"معركة تلو أخرى" لبول توماس أندرسون... ترمب في كل مكان

ملحمة سينمائية تروي قصة أميركا المنقسمة دوما بين اتجاهات متناقضة

imdb
imdb
مشهد من فيلم "معركة تلو أخرى" 2025

"معركة تلو أخرى" لبول توماس أندرسون... ترمب في كل مكان

لا ذكر ولا إشارة مباشرة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب في فيلم بول توماس أندرسون، "معركة تلو أخرى"، إلا أن ظلاله، وكل ما يمثله، في السياسة والثقافة والاجتماع الأميركي، لا تخطئها العين. الفيلم الذي اقتبسه أندرسون بطريقة "غير لطيفة" (أي بكثير من التصرف)، كما صرّح أندرسون، عن رواية توماس بينشون "فاينلاند" (1990)، تمتد أحداثه لفترة عشرين سنة تقريبا، وإذا كان هناك جدال بين مشاهدي الفيلم حول الفترة المحددة لتلك الأحداث، سواء كانت تمتد بين ثمانينات القرن الماضي وبداية الألفية، أو بين التسعينات وزمن أوباما، أو حتى بين بداية الألفية وبداية رئاسة ترمب الأولى، فإن هذا غير جوهري: أميركا التي يصفها الفيلم، هي أميركا التي نعرفها على الأقل طوال القرن العشرين وإلى وقتنا هذا، حيث جيل جديد يسعى إلى التغيير – وغالبا ما يهزم - وحرس قديم يسعى إلى إبقاء الأمور على حالها، بل ودفع أجندته الخاصة قدما.

ترمب وتياره "حركة ماغا"، حاضران بقوة في الفيلم، ليس من خلال طرح مسألة الهجرة فحسب، بل من خلال بناء صورة المؤسسة السياسية الأميركية البيضاء، سواء تجلت في الجيش أو في النخب الاقتصادية والمالية، أو في ما يسميه الفيلم "نادي مغامري الكريسماس"، وهم يمثلون نخبة النخبة البيضاء الأميركية الساعية إلى الحفاظ على مكتسباتها التاريخية، والوصول إلى صورة تأسيسية مشتهاة عن أميركا مسيحية بيضاء طهرانية لا يخالطها عرق آخر.

كما يحضر ترمب وتياره، من خلال ضدهما، أي اليسار الراديكالي، فيصعب عدم عقد مقارنة بين الشباب الثائر في الفيلم وشباب الجامعات الأميركية الذي انتفض ضد حرب الإبادة الإسرائيلية ودعم الإدارة الأميركية لها، وإن كان هذا الشباب الثائر في الفيلم أقرب إلى "حركة الفهود السود" في الستينات، التي كانت تعدو إلى التغيير بقوة السلاح، مما إلى الشباب السلمي وحراكه المدني اليوم. إلا أن وجه الشبه هو في قوة الغضب والرفض التي يختزنها هؤلاء الشباب ضد المؤسسة السياسية المهيمنة.

وجوه أميركا المتناقضة

بدلا من المجموعة الثورية التي يصورها توماس بينشون في روايته، وهي مجموعة من الهيبيين الثائرين في الستينات على "المؤسسة الأميركية" الطامحين إلى النقاء والحرية المطلقة، وقد تخلت عنهم أحلامهم أو تخلوا هم عنها (أحداث الرواية تبدأ مع ولاية رونالد ريغان الثانية في 1984)، يختار أندرسون أن يبدأ شريطه هذا على الأرجح من حيث هزمت تلك المجموعة، أي في الثمانينات على الأرجح، مع مجموعة أخرى متخيلة من اليساريين الثوريين المختلطين عرقيا، يسمون أنفسهم "الفرنسيين الـ 75" (الأرجح إشارة إلى الثورة الفرنسية ومبادئها)، قضيتهم الرئيسة تحرير المهاجرين المكسيكيين المعتقلين في مراكز الهجرة الأميركية، مع قضايا أخرى تبرز بين وقت وآخر، مثل الحق في الإجهاض أو محاربة الرأسمالية متمثلة في البنوك الكبرى.

يصعب عدم عقد مقارنة بين الشباب الثائر في الفيلم وشباب الجامعات الأميركية الذي انتفض ضد حرب الإبادة الإسرائيلية ودعم الإدارة الأميركية لها

أميركا أندرسون، كما أميركا بينشون من قبل، كما أميركا فوكنر وشتاينبك وكرواك وموريسون، كما هي خلال الحرب الأهلية، وقبلها وبعدها، هي أميركا منقسمة على ذاتها بطريقة يصعب الشفاء منها. تكاد هذه تكون صفة لازمة للثقافة الأميركية. هي أميركا الحريات المدنية، وقمع الحريات في الوقت نفسه.

 أميركا الفرص بتحقيق الأحلام، وقتل الأحلام. أميركا الحدود المفتوحة، والتنكيل بمن يتجرأ على عبور تلك الحدود. أميركا التعدد العرقي، وأيديولوجيا "التفوق الأبيض". لعل النقطة الوحيدة التي تلتقي عندها "الأميركات" المنشطرة في فيلم أندرسون، هي أميركا العنفية المسلحة. اليسار الراديكالي ومثله اليمين المتطرف، يبدوان في الفيلم منغمسين في العنف المسلح، بما يذكر بالغرب الأميركي، حيث الاحتكام إلى السلاح هو عقيدة الطيب والشرير في آن واحد.

في أية حال، الشعور الحقيقي الذي يتولد خلال مشاهدة "معركة تلو أخرى"، هو أن أحداثه تجري الآن، في 2025، زمن ترمب، حيث تمتزج الطهرانية الدينية البيضاء بقوى المال الكبرى، بالتفوق التكنولوجي والعسكري، بالفضائح الجنسية، والأبرز من هذا كله فكرة أن الثقافة السياسية الأميركية تقوم على صراع لا ينتهي بين مختلف القوى والتيارات، صراع ينحو في النهاية إلى أن يكون دمويا، عندما يستوي القتل والإلغاء حلا وحيدا.

Photo by SAUL LOEB / AFP
دونالد ترمب خلال مراسم أداء اليمين لبول أتكينز في البيت الأبيض، ويظهر خلفه بورتريه لرونالد ريغان

 ينقلنا بول توماس أندرسون بين مراكز اعتقال المهاجرين، وأماكن اختبائهم السرية، وبين أماكن تجمع وتدرّب "الثوريين"، وصولا إلى الربع الأخير من الفيلم، حيث تتكثف الأحداث في ثلاث سيارات، في مطاردة تبدو بلا نهاية على طريق متعرج في مكان ما من الغرب الأميركي. هذا الفضاء الأميركي لا يزال يبدو أرضا بكرا، غير مستكشفة، على الرغم من أن المطاردة تجري على طريق سريع معبّد وحديث.

AFP
خيمة اعتصام مؤيدة لفلسطين في جامعة جورج واشنطن، واشنطن، مايو 2024

مثالية مهزومة وأداءت لا تنسى

جميع ممثلي "معركة تلو أخرى" تقريبا يتفوقون على أنفسهم، وفي مقدمهم الخماسي: ليوناردو دي كابريو (بوب فرغسون)، شون بن (الجنرال ستيفن لوكجو)، بنيسيو دل تورو (سرجيو كارلوس)، تيانا تايلور (بيرفيديا بيفرلي هيلز)، والشابة تشايز إنفنيتي (ويلا فرغسون). باستثناء دل تورو وإنفنيتي، فإن ما يجمع بين الشخصيات الثلاث الأخرى، هو صراعها الداخلي العنيف الذي يهدد بدمارها الذاتي.

imdb
ليوناردو دي كابريو في "معركة تلو أخرى" (2025)

دي كابريو في دور بوب فرغسون "ثوري" (أبيض)، دون عقيدة سياسية حقيقية، وظيفته الوحيدة إشعال المفرقعات لدى تنفيذ المجموعة عملية ما، يجد نفسه أبا، فيختار الأبوة أو العائلة على الثورة، وخلال سنوات اختبائه عن أعين "القانون"، يتحول إلى مدمن الكحول والمخدرات حتى تتآكل ذاكرته وينسى "كلمات السر" التي يفترض أن يتواصل بها مع أعضاء المجموعة في اللحظات الحاسمة.

هي أميركا الحريات المدنية، وقمع الحريات في الوقت نفسه. أميركا الفرص بتحقيق الأحلام، وقتل الأحلام. أميركا الحدود المفتوحة، والتنكيل بمن يتجرأ على عبور تلك الحدود. أميركا التعدد العرقي، وأيديولوجيا "التفوق الأبيض"

 شاهدنا دي كابريو في العديد من الشخصيات المركبة، خصوصا لدى عمله مع سكورسيزي، إلا أنه في هذا الفيلم ينتقل إلى مستوى آخر. مشاهده، وهو يجري من مكان إلى آخر مرتديا "الروب" المنزلي لا تكاد تنسى، ليس بسبب مشهديتها الفريدة فحسب، بل بسبب قدرة دي كابريو على تجسيد صراعات الشخصية الداخلية، من خلال ركضه شبه المعوّق (رغم أنه غير مصاب بأي إعاقة)، المحكوم مسبقا بالفشل في الوصول إلى أي وجهة، وكأن تلك اللحظات اليائسة تكثف كل هزائم ماضيه وعجزه عن الانتماء إلى حاضره.

imdb
لقطة من فيلم "معركة تلو أخرى" (2025)

تيانا تايلور في دور بيرفيديا بيفرلي هيلز، تبرع في تجسيد الشخصية القيادية الكاريزماتية، التي تريد تغيير العالم، وفي الوقت نفسه، تنطلق من أنانية مطلقة تجعلها تتخلى حتى عن ابنتها. ورغم أنها الأكثر تكرسا لفكرة الثورة، فإنها أول من يبيعها ويشي بأسماء المجموعة، في صفقة تمنحها حريتها، حين يلقى القبض عليها. بعيدا من البعد السياسي للشخصية، فإن تايلور تلمع فعليا، وعلى نحو تندر مشاهدته على الشاشة بهذه القوة، في تجسيد شخصية المناضلة النسوية التي لا تساوم على حريتها كامرأة. فهي ترفض أن تخضع لفكرة "بوب" عن العائلة، لأن ذلك سيكرس ذكوريته وسيطرته المتوهمة عليها، وفي الوقت نفسه تلعب لعبة السيطرة الأنثوية، خلال محاولتها استغلال رغبة الجنرال لوكجو (شون بن) بها. تايلور هي الأخرى شخصية مركبة، قوية وهشة، غيرية وأنانية، أم تمقت دور الأمومة، وعشيقة ترى أن "المرح" يكمن في السلاح وليس في الحب، وهو ما يكثفه مشهدها البديع وهي تطلق النار بجنون من بندقية آلية، بينما بطنها (في شهر حملها الأخير) يمتد أمامها.

imdb
شون بن وتيانا تايلور في "معركة تلو أخرى" (2025)

إلا أن الأداء التاريخي في الفيلم يبقى من نصيب شون بن، الذي يرجح ألا يتمكن أحد من منافسته عليه في جوائز الأوسكار العام المقبل. شون بن الذي بدا منكفئا خلال السنوات الأخيرة، غير طامح إلى مزيد من الأدوار الكبرى، يحقق العودة المثالية في هذا الفيلم، وينجح في تجسيد دور الجنرال الأميركي الأبيض العنصري المهووس والمتناقض. سبق شون بن إلى هذا الدور أو ما يقرب منه، عدد من كبار الممثلين، منهم سترلينغ هايدن في دور الجنرال جاك ريبر في فيلم "دكتور سترينجلف" (1969)، جورج س. سكوت في دور الجنرال باتون (فيلم باتون، 1970)، مارلون براندو في دور الجنرال كورتز في "القيامة الآن" (1979)، ر. لي إرمي في دور السرجنت هارتمان في "سترة معدنية كاملة" (1987)، جاك نيكلسون في دور الجنرال ناثان جيسوب في "بضعة رجال طيبين" (1992)، وغيرهم.

يحقق شون بن العودة المثالية في هذا الفيلم، وينجح في تجسيد دور الجنرال الأميركي الأبيض العنصري المهووس والمتناقض

كما شخصيتا بيرفيديا وبوب، المناقتضان له، فإن الصراعات الهائلة التي تعتمل في نفس الجنرال لوكجو، ينجح شون بن في ان يعكسها في صوته، وقسمات وجهه، ونظراته، والأهم والأبرز في مشيته المتصلبة كأي عسكري، إنما يمنحها شون بن سمة كاريكاتورية، تشبه عجز "بوب" عن المشي أو الركض بصورة سليمة، فيبدو الرجل مقيدا بشخصيته العسكرية وما هو متوقع منها، وفي الوقت نفسه عاجزا عن إخفاء ضعفه وهشاشته، فخورا بذاته، وفي الوقت نفسه خجلا منها إذ يقع في غواية وغرام امرأة سوداء، هو الذي يؤمن بالتفوق الأبيض، والنقاء الأبيض، ويطمح إلى الانضمام إلى نادي "مغامري الكريسمس" التي تضم الرجال البيض النافذين في أميركا، وليس هذا فحسب، بل يجلب إلى العالم فتاة "هجينة" من "عدوته" بيرفيديا، فلا يعود من حلّ أمامه لإنقاذ "نقائه" بسوى قتل تلك الفتاة التي تمثل الدليل القاطع على خطيئته التاريخية.

