موازنة بريطانيا... محاولة لاستعادة التوازن في اقتصاد مُنهك بالديون

مناورات معقّدة بالأرقام للخروج من عنق الزجاجة بعد سنوات تداعيات "بريكست"

المجلة
المجلة

موازنة بريطانيا... محاولة لاستعادة التوازن في اقتصاد مُنهك بالديون

بعد أربعة عشر عاما من التقشف، وتضخم تجاوزت ذروته 10 في المئة، وخدمات صحية تعاني من التدهور الشديد، وخدمات عامة على وشك الانهيار، وثغرة مالية تُقدّر بـ29.2 مليار دولار أميركي، ودولار من كل عشرة يُنفَق على فوائد الدين العام. هذا هو الواقع الذي آلت إليه المملكة المتحدة، والإرث الذي ورثته وزيرة الخزانة رايتشل ريفز عند توليها حقيبة المالية.

كانت الرغبة في التغيير قوية إلى حد أن حزب العمال حقق ثاني أكبر غالبية برلمانية في تاريخه، متخلفا بفارق طفيف فقط عن الاكتساح الذي أحرزه طوني بلير في انتخابات عام 1997. كان حزب العمال قد وعد بالتغيير، وكان الناخبون يطالبون به.

وكان أوضح تجليات هذا التغيير في هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS)، حيث شهدت خلال ثمانية عشر شهرا فقط تحولا ملحوظا، بفضل تمويل جديد تم توفيره عبر زيادة مساهمات أصحاب العمل في التأمين الوطني. انخفضت قوائم الانتظار بمقدار 230 ألف حالة، وأصبحت سيارات الإسعاف تصل أسرع بعشر دقائق حاسمة، ووُجّهت تمويلات لإعادة بناء المستشفيات، ويُجرى حاليا إنشاء مراكز صحية جديدة في أنحاء البلاد، ولم يعد الحصول على موعد لدى طبيب أسنان مهمة أصعب من الفوز باليانصيب.

استهدفت الموازنة بناء بريطانيا أكثر إنصافا، من خلال معالجة القضايا التي تثقل كاهل الفئات الأكثر احتياجا. وتتمثل السياسة المحورية في تقليص فقر الأطفال عبر إلغاء الحد الأقصى للإعانات المقتصر على طفلين

وعلى الرغم من التقدم المحقق في هذا القطاع الحيوي، لا يزال الناس في مختلف أنحاء البلاد يطالبون بمزيد من العدالة، وخدمات عامة أكثر كفاءة، وقبل كل شيء، بفرصة حقيقية لتحسين مستوى المعيشة.

تراجع التضخم، الذي بلغ ذروته عند 11.1 في المئة في عهد الحكومة السابقة، بمقدار الثلثين، ويتوقع مكتب مسؤولية الموازنة (OBR) أن ينخفض أكثر ليصل إلى 2.5 في المئة في السنة المقبلة. من شأن هذا التراجع أن يخفف الأعباء عن كاهل العائلات التي تكافح من أجل تأمين الطعام، والتدفئة، ومواكبة دفع الإيجار أو أقساط الرهن العقاري.

رويترز
احتجاجات لمزارعين بريطانيين وقطع الطريق بالجرارات الزراعية في شوارع لندن، 26 نوفمبر 2025

في هذه الموازنة، وجدت الوزيرة ريفز نفسها مضطرة إلى التوفيق بين التزام قواعد مالية صارمة، تفاديا لتكرار الاضطرابات التي شهدتها الأسواق خلال الفترة القصيرة والمضطربة التي تولت فيها ليز تراس رئاسة الحكومة، وبين الضرورة السياسية لتنفيذ وعود حزب العمال. لدى ريفز مهمة واضحة: جعل البلاد أكثر عدلا، وخفض مستوى الدين، وتعزيز النمو الاقتصادي.

تستهدف التدابير المعلنة بناء بريطانيا أكثر إنصافا، من خلال معالجة القضايا التي تثقل كاهل الفئات الأكثر احتياجا. وتتمثل السياسة المحورية في تقليص فقر الأطفال عبر إلغاء الحد الأقصى للإعانات المقتصر على طفلين، الذي فرضته الحكومة السابقة، وهو إجراء من شأنه أن يدعم قرابة نصف مليون طفل. إلى جانب ذلك، ستحصل كل أسرة على حسم بقيمة 200 دولار أميركي على فواتير الطاقة في السنة المقبلة، كما سترتفع الأجور الدنيا بمقدار 66 سنتا في الساعة، في إطار جهد أوسع لتخفيف الضغوط المالية عن العائلات العاملة.

غير أن الاستثمار الجديد وخفض الدين يفرضان ضرورة تأمين مصادر إيرادات إضافية. ومع فقدان المملكة المتحدة للتمويلات الهيكلية الأوروبية التي كانت مخصصة لدعم التوظيف والأعمال، واقتراب انتهاء البرنامج المحلي المؤقت، أعلنت ريفز تخصيص 17.2 مليار دولار أميركي لبرامج مماثلة تدار عبر عمد المناطق، من بينهم عمدة لندن، صادق خان. وبعد تعهّد الحكومة بعدم زيادة المصادر الرئيسة للتمويل، مثل ضريبة الدخل والتأمين الوطني، لجأت إلى بدائل أخرى لتأمين الإيرادات.

