اقتصاد البيانات الحكومية... فرصة استثمارية استراتيجية

مليارات الدولارات مخزنة في السجلات الرقمية تصنع مستقبل المعرفة والأعمال

"المجلة"
"المجلة"

اقتصاد البيانات الحكومية... فرصة استثمارية استراتيجية

شهد العالم في السنوات الأخيرة، تحولا ملحوظا في مفهوم البيانات الحكومية، حيث انتقلت من كونها سجلات محفوظة في أرشيفات الإدارات إلى أصل اقتصادي واستراتيجي لتوليد أعمال وخدمات جديدة، والمساهمة في تحسين عمليات اتخاذ القرار، وتعزيز الشفافية في العمل الحكومي.

في العالم العربي، بدأت بعض الحكومات وخصوصا في دول الخليج وشمال أفريقيا في فتح قواعد بياناتها، مثل إحصاءات السكان وبيانات النقل والعقارات، لكن هذه الخطوات لا تزال في مراحلها الأولى، وثمة فرص كبيرة للاستفادة الاقتصادية من هذه البيانات. يسجَّل تقدم ملموس في بعض الدول العربية، فالمملكة العربية السعودية طورت منصتها الوطنية للبيانات، وحققت مراكز متقدمة في مؤشرات الانفتاح والغطاء المعلوماتي، كما أظهر تقرير جرد البيانات المفتوحة لعام 2024 (Open Data Inventory).

ومع اقتراب السوق من 8 مليارات دولار في حلول 2030، يتسارع التحول نحو اقتصاد معرفي يعتمد على البيانات في مختلف القطاعات. الشركات التي تستثمر اليوم في التحليلات، والذكاء الاصطناعي، ودمج البيانات، ستتصدر قيادة اقتصاد المستقبل في المملكة. باختصار، ثورة البيانات في السعودية قد بدأت بالفعل. هي ثورة ضخمة، سريعة، ومربحة، والشركات التي تغتنم الفرصة اليوم ستكون قائدة الاقتصاد الرقمي في الغد.

ثورة البيانات في السعودية قد بدأت بالفعل. هي ثورة ضخمة، سريعة، ومربحة، والشركات التي تغتنم الفرصة اليوم ستكون قائدة الاقتصاد الرقمي في الغد

وتمتلك الإمارات العربية المتحدة، بوابة "بيانات" الحكومية المركزية التي توفر مجموعات بيانات اقتصادية واجتماعية متنوعة. وفي مصر، هناك قوائم مركزية لنشرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يستخدمها بكثافة الباحثون والقطاع الخاص.

أ.ف.ب.
جناح شركة " هيوماين"، خلال فعاليات مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض 29 أكتوبر 2025

وتشكل هذه البوابات الأساس، لكنها تمثل البداية فقط. يحتاج تحويل البيانات المفتوحة إلى قيمة اقتصادية إلى أدوات تحليل متقدمة، وبنية تحتية سحابية، ومعايير جودة وقياسات واضحة لقيمة البيانات، بالإضافة إلى وجود سوق نشطة للخدمات المبنية عليها. وتؤكد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ضرورة وجود أطر منهجية وسياسات داعمة لقياس القيمة الاقتصادية للبيانات ومقارنتها بين الاقتصادات المختلفة.

أين تولّد البيانات قيمة؟

لكن أين تولد البيانات الحكومية قيمة فعلية؟ هنا بعض النماذج:

1- خدمات الأعمال والتحليلات: ظهور شبكات ناشئة تتوقع الطلب العقاري، وتحلل حركة الزوار في المدن السياحية، أو توفر منصات تساعد المستثمرين الأجانب في تقييم الفرص اعتماداً على بيانات رسمية حول الوظائف والإنفاق.

2- ابتكار حكومي وفعالية الخدمات: تحسين توزيع الموارد الصحية أو تطوير خطط النقل العام استنادا إلى بيانات دقيقة بدلا من الافتراضات التقليدية.

3- شركات تكنولوجيا صغيرة ومتوسطة: ارتفاع قيمة هذه الشركات عندما تبني منتجات تعتمد على بيانات حكومية، مثل الخرائط، والمؤشرات، وبيانات الطقس، وسجلات التجار.

4- سوق التعاقدات والشفافية: نشر بيانات المناقصات والعقود يساهم في تقليل الفساد وتحفيز المنافسة، مما يوفر موارد مالية للدولة على المدى المتوسط.

إن جعل بيانات القطاع العام مفتوحة يولّد قيمة اقتصادية أكبر من بيع البيانات، بمقدار يصل تقريبا إلى 0.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنويا

معهد البيانات المفتوحة في المملكة المتحدة

وقد أظهرت الدراسات الأوروبية ومنظمات دولية متخصصة أن النشر المنهجي للبيانات يسهم في نمو قطاعات وخدمات جديدة، ويرفع كفاءة الإنفاق العام.

