صراعات على مناطق سيطرة "العمال الكردستاني" في العراق

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مقاتل من "حزب العمال الكردستاني" اثناء مراسم في منطقة قنديل شمال العراق، حيث أعلن الحزب انسحابه الكامل من تركيا، في 26 أكتوبر 2025.

صراعات على مناطق سيطرة "العمال الكردستاني" في العراق

في أول خطوة ميدانية ضمن سياق "عملية السلام" بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني"، أعلن الأخير سحب مقاتليه من "منطقة الزاب" في إقليم كردستان، الواقعة شمال شرقي محافظة دهوك، وتاليا إنهاء المواجهات العسكرية في واحدة من أكثر المواضع سخونة في الحرب بين الطرفين، وبعد سنوات من الاشتباكات شبه اليومية، التي أوقعت مئات الضحايا، وأجبرت سكان مئات القرى والبلدات للنزوح منها إلى باقي مناطق الإقليم، وتسببت في دمار واسع للبيئة والبنى التحتية والخدمية.

الخطوة تفتح ملفا شديد التعقيد، يتمثل في المستقبل السياسي والأمني والاقتصادي لخمس بقاع جغرافية واسعة يسيطر عليها مقاتلو "حزب العمال الكردستاني" منذ عقود، ضمن إقليم كردستان ومناطق الحكومة الاتحادية العراقية. فإلى جانب "منطقة الزاب" هذه، يسيطر مقاتلو "الكردستاني" على منطقة جبال قنديل في المثلث الحدودي مع تركيا وإيران، وأيضا على مناطق جبال برادوست، شمال شرقي محافظة أربيل، بالقرب من ناحية سيدكان. كذلك تسيطر وحدات مرتبطة به على قضاء سنجار شمال غربي محافظة نينوى الموصل، وأيضا على مخيم اللاجئين الأكراد الأتراك في قضاء مخمور جنوب محافظة أربيل.

نهاية مرحلة العنف

زارت "المجلة" الكثير من القرى في المنطقة التي أعلن "الكردستاني" سحب مقاتليه منها، والتقت بمن بقي من سكانها القليلين، الذين أكدوا وجود هدوء استثنائي في كامل مناطقهم منذ عدة أسابيع، فيما أبدوا عدم معرفتهم بالجهة التي توجه إليها الآلاف من مقاتلي "الكردستاني"، نافين أن يكونوا قد شاهدوا أية إجراءات غير اعتيادية، بما في ذلك إخلاء القواعد العسكرية ومراكز سيطرة الجيش التركي.

المنطقة المذكورة تقع ضمن محافظة دهوك، وتمتد على شكل مستطيل بين مدينتي شلادزي شرقا وباتيفا وغربا، وصولا إلى الحدود التركية في الشمال، بطول يمتد لقرابة 90 كيلومترا وعرضا يتراوح بين 20-40 كيلومترا، تتمركز حول سلاسل "جبال كارى" العصية للغاية. فالجيش التركي حاول طوال ثلاثة عقود ونصف السيطرة على تلك الجغرافيا أولا، عبر سلسلة من عمليات القصف والتوغلات العسكرية البرية الميدانية، لينطلق منها إلى باقي السلاسل الجبلية، وصولا لجبال قنديل، حيث البنية المركزية والقيادة العسكرية لـ"العمال الكردستاني" وقادته الرئيسين. لكنه لم يتمكن من فعل ذلك، بالذات بعد اتخاذ مقاتلي "الكردستاني" استراتيجية المجموعات الصغيرة المتنقلة، التي شنت سلسلة من الهجمات على نقاط تمركز الجيش التركي طوال السنوات الماضية.

حسب فريق "منظمة صانعي السلام" (CPT) الأميركية/الكردية، فإن مجموع القواعد العسكرية ونقاط السيطرة التركية بلغت 139 موقعا في مختلف المناطق، هاجمت وخاضت خلال العام الماضي فحسب أكثر من خمسة آلاف مواجهة مع مقاتلي الكردستاني، لكن الاستعصاء الجغرافي وقدرة "الكردستاني" على تأسيس بنية حصينة ومعقدة في الجبال، منعت الجيش التركي من تحقيق أهدافه.

المنطقة التي هي مسار لعبور البضائع المهربة بين البلدان الثلاثة، وستحتاج أيضا لتوافق لتضبط مسارات العبور. لكن تركيا ستطالب بأن يكون لها حضور مستدام في تلك المنطقة، حتى تبقى مطمئنة لعدم عودة أي تنظيم مسلح

مصدر سياسي في إقليم كردستان نفى في حديث مع "المجلة" أن يكون مقاتلو "الكردستاني" المنسحبين قد عبروا من مناطق سيطرة سلطات الإقليم إلى باقي مناطق سيطرة "العمال الكردستاني"، مردفا: "ثمة ممرات جبلية عصية بين مختلف مناطق انتشار مقاتلي (الكردستاني)، وتاليا يمكن لهم التنقل حسبما يرتؤون. المهم بالنسبة للإقليم أمران فحسب: أن تصبح كافة مناطقه خالية من أي وجود عسكري أجنبي، سواء مقاتلي (الكردستاني) أو الجيش التركي، بُغية أن يُسمح لمواطنينا بممارسة حