موازنة السعودية 2026... إنفاق متزن ومواطن شريك في اقتصاد متنوع

تراجع العجز المدروس مع الاستمرار في السياسة المالية التوسعية الاستراتيجية

المجلة
المجلة

موازنة السعودية 2026... إنفاق متزن ومواطن شريك في اقتصاد متنوع

رسمت موازنة السعودية للعام 2026 ملامح مرحلة جديدة يتقدم فيها المواطن السعودي إلى صدارة الأولويات، بالتوازي مع تسارع التحول نحو اقتصاد منتج متنوع يقلص اعتماده التدريجي على النفط، ويستند أكثر إلى القطاع الخاص والصناعات المحلية والاقتصاد الرقمي.

فبين جلسة مجلس الوزراء التي أقرت الموازنة مساء امس، و"ملتقى الموازنة 2026" في الرياض، ساعات قليلة خرجت منها رسائل اجتماعية واقتصادية تظهر أن الإنفاق موجه بعناية إلى الصحة والتعليم والخدمات، وبناء قاعدة إنتاجية غير نفطية قادرة على توليد الوظائف واستيعاب الصدمات العالمية.

ولي العهد السعودي، رئيس مجلس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان، وضع العنوان الأبرز للمرحلة المقبلة عندما أكد أن "مصلحة المواطن في صدارة أولويات الحكومة"، رابطا بين إقرار الموازنة الجديدة وما تحقق منذ إطلاق "رؤية 2030" من تحول هيكلي في الاقتصاد السعودي؛ مشيرا إلى تحسن معدلات نمو الأنشطة غير النفطية، واحتواء التضخم عند مستويات متدنية، مع تطوير بيئة الأعمال وتعزيز دور القطاع الخاص ليصبح شريكا أساسيا في التنمية.

وأكد ولي العهد أن موازنة 2026 تعكس عزم الحكومة على تعزيز متانة الاقتصاد المحلي ومرونته، بما يمكنه من تجاوز تقلبات الاقتصاد العالمي مع الحفاظ على زخم التنمية المستدامة، وذلك عبر سياسات مالية واقتصادية واجتماعية "مرنة ومنضبطة" تستند إلى تخطيط طويل المدى، واستخدام منهجي لأدوات التمويل السيادية وفق إستراتيجيا دين متوسطة المدى. مؤكدا استمرار صندوق الاستثمارات العامة في دعم مستهدفات "رؤية 2030" وتنمية القطاعات الإستراتيجية والواعدة، إلى جانب دور صندوق التنمية الوطني وصناديقه التابعة في استكمال دور الموازنة العامة في تحفيز النمو والتنويع الاقتصادي.

السر، هو توجيه الإنفاق إلى أنشطة اقتصادية وخدمات أساسية تمس المواطنين، لها أثر مباشر في الاستثمار والاستهلاك، وستواصل موازنة 2026 الإنفاق الإستراتيجي على المشاريع التنموية

وزير المالية محمد الجدعان

في الأرقام الأساسية، لم يطرأ تغيير على أرقام البيان التمهيدي الذي كانت نشرته وزارة المالية في سبتمبر/أيلول المنصرم. ويتوقع أن تصل الإيرادات الإجمالية في 2026، إلى نحو 1147 مليار ريال، أي نحو 305.87 مليارات دولار. بزيادة نسبتها 5.2 في المئة عن عام 2025، وذلك نتيجة لنجاح مبادرات تنويع الإيرادات غير النفطية، التي أصبحت تشكل رافدا أساسيا للموازنة.

واس
ولي العهد السعودي ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، في جلسة مجلس الوزراء المخصصة لإقرار الموازنة لعام 2026

وبقيت وتيرة الإنفاق مرتفعة لدفع عجلة النمو، على أن تبلغ النفقات 1313 مليار ريال، أي نحو 350.13  مليار دولار. ونتيجة لهذا التوازن في الأرقام، من المتوقع أن يتقلص العجز المالي في موازنة 2026، لينخفض من 245 مليار ريال متوقعة لعام 2025 (نحو 65 مليار دولار وبنسبة 5.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)، إلى 165 مليار ريال في عام 2026. هذا العجز، الذي يمثل نحو 44 مليار دولار، ويعادل نسبة 3.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع.

الجدعان: هدفنا توسيع الاقتصاد

وفي "ملتقى الموازنة 2026"، كشف وزير المالية محمد الجدعان عن تحول جوهري في السياسة المالية خلال السنوات الثماني الماضية، قائلا إن الحكومة تحركت "بجهد للعمل بعكس الدورة الاقتصادية". وأوضح أن التحدي الأبرز تاريخيا كان ارتباط الإنفاق الحكومي بأسعار النفط، فعندما ترتفع الأسعار يرتفع الإنفاق، وعندما يتراجع القطاع النفطي يتقلص الإنفاق، بما يقيد القدرة على التخطيط الطويل الأمد. وقال إن "الإنفاق يتزايد بطريقة مدروسة اليوم"، بحيث يتم تعزيزه عندما يتباطأ النمو لمساندة الاقتصاد، وتقليص وتيرة التوسع في فترات ارتفاع التضخم للحفاظ على استقراره.

وأشار الوزير الجدعان إلى أن القطاع النفطي نما سلبا خلال الفترة من 2016 إلى نهاية 2024 بمتوسط 0.5- في المئة، ولو استمر نمط الإنفاق القديم لما تمكنت المملكة من تحقيق متوسط نمو 5 في المئة في النشاطات غير النفطية خلال هذه الفترة. والسر، بحسب الجدعان، هو توجيه الإنفاق إلى أنشطة اقتصادية وخدمات أساسية تمس المواطنين، لها أثر مباشر في الاستثمار والاستهلاك. وأكد أن موازنة 2026 ستواصل الإنفاق الإستراتيجي على المشاريع التنموية وفق الإستراتيجيات القطاعية وبرامج "رؤية 2030"، مع الحفاظ على متانة المركز المالي للمملكة، ومستويات مستدامة من الدين العام واحتياطيات مالية معتبرة.

انخفض اعتماد الحراك الاقتصادي على النفط من 90 إلى 68 في المئة، ولا أتحدث هنا عن الإيرادات فقط، وإنما عن مصادر النمو

وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي فيصل الإبراهيم

وشدد الوزير الجدعان على أن "هدف الحكومة ليس زيادة الضرائب، بل زيادة حجم الاقتصاد"، مضيفاً أنه لا يقلق من مستوى الدين "ما دام العائد منه أعلى". وأشار إلى أن عدد المنشآت الصغيرة والمتوسطة تضاعف بنسبة 294 في المئة بين 2016 ومنتصف 2025، من 500 ألف منشأة إلى 1.65 مليون منشأة يملكها مواطنون، مما انعكس على نمو التوظيف والدخل والاستثمار المحلي.

الإبراهيم: النفط أداة للتنمية لا محركا وحيدا

وقدم وزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم الصورة الكبرى للتحول الاقتصادي، إذ أكد أن النمو التراكمي للاقتصاد غير النفطي تجاوز 30 في المئة منذ 2016، متفوقا على متوسط نمو الاقتصادات المتقدمة التي نمت بأقل من 20 في المئة في الفترة نفسها.

واس
وزير المالية السعودية محمد الجدعان، خلال المؤتمر الصحافي حول موازنة السعودية، الرياض 2 ديسمبر 2025

أوضح الإبراهيم أن 74 نشاطاً اقتصادياً في المملكة حققت نمواً سنوياً يفوق 5 في المئة خلال السنوات الخمس الماضية، بينها 37 نشاطاً تجاوزت نسبة 10 في المئة، من أصل 81 نشاطاً في القطاع غير النفطي. هذه الأرقام تعكس، برأيه، "العائد الحقيقي الكبير لرؤية 2030".

وأشار الوزير إلى أن اعتماد الحراك الاقتصادي على النفط انخفض من 90 في المئة إلى 68 في المئة، موضحاً "نحن لا نتحدث هنا عن الإيرادات فقط، وإنما عن مصادر النمو"، وهو ما أدى إلى ارتفاع مساهمة الأنشطة غير النفطية إلى 56 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في العام الماضي.

وينظر الإبراهيم إلى موازنة 2026 بوصفها "محطة في رحلة بعيدة المدى لتعزيز هيكل الاقتصاد"، متوقعاً أن ينمو القطاع غير النفطي في المرحلة القادمة بوتيرة تتراوح بين 4.5 في المئة و6 في المئة. معتبراً أن النفط "أداة للتنمية المستدامة في السعودية" يتم توظيفها بأفضل صورة، وليس المصدر الوحيد للنمو كما كان في السابق.

الصناعات العسكرية... توطين ومنظومة إنتاجية جديدة

لم يقتصر البعد الإنتاجي في الموازنة على القطاعات المدنية، إذ كشف محافظ الهيئة العامة للصناعات العسكرية، المهندس أحمد العوهلي، عن أن 344 شركة محلية سعودية تعمل اليوم في الصناعات العسكرية، في مؤشر على صعود قطاع جديد عالي التقنية.

ارتفع توطين الصناعات العسكرية المحلي إلى 40 في المئة من إنفاق السعودية العسكري، مع استحداث 140 قدرة صناعية 

محافظ الهيئة العامة للصناعات العسكرية، المهندس أحمد العوهلي

وأوضح العوهلي خلال استعراض قصة نجاح مشروع "توطين الصناعات العسكرية" في الملتقى، أن المحتوى المحلي ارتفع إلى 40 في المئة من إنفاق السعودية العسكري، مع استحداث 140 قدرة صناعية وتوفير حوافز وسلاسل إمداد تشجع المستثمرين المحليين والدوليين على الدخول في هذا القطاع.

وأشار إلى مضاعفة الإنفاق في الصناعات العسكرية بنسبة 4 في المئة خلال 2024، داعيا المستثمرين إلى استغلال الفرص المتاحة لتعزيز دور الموازنة في خلق صناعات نوعية، ونقل التكنولوجيا، وفتح مسارات عمل جديدة للشباب السعودي في مجالات هندسية وتقنية متقدمة.

2.5 مليون سعودي في القطاع الخاص

من زاوية اجتماعية وإنسانية، أضاء وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية أحمد الراجحي على تحولات سوق العمل السعودي، معلنا أن عدد السعوديين العاملين في القطاع الخاص ارتفع إلى 2.5 مليون مواطن مقارنة بنحو 1.7 مليون في عام 2020، ليصل السعوديون اليوم إلى 53 في المئة من العاملين في القطاع الخاص. كما أشار الراجحي إلى أن مشاركة المرأة السعودية في سوق العمل قفزت إلى 35.4 في المئة، في تحول اجتماعي واقتصادي لافت يعكس أثر الإصلاحات في تمكين المرأة وفتح مجالات جديدة أمامها في القطاعات الحكومية والخاصة.

الصحة أولا… خفض وفيات الحوادث

وربط وزير الصحة السعودي، فهد الجلاجل، بين "رؤية 2030" والموازنة الجديدة، موضحا أن "هدفنا الأساسي منذ إطلاق الرؤية هو المواطن السعودي". كاشفا عن تنفيذ مبادرات لدعم القطاع الصحي والتجمعات الصحية في المملكة، مع تحقيق إنجاز لافت في خفض الوفيات الناتجة من حوادث الطرق بنسبة 60% مقارنة مع عام 2016، مما يعكس تحسنا في منظومة الرعاية الصحية والوقاية والسلامة المرورية.

واس
أعمال ملتقى الموازمة العامة السعودية للعام المالي 2026، في الرياض، 2 ديسمبر 2025

وتتضمن خطط القطاع الصحي ضمن موازنة 2026 إنشاء 6 مستشفيات جديدة بسعة 1100 سرير في مناطق مختلفة بينها حائل وخميس مشيط، إلى جانب تشغيل وصيانة 750 جهاز غسيل كلوي حديثا، بما يوسع مظلة الخدمات المتخصصة، ويخفف أعباء المرض عن المواطنين في مختلف المناطق.

السياحة... هدف الـ 150 مليون

ولفتت نائبة وزير السياحة في السعودية الأميرة هيفاء بنت محمد آل سعود، ان سقف الطموحات لجذب السياح ارتفع حيث صار المستهدف لعام 2030 رقم 150 مليون سائح، وذلك بعدما وصل عدد السياح في العام 2024، إلى 116 مليون سائح من الداخل والخارج.

ما بين خطوط الموازنة، تتبلور معادلة تحاول جعل المواطن أكثر تمكينا وحماية، ضمن اقتصاد أكثر تنوعا ومناعة، فالإنفاق لم يعد أسير الدورة النفطية، والوظيفة لم تعد حكرا على القطاع الحكومي

وأضافت الأميرة هيفاء في ملتقى الموازنة السعودية، أن حجم الإنفاق السياحي تجاوز 275 مليار ريال، مما يؤكد نجاح القطاع ضمن خطط التنويع الاقتصادي.

الرياضة... زيادة ضخمة ووظائف

قال نائب وزير الرياضة السعودي، بدر القاضي، إن 70 في المئة من الفعاليات الرياضية في المملكة تنفذ من خلال شركات سعودية، مشيرا إلى توفير 20 ألف وظيفة في جدة مرتبطة بسباقات "الفورمولا"، وارتفاع ارتفاع نسبة ممارسة الرياضة إلى 59 في المئة خلال العام الماضي، مقارنة بـ 13 في المئة في عام 2015. وأشار القاضي إلى زيادة عدد أندية التنس بنسبة 140 في المئة، ليرتفع العدد من 72 ناديا في 2019 إلى أكثر من 170 ناديا حاليا.