نماذج من السعودية والإمارات ومصر

في السعودية، توجد منصة وطنية موحدة للبيانات الحكومية تُعد جزءا من استراتيجيا أوسع للبيانات والذكاء الاصطناعي، مع تحسن ملحوظ في تقارير الانفتاح. في الإمارات، توفر بوابات وزارة الاقتصاد ووزارات أخرى إحصاءات اقتصادية ومؤشرات استثمارية للمستخدمين العامين والمطورين. وفي مصر، يوجد فهرس مركزي لبيانات التعداد والإحصاءات يستخدمه الباحثون وصناع القرار، مع أمثلة تطبيقية في حقلي الصحة والنقل.

المجلة

تبرز هذه الأمثلة وجود بنية أساسية متقدمة، لكنها في حاجة إلى تحسين جودة البيانات وضمان موثوقيتها، بالإضافة إلى بناء منظومة تشجع على الاستخدام التجاري والمنهجي لهذه البيانات.

تحويل البيانات المفتوحة إلى قيمة مادية

خلصت دراسة لمعهد البيانات المفتوحة (Open Data Institute) في المملكة المتحدة إلى أن جعل بيانات القطاع العام مفتوحة يولّد قيمة اقتصادية أكبر من بيع البيانات، بمقدار يصل تقريبا إلى 0.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنويا عندما تتاح أصول البيانات الرئيسة كمورد مفتوح بدلا من تحصيل رسوم عليها. هذا الرقم يُستخدم كمؤشر عام لقدرة البيانات المفتوحة على زيادة النشاط الاقتصادي.

ويناقش البنك الدولي بأن الفوائد تختلف بين الدول اعتمادا على جودة البيانات وبنى المؤسسات: بلدان ذات مؤسسات أقوى ونظم بيانات متقدمة قادرة على تحويل النشر إلى شركات وخدمات فعلية، بينما البلدان الأخرى تحقق فوائد أصغر ما لم تعالج مشاكل الجودة والوصول. وتشير تقارير البنك إلى أن الشركات الصغيرة والمتوسطة في اقتصادات نامية وجدت في البيانات الحكومية مصدرا مهما لتطوير منتجات في قطاعات النقل، العقار، والزراعة.

في عام 2024، قفز الاقتصاد الرقمي السعودية ليصل إلى نحو 132 مليار دولار، مما يمثل نسبة 15 في المئة من الناتج.ما يظهر حجم الطلب المتزايد في السوق على الخدمات الرقمية

توضح أمثلة إقليمية جانبا من ذلك: الإمارات أدرجت منصاتها الوطنية (Bayanat وUAE Numbers) كجزء من سياسات دعم ريادة الأعمال الرقمية، فيما سجّلت السعودية تحسنا ملحوظا في تقارير الانفتاح الدولي مما جعل مجموعاتها تستخدم كمدخل لمشروعات استثمارية وتحليلات سوقية محلية. هاتان المنصتان تعتبران بنية أساسية تمكّن شركات التحليلات ومنصات الخدمات من تحويل ملفات تخزين المعلومات على شكل جداول (CSV) وواجهات برمجة التطبيقات (API) الحكومية إلى منتجات تجارية.

تحول البيانات الحكومية إلى قيمة تجارية

وبتسليط الضوء على المملكة العربية السعودية سنجد تطورا ملحوظا في الاستفادة العملية من البيانات الحكومية المفتوحة، حيث تظهر مؤشرات واضحة على تحويل هذه البيانات إلى قيمة تجارية مباشرة وغير مباشرة. فقد تجاوزت المملكة كونها لاعبا في مجال اقتصاد البيانات، لتتصدر المشهد بقوة.

ففي عام 2024، قفز الاقتصاد الرقمي للمملكة ليصل إلى 495 مليار ريال (نحو 132 مليار دولار)، مما يمثل نسبة 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. هذا الرقم الكبير يبرز حجم الطلب المتزايد في السوق السعودية على الخدمات الرقمية، والاعتماد المتنامي على الذكاء الاصطناعي المستند إلى البيانات.

رويترز
شعار شركة انفيديا، 25 أغسطس 2025

فقد ساهمت بنية البنك الوطني للبيانات (National Data Bank) والبوابات الرقمية الحكومية في توفير مجموعات ضخمة وواجهات برمجية متقدمة، تستفيد منها الجهات الحكومية والقطاع الخاص لبناء منتجات رقمية مبتكرة.

بالأرقام نمو متسارع لاقتصاد البيانات

تبرز سوق التحليلات كمحرك رئيس لهذا النمو، حيث بلغت قيمتها نحو 2.23 مليار دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن تقفز إلى 5.72 مليارات دولار بحلول 2030، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 16.1%، وهو معدل مرتفع في قطاع بهذا الحجم.

أما سوق البيانات الضخمة، فتمثل نقطة التحول الحقيقية، إذ حققت 0.31 مليار دولار في 2023، وتتجه للارتفاع إلى 2.23 مليار دولار في 2030، أي نمو بمقدار 7.2 مرة خلال سبع سنوات فقط، وبمعدل نمو سنوي 32.6 في المئة، لتكون بذلك من أسرع القطاعات نموا في الاقتصاد السعودي.