imdb
ليوناردو دي كابريو وبول توماس أندرسون في "معركة تلو أخرى" (2025)

المايسترو

غير أن المايسترو الحقيقي في "معركة تلو أخرى" يبقى بول توماس أندرسون. صاحب بعض العلامات السينمائية الكبرى خلال العقود القليلة الماضية، "بوغي نايتس" (1997) و"ماغنوليا" (1999)، و"سيكون هناك دم" (2007)، و"فانتوم ثريد" (2017)، يأبى إلا أن يكون راهنا، طازجا، حيويا، سواء في القضايا التي يطرحها، أو في أسلوبيته. الامران لا ينفصلان هنا. في "معركة تلو أخرى" يثبت أنه أحد المعلمين القلائل المتبقين في صناعة السينما على مستوى العالم. فتقديم شريط من ثلاث ساعات تقريبا، لا تكاد تتوقف فيه الحركة (بالمعنى الدرامي، وبمعنى "الأكشن" معا)، ويتمكن من الجمع بين الخفة، والمرح شبه الكوميدي، والمأسوية العالية المستترة، أمر لا ينجح فيه كثيرون كما ينجح أندرسون كل مرة تقريبا، أو على الأقل في أعماله الكبرى. ثمة في الفيلم ما يذكر – وإن اختلف الفيلمان في أوجه أخرى عدة -  برائعة فيليني "لا دولشي فيتا"، من حيث الديناميكية الداخلية والنفس السردي المتسارع، والذي يكشف في الوقت نفسه عن الخيوط السردية وعن ملامح الشخصيات وأعماقها، فضلا عن هندسة الصورة البديعة وتوظيفه العضوي للموسيقى التصويرية.

imdb
فريق فيلم "معركة تلو أخرى" (2025)

لعلّ أستاذية أندرسون، بوصفه مخرجا مؤلفا، تكمن هنا في حفاظه (تساعده في ذلك الموسيقى الجوهرية لجوني غرينوود الذي وضع الموسيقى التصويرية لـ"سيكون هناك دم" و"فانتوم ثريد" وعدد من الأعمال البارزة)، على إيقاع مشدود لا يسمح للخطاب السياسي أو الرسالة الثقافية بأن تثقله أو تبطئه. ما يريد الفيلم قوله لن يظهر في مشهد أو حوار واحد أو في جزء محدد من الفيلم. سوف يكون على المشاهد انتظار المشهد الأخير قبل البدء بالتفكير في معناه. جميع الشخصيات تأخذ مساحتها المقنعة، وتقول أو تفعل ما يكفي لإيصال المطلوب إيصاله.

لعلّ أستاذية أندرسون، بوصفه مخرجا مؤلفا، تكمن هنا في حفاظه على إيقاع مشدود لا يسمح للخطاب السياسي أو الرسالة الثقافية بأن تثقله أو تبطئه

جانب آخر من جوانب أستاذية أندرسون، يتمثل في قدرته على منح العوالم التي يقدمها، وبعضها أقرب إلى الفانتازيا والسوريالية، كما في معظم مشاهد الجنرال لوكجو أو مشاهد نادي "مغامري الكريسمس"، عمقا كافيا يدفع المشاهد إلى التشكيك ما إذا كانت حقيقية بالفعل، وهذا أمر لم نعد نرى السينما تفعله كثيرا في زمننا، حيث باتت غرابة الشخصيات أو غرابة كلامها وتصرفاتها، كأنما كافية لتقوم بذاتها، دونما حاجة إلى السياقات التي تجعلها قابلة للتصديق، أي تجعلها شخصيات من لحم ودم، لا من أفكار فحسب.

imdb
ليوناردو دي كابريو، بول توماس أندرسون، وبنيسيو ديل تورو في "معركة تلو أخرى" (2025)

في النهاية، يمكن وصف "معركة تلو أخرى" بأنه فيلم عصر التفوق الأبيض في أميركا، من نيكسون إلى ريغان، ومن بوش الأب والابن إلى دونالد ترمب. إلا أنه وعلى الرغم من سوداويته، يفتح نافذة للأمل من خلال الابنة الشابة ويلا، وهي تستعد لخوض مواجهة جديدة مع القوى التي فشل أهلها في مواجهتها.

font change