من الإسكان إلى الاقتصاد الرقمي والسياحة

توقعت الموازنة العامة لعام 2026 عجزا ماليا بقيمة 165 مليار ريال، أو نحو 3.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يقل عن 245 مليار ريال التي تقدرها الآن لهذا العام. وتجاوز الإنفاق المستوى المقدر في الموازنة بنحو أربعة بالمئة.

وكشف بيان الموازنة ووثائقها التفصيلية عن حزمة واسعة من المشاريع ذات الأثر المباشر على جودة الحياة:

- الإسكان والخدمات البلدية: ضخ 80 ألف وحدة وأرض مطورة بالشراكة مع مطورين محليين ودوليين، باستثمارات تقارب 70 مليار ريال، وخدمة أكثر من 100 ألف مستفيد من الدعم السكني، مع تخصيص 35% من القروض المدعومة لذوي الدخل المنخفض.

- العاصمة الرياض: زراعة 7.5 مليون شجرة لزيادة المساحات الخضراء إلى 9% ورفع نصيب الفرد إلى 28 مترا مربعا، بالاعتماد على مياه ري معالجة بالكامل، وتنفيذ المرحلة الأولى من المسار السابع لقطار الرياض وإضافة 500 كيلومتر من الطرق الجديدة.

- الطاقة والغاز: زيادة السعة الإنتاجية للغاز الطبيعي بنسبة 7%، واستبدال وتعظيم احتياطيات النفط والغاز بنسبة 100% من إنتاج 2025، وتعزيز السعة التخزينية لوقود الطائرات في مطار الملك سلمان الدولي.

- الصناعة: إضافة 3 مدن صناعية جديدة ليصل العدد إلى 42 مدينة، وخلق أكثر من 11 ألف وظيفة للكفاءات الوطنية، وتسجيل 2,286 منتجا جديدا، ورفع عدد الشركات المسجلة في برنامج "صنع في السعودية" إلى 3900 شركة.

- الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي: استهداف وصول حجم سوق الاتصالات والتقنية إلى 199 مليار ريال بحلول نهاية 2026، وإضافة شركتين "ملياريتين" جديدتين، وتعزيز موقع السعودية ضمن أفضل 17 دولة عالميا في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي، مع تدريب 20 ألف خبير في علم البيانات والذكاء الاصطناعي لتحقيق 70% من مستهدفات الرؤية في هذا المسار.

واس
صورة جوية للعاصمة السعودية الرياض

- السياحة والترفيه والرياضة: رفع الإنفاق السياحي إلى 351 مليار ريال في 2026، وزيادة عدد العاملين السعوديين في القطاع إلى 110 آلاف موظف، إلى جانب استضافة أكثر من 13 فعالية رياضية عالمية واستكمال تطوير الملاعب الكبرى لاستضافة البطولات الإقليمية والقارية.

- الحج والعمرة: استهداف أكثر من 20 مليون معتمر من الخارج في 2026، وإطلاق بطاقة "نسك" كهوية موحدة للمعتمرين، وتطوير المحطات واستيعاب الحشود لتقليل أزمنة التأخير في تقاطعات مكة المكرمة.

موازنة المواطن والاقتصاد الحديث

ما بين خطوط الموازنة، تتبلور معادلة تحاول جعل المواطن أكثر تمكينا وحماية، ضمن اقتصاد سعودي أكثر تنوعا ومناعة، فالإنفاق لم يعد أسير الدورة النفطية، والوظيفة لم تعد حكرا على القطاع الحكومي، والصناعة لم تعد مقتصرة على النفط والبتروكيماويات، بل تمتد إلى الصناعات العسكرية، والاقتصاد الرقمي، والسياحة، والخدمات المتقدمة.

وتبدو موازنة 2026 كأنها خطوة إضافية في طريق طويل نحو اقتصاد منتج، يستند إلى القدرات الإنسانية، ويستخدم النفط كأداة للتنمية، موازنة تحمل بعدا إنسانيا واضحا، وتسعى لأن يشعر المواطن، في حياته اليومية، بأن الأرقام الكبيرة تتحول خدمات، وفرصا وأمنا واستقرارا.

font change

مقالات ذات صلة