا حوى مطبخ المدينة العامرة؟

كانت خيرات الأرض المصرية هي الركيزة الأساس التي بنيت عليها المائدة في القاهرة المملوكية، فتميزت قائمة الخضروات بالاتساع والوفرة، فشكل البصل والثوم الأساس الثابت لكل مطبخ، بينما توزعت باقي الأصناف بين ما هو أصيل في البلاد كالخس والفجل، وما وفد عليها بعد الفتح الإسلامي كالباذنجان والبامية. وفي المقابل، كانت البقوليات، وفي مقدمها الفول والحمص، هي عماد القوت اليومي للطبقات الشعبية.

حملت الملوخية معها بعدا سياسيا قديما، حين منع تناولها سابقا بأمر من الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله لأن معاوية بن أبي سفيان كان يفضل تناولها

 ومن اللافت أن بعض الأطباق لم يسلم من التجاذبات التاريخية. فـالملوخية حملت معها بعدا سياسيا قديما، حين منع تناولها سابقا بأمر من الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله لأن معاوية بن أبي سفيان كان يفضل تناولها، في دلالة على كيف يمكن لطعام بسيط أن يدمج في السرديات التاريخية للصراع على السلطة.

Khaled DESOUKI / AFP
امرأة مصرية تتسوق في سوق للفاكهة في القاهرة

ولم يقل عالم الفاكهة غنى عن عالم الخضروات، فقد ازدحمت أسواق القاهرة بأصناف متنوعة من التفاح والرمان وصولا إلى الجميز الذي كان المفضل محليا لغزارته، بينما استخدمت الحمضيات كالليمون والأترج لتعديل النكهات. وفي الحقيقة لم تكن الفاكهة مجرد طبق يؤكل بعد الوجبات الرئيسة، بل كانت أحد مكونات الطبيخ الفاخر، فاستخدمت في مجموعة من الأطباق الرئيسة المعتمدة على اللحم، وحملت هذه الأطباق اسم صنف الفاكهة التي كانت تدخل في تكوينه كالتمرية والمشمشية، وفي الحقيقة كانت وظيفة الفاكهة تنحصر في تحديد النكهة أو اللون، وأحيانا كانت لا تستخدم بالفعل في الطبق. ويعكس هذا التوظيف براعة المطبخ المملوكي في خلق الإيحاء الحسي والجمالي للطعام، كما يتضح من ممارسة صبغ طبق المشمشية بجرأة باستخدام الزعفران ليحاكي لون الفاكهة الذهبي دون استخدامها بالفعل.

كانت الحبوب هي القوام الأصيل للحياة في القاهرة، وفي فترات الرخاء، كان القمح هو سيد الحبوب، الى درجة أن المصريين أطلقوا على الخبز اسم (العيش= الحياة)، وتنوع بين النوع الفاخر (الحواري) والرديء (الخشكار). وعلى النقيض، كانت أصناف الخبز الأقل تفضيلا كالدخن والذرة، تظهر بقوة في المدينة فقط في أوقات الشدة والمجاعة، لـتشي بصمت عن الضائقة الاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد. وظل الأرز، على ندرة استهلاكه اليومي، طعاما فاخرا يميز موائد الطبقة الأريستوقراطية، ويستخدم في أطباق معقدة كالمأمونية.

MOHAMED EL-SHAHED / AFP
طاهٍ مصري يجهّز اللحم في مطعم "كابر صبحي" في ضاحية شبرا شمال القاهرة

واحتلت اللحوم مكانة فائقة في المطبخ القاهري كعنوان للفخامة، وكان لحم الضأن والبقر والماعز الأكثر شيوعا، واعتمدت تقنيات إعداده على السلق كطريقة أساسية. وقد حظيت لحوم الطيور بمكانة دائمة وعالية على موائد السلاطين، كما دخل البيض في أطباق متنوعة أشهرها العجة. وفي المقابل، لم يحظ السمك بمكانة تذكر بين طعام الطبقات الحاكمة، وبقي وجوده مقتصرا على رسوم توزيعات الأعياد أو الإشارات الأدبية. أما الألبان والأجبان، فكانت شائعة في الريف ووجدت صداها في المدينة، وتعددت أنواعها المحلية والمستوردة، الى درجة أن الجبن المقلي أصبح سمة مميزة ومفضلة شخصيا للسلطان الناصر محمد بن قلاوون وزوجته خوند طغاي.

أصبح الجبن المقلي سمة مميزة ومفضلة شخصيا للسلطان الناصر محمد بن قلاوون وزوجته خوند طغاي

أما التجارة مع الأقاليم المجاورة، لا سيما الشام، فاتسمت بالنشاط والازدهار، وكان نتاجها أن جاءت إلى مصر أفخر المكسرات كالجوز والفستق والبندق، وثمار التفاح والسفرجل والكمثرى، وهكذا تعدت نتائج التجارة الخارجية كونها مجرد مكاسب مادية وعلاقات تجارية للسلطنة المصرية، بل امتدت آثارها الى المطبخ القاهري الذي التقت فيه الأذواق والأصول لتخلق نكهة خاصة بالمدينة العامرة.