إقرأ أيضا: احتدام الحرب العالمية لصناعة الرقائق الإلكترونية

هذه الأرقام تعكس طفرة حقيقية في الأرباح، اذ أصبحت الشركات قادرة على تحويل البيانات الحكومية إلى مصدر دخل مستدام. وتلعب الشركات التقنية الوطنية مثل "Elm" دورا رائدا في هذا التحول من خلال توظيف عقود التحول الرقمي وتطوير حلول قائمة على البيانات، ما انعكس إيجابا على إيراداتها الملموسة، إذ بلغت إيرادات "Elm" نحو 1.88 مليار ريال في الربع الأول من عام 2025، مع نمو ملحوظ في قسم "الأعمال الرقمية" المعتمد على بيانات وتحليلات حكومية. وتتبنى "Elm" استراتيجيا توسع قائمة على الاستحواذ على شركات خدمات حكومية لتعزيز محفظة منتجاتها الرقمية القائمة على البيانات.  

تعكس هذه الأرقام الضخمة وجود "رأسمال بيانات" متوافر للقطاع الخاص، وقابل للتحويل إلى منتجات رقمية متنوعة مثل التحليلات، الخرائط، الدراسات السوقية، والتطبيقات المتخصصة

تساهم أيضا شركات الاتصالات ومزودو الخدمات الرقمية مثل"Solutions by STC" في تحقيق مداخيل ضخمة عبر تقديم حلول البيانات والتحليلات والبنى التحتية الرقمية التي تدعم مشاريع حكومية كبرى، حيث أظهرت تقارير الشركات تحقيق إيرادات سنوية بمليارات الريالات في السنوات المنصرمة. 

أما على مستوى القطاع الخاص، فقد شهد "قطاع التقنية العقارية" (PropTech) نموا سريعا، مستفيدا من بيانات السجل العقاري وواجهات البيانات الحكومية. وتقدر السوق أن هذا القطاع في المملكة تصل قيمته إلى مئات الملايين وحتى مليار دولار، حسب فئات المنتجات، حيث تُستخدم بيانات الجهات الحكومية في تطوير منتجات التقييم التلقائي للأسعار، وإعداد التقارير الاستثمارية، وتقديم خدمات لوجستية عقارية. ومن الأمثلة العملية على ذلك، إطلاق أدوات تقدير أسعار عقارية مدعومة بالذكاء الاصطناعي من قبل شركات سعودية اعتمدت على مصادر بيانات رسمية ومشتركة.

ماذا يعني رأسمال البيانات؟ 

تعكس هذه الأرقام الضخمة وجود "رأسمال بيانات" متوفر للقطاع الخاص، وقابل للتحويل إلى منتجات رقمية متنوعة مثل التحليلات، الخرائط، الدراسات السوقية، والتطبيقات المتخصصة.

تحسن ترتيب السعودية في المؤشرات الدولية، مثل تقرير "Open Data Watch" لعام 2025، اذ صعدت المملكة إلى المرتبة 41 عالميا من بين 197 دولة، مصحوبا بتحسن ملحوظ في "درجة التغطية" و"سهولة الوصول إلى البيانات"، يدل على تهيئة بيئة داعمة للمطورين والشركات. كلما زادت التغطية وسهولة الوصول، ارتفعت فرص تطوير تطبيقات وخدمات تجارية تحقق عائدا اقتصاديا غير مباشر، من خلال استثمارات جديدة أو نمو الشركات الناشئة.

أ.ف.ب.
من القمة العالمية للذكاء الاصطناعي، في الرياض 20 أكتوبر 2020

تنوع البيانات المتاحة (اقتصاد، صحة، جغرافيا، مواطنين، خدمات...) يفتح السوق أمام إطلاق منتجات متنوعة مثل تطبيقات المدن الذكية، التحليل العقاري، الخدمات اللوجستية، الدراسات الاستثمارية وغيرها، وهو ما يشكل الأساس لنمو اقتصاد البيانات في المملكة.

من بوابة بيانات إلى سلعة وطنية اقتصادية

ليست البيانات الحكومية المفتوحة غاية تقنية بحتة، بل هي ركيزة أساسية لبناء اقتصاد معرفي جديد في العالم العربي. ما تحقق حتى الآن من منصات وبوابات، يمثل بنية تحتية أولية، لكن الربط الفعلي بين هذه البيانات وبين سوق نشطة قادرة على الاستثمار فيها وبناء وظائف جديدة، لا يزال في حاجة إلى سياسات واضحة، واستثمار في المهارات، وتعاون حقيقي بين القطاعين العام والخاص. نجاح هذه الجهود سيعيد توزيع فرص النمو ويجعل من المعلومات سلعة وطنية تدعم التنوع الاقتصادي في المنطقة.

font change

مقالات ذات صلة