ستفرض ضريبة على السياحة في لندن، وهي سياسة يدعمها 41 في المئة من سكان المدينة، إضافة إلى عُمد المدن في مختلف أنحاء المملكة المتحدة

يشكل نقل الصلاحيات أحد المحاور الرئيسة في الموازنة، إذ لا تزال المملكة المتحدة تُعد من أكثر الديموقراطيات مركزية في العالم، ولذلك يمثل توسيع صلاحيات عُمد المدن تطورا مهما ومحل ترحيب. وبصفتي رئيسا لأرفع لجنة في جمعية لندن، قدت تحقيقا حول مكانة لندن على الساحة العالمية ومستقبل الحوكمة فيها، حيث تواصلنا مع مدن من مختلف أنحاء العالم، إضافة إلى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. وكانت الرسالة التي أكدتها المنظمة في باريس واضحة لا لبس فيها: "من دون اللامركزية المالية، تصبح اللامركزية السياسية والإدارية بلا معنى".

"ضريبة الميلك شيك"

أوصى تقرير  الموازنة بعدم تفويت الفرصة عبر منح لندن صلاحية فرض ضريبة على السياحة، وهي سياسة يدعمها 41 في المئة من سكان المدينة، إضافة إلى عُمد المدن في مختلف أنحاء المملكة المتحدة. وتمثل هذه الخطوة مكسبا على جميع الأصعدة، إذ توفر تمويلا حيويا، وتحسّن مستوى الخدمات المقدمة للمقيمين، وتعزز جاذبية لندن على الساحة الدولية. تعتبر لندن حالة استثنائية بين المدن العالمية في عدم فرضها مثل هذه الضريبة.

رويترز
فنان يحمل صورة رسمة ساخرة لوزيرة الخزانة البريطانية راشيل ريفز، لندن 26 نوفمبر 2025

تحوّل هذه الموازنة تلك التوصية إلى واقع، إذ ستمنح الحكومة القادة المحليين صلاحية فرض ضريبة على السياحة، مع إطلاق مشاورات لاحقة لتحديد التفاصيل. وقد تدر هذه الخطوة ما يصل إلى 320 مليون دولار أميركي سنويا، بينما سيواصل الزوار الاستفادة من الدخول المجاني إلى العديد من أبرز المتاحف والمعارض الفنية في العالم.

للمزيد إقرأ : بريطانيا من فوق غيرها من تحت

ومن بين "الضرائب "الجديدة" يأتي توسيع نطاق "ضريبة السكّر" لتشمل المشروبات غير الصحية المعتمدة على الألبان، مثل مخفوق الحليب "ميلك شيك" والقهوة المعلبة، في ما يُعرف بـ"ضريبة الميلك شيك" حيث ستُفرض رسوم إضافية على هذه المنتجات.

يُتوقع أن ينخفض التضخم إلى 2 في المئة بحلول عام 2027. كما يُنتظر أن يتراجع اقتراض الحكومة من 180 مليار دولار أميركي إلى أقل من 150 مليارا في السنة المقبلة

أما بالنسبة للشركات، فتتضمن الموازنة مزيجا من الحوافز والتحديات. فالشركات الصغيرة، التي تؤدي دورا حيويا في إنعاش الشوارع التجارية المحلية المتضررة من عصر التسوق الإلكتروني، ستستفيد من مراجعة شاملة لضريبة الأعمال، تهدف إلى دعم المتاجر المحلية، في حين يُنقَل جزء أكبر من العبء الضريبي إلى سلاسل التجزئة الكبرى. كما ستُفرض زيادات في ضرائب القمار الإلكتروني وعن بعد.

رويترز
برج "غيركن" وسط مركز الأعمال في مدينة لندن، 21 نوفمبر 2025

في الوقت نفسه، ومع تسارع التحول إلى استخدام المركبات الكهربائية والهجينة، بدأت إيرادات رسوم الوقود في التراجع. ولضمان استمرار تمويل صيانة الطرق الحيوية، تعتزم الحكومة تطبيق أول رسوم من نوعها على المسافة المقطوعة في المملكة المتحدة: بمعدل 2.5 سنت أميركي لكل كيلومتر للمركبات الكهربائية، ونصف هذا المعدل للمركبات الهجينة، وذلك بالإضافة إلى الضرائب الحالية على السيارات. إنها خطوة جريئة، ولا تزال ردود الفعل من أنصار البيئة ومنتقدي السياسات المناخية غير واضحة حتى الآن.

ما الحصيلة المتوقعة من الموازنة؟
من شأن العبء الضريبي المتزايد أن يسهم في تمويل تحسينات جوهرية في العدالة الاجتماعية، ورفع أعداد كبيرة من الأطفال من دائرة الفقر، وجذب الاستثمارات إلى المملكة المتحدة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتعزيز الخدمات العامة التي تعاني من ضغوط متزايدة. والأهم من ذلك، يُتوقع أن ينخفض التضخم إلى 2 في المئة بحلول عام 2027. كما يُنتظر أن يتراجع اقتراض الحكومة من 180 مليار دولار أميركي إلى أقل من 150 مليارا في السنة المقبلة، ثم ينخفض مجددا ليصل إلى أقل من 90 مليار دولار بحلول عام 2029–2030، وهو العام الذي تتوقع فيه وزيرة الخزانة عودة الموازنة إلى تحقيق الفائض.

إقرأ أيضا: شبانة محمود... الجرأة في اختراق الملفات الشائكة

كما تبدو آفاق النمو في تحسن، إذ يتوقع "مكتب مسؤولية الموازنة" أن يسجل الاقتصاد نموا بنسبة 1.5في المئة  في السنة الجارية، بعد أن كانت التقديرات السابقة تشير إلى 1 في المئة مع ترجيحات باستمرار معدلات نمو مماثلة لبقية العقد. ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحا: هل سيكون هذا كافيا بالنسبة للحكومة، والأهم من ذلك، للناخبين الذين يتطلعون إلى تحسن ملموس في أوضاعهم؟ وحده الزمن كفيل بالإجابة.

font change

مقالات ذات صلة