سماط المماليك: بسط النفوذ ببلاغة شهية

لم يكن طعام القصر قاصرا على سكانه، إذ كان يجد طريقه إلى القاهريين في المناسبات للعامة، مرة من خلال الأسمطة والموائد العامة التي حرص عليها الخلفاء والسلاطين في الأعياد، كطريقة للتواصل المباشر مع الشعب، منذ دولة أحمد بن طولون مرورا بالفاطميين وصولا الى المماليك، ومرة أخرى من خلال إمكان أن يشتري العامة الباقي من طعام القصر في كل يوم، كلقمة هنية وفاخرة بأرخص الأثمان.

وفي الحقيقة تجاوزت موائد شهر رمضان في العصر المملوكي وظيفة الإطعام إلى كونها تعبيرا عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، إذ أدرك سلاطين المماليك، بحدس اجتماعي، القوة الرمزية للعطاء الباذخ كوسيلة لترسيخ الشرعية وضمان القبول الشعبي.

فقد شهدت الأسمطة العامة بذخا مشهورا. فالسلطان سيف الدين برقوق، مثلا، خصص خمسا وعشرين بقرة للذبح يوميا طوال شهر رمضان، توزع لحومها مع آلاف الأرغفة على مختلف الشرائح، مع ضمان وصول حصة محددة لكل فرد (رطل لحم وثلاثة أرغفة)، مما وازن بين الكفالة المادية والإظهار الرمزي للرعاية، وفي الحقيقة بلغت هذه المجهودات ذروتها من قبل زمن برقوق، بالتحديد في عهد السلطان بيبرس، الذي استوعبت مطابخه خمسة آلاف صائم يوميا.

CRIS BOURONCLE / AFP
مصريون محتاجون يجلسون في قاعة طعام مؤقتة استعدادا لتناول وجبة الإفطار بينما يقوم موظفو فندق فاخر قريب بخدمتهم

لكن هذه الموائد كانت استثمارا سياسيا واجتماعيا مكلفا، وعندما حاول الوزير منجك في عام 1349م إلغاءها، قوبل برفض شعبي واسع، وهذا الرفض أكد أن الإطعام لم يكن مجرد سد لجوع، بل كان عقدا اجتماعيا غير مكتوب، واعتبر إلغاؤه مساسا بالحق الرمزي في خيرات السلطة.

في المقابل، شكلت الأسمطة الخاصة بالأمراء وكبار رجال الدولة مسرحا منظما لترسيم حدود القوة. لم تكن هذه الموائد مجرد مكان للطعام، بل طقس سياسي يعكس فيه ترتيب الجلوس قربا أو بعدا من السلطان هندسة السلطة بدقة. إذ يجلس السلطان في الصدارة، ويصطف الأمراء حسب مراتبهم، في فصل واضح عن طبقات أرباب الأقلام والقضاة.

ولضمان سير هذا الطقس بمهابة، بني جهاز إداري معقد حول المائدة؛ بدءا من الخوان سلار في المطبخ، والإشراف العام من قبل استادار الصحبة، وصولا إلى الجاشنكيرية، الذين كانت مهمتهم التذوق المسبق لكل طعام وشراب يقدم الى السلطان. هذه الممارسات أكدت أن البلاط كان مكانا للولائم وأيضا مكانا لتمرير الدسائس وتنفيذها.

لم تكن هذه الموائد مجرد مكان للطعام، بل طقس سياسي يعكس فيه ترتيب الجلوس قربا أو بعدا من السلطان هندسة السلطة بدقة

سيطرت على محتوى المائدة بروتوكولات غذائية تعكس الجذور العسكرية للمماليك، فكانت المشويات من اللحوم والطيور هي الأصناف الرئيسة، وهذا التفضيل للإكثار من اللحم، بما في ذلك لحم الخيل، أشار إلى أن الطعام لم يكن فقط تغذية، بل استمرار لهوية قادمة من السهول البعيدة عن القاهرة الحارة وشمسها الذهبية.

REUTERS/Amr Abdallah Dalsh
مآذن مسجد السلطان حسن ومسجد الرفاعي ترتفع فوق البيوت القديمة في القاهرة

قواعد وضوابط الموائد القاهرية

هل عرف القاهريون المطاعم في زمن المماليك؟ نعم، فبشكل عام، كانت الطبقات الميسورة تتناول الطعام في قصورها، بينما يأكل الحرفيون والطبقات الوسطى في أماكن عملهم أو منازلهم. أما الفقراء والمعدمون، فكان خيارهم الوحيد هو الأكل في قارعة الطريق أو بجوار الحانوت.

والمرجع الوحيد الذي يشير لاحتمال وجود أماكن عامة للأكل في القاهرة هو مذكرات السفير البندقي دومينكو تريفيزانو الذي لاحظ في سنة 1512م، أن سكان القاهرة يدخلون إلى الحوانيت ويأكلون. هذه الحوانيت ربما كانت تشبه حوانيت الطباخين التي ذكرها المقريزي، وذكر أن الفقراء كانوا يأكلون فيها. وقد أكد إدوارد لين لاحقا كثرة دكاكين الطباخين، لكنه أشار إلى أن الناس نادرا ما يأكلون فيها، بل يعتمدون عليها لتأمين فطورهم وعشائهم وإرساله إلى منازلهم أو أماكن عملهم، وهذه الملاحظة تقدم دليلا مهما على أن عادة الأكل داخل المطاعم كانت شائعة، وأن هذا النمط الاجتماعي المتقدم كان مألوفا لدى القاهريين قبل ظهور المطاعم الفرنسية بما يقرب من قرنين ونصف القرن.

Khaled DESOUKI / AFP
رجال مصريون يعملون في مخبز داخل أحد أسواق القاهرة

وقد جرت العادة أن يتجنب الأمراء وعلية القوم تناول الطعام من تلك المحال، بيد أن بعض المناسبات كانت تكسر هذه القاعدة الصارمة، إذ يروي المقريزي مثلا كيف كان الوزير الصاحب فخر الدين ماجد بن خصيب يبعث خادمه كل ليلة لاقتناء وجبة فاخرة مقلية من منطقة بين القصرين، مما يدل على انفتاح محدد من الطبقة الحاكمة على بعض مطاعم السوق.

أما في الحياة المنزلية، فقد عرف المصريون نوعين من موائد الطعام: السفرة التي كانت عبارة عن غطاء يبسط على الأرض، والخوان، وهو صينية ترتكز على دعامة أو دعامات، يصنع من الخشب أو النحاس. وقد وصف إدوارد وليم لين في كتابه عادات المصريين المحدثين، شكل المائدة القاهرية في القرن التاسع عشر، بأنها طبق مستدير يعرف بالصينية، كانت تصنع من النحاس، وترتفع على كرسي خشبي قصير.

اشتهر المماليك بعادات تخليل الأسنان، وغسل اليدين بالأشنان (الصابون) وتطييبها بالدهان المعطر والعطور وماء الورد أو ماء الزعفران

ويعد كتاب "فوائد الموائد" للجزار المصدر الأبرز لآداب الطعام في العصر المملوكي، حيث وضع قواعد للسلوك بين المضيف والضيف. فشدد على أن يخدم المضيف ضيوفه ويظهر لهم السخاء وبسط الوجه، بينما يمنع الضيف من السؤال عن أي شيء في الدار سوى القبلة وموضع قضاء الحاجة. وقد أضافت رسالة "آداب المؤاكلة" لبدر الدين الغزي تفصيل بعض عادات الضيوف السيئة، مثل عادة "العائب" الذي ينتقد الطعام.

وقد اشتهر المماليك بعادات تخليل الأسنان، وغسل اليدين بالأشنان (الصابون) وتطييبها بالدهان المعطر والعطور وماء الورد أو ماء الزعفران أو ماء العود والصندل والمسك، وهذه العادات كان يمارسها أيضا المصريون، كل بحسب قدرته وطبقته.

ولم تعرف بيوت القاهرة في العصور الوسطى، غرفة طعام مخصصة للأكل، ففي منازل الطبقات الميسورة، كان يتم استقبال الضيوف وتناول الطعام في السلاملك أو الحرملك.

كما كانت عادة تناول الطعام أمام أبواب المنازل شائعة بين الطبقات الوسطى والدنيا، حيث يدعون كل مار "مهيب الطلعة" الى مشاركتهم العشاء، مما يعكس طابعا اجتماعيا مفتوحا في عادات الأكل.

أما أوقات الطعام، فلم تتطرق إليها المصادر والأدبيات كثيرا باستثناء الأقفهسي الذي ذكر في إحدى قصائده أن وقت الغداء يبدأ من طلوع الفجر ويمتد إلى الظهر، يليه وقت العشاء حتى منتصف الليل، وهذا التقليد استمر حتى القرن التاسع عشر، حيث ظل العشاء هو الوجبة الأساس، كما أكد إدوارد وليم لين.

ربما اختفت مدونات وكتب الطبخ اليوم، وبات المثقفون والكتاب والمؤرخون العرب أكثر اهتماما بالكتابة عن التاريخ والفنون والفلسفة والسياسة وبقية مناحي الحضارة الحديثة، عكس المؤرخين العرب القدامى الذين دونوا باهتمام عن الطبخ والطعام، ربما لأنهم فطنوا أنهم يؤرخون لعصرهم ووقائعه وأحداثه بأكثر الأشكال حميمية وذكاء، فمدونات وكتب الطبخ إنما هي تأريخية وكاشفة للعصر في المقام الأول.

font change

مقالات ذات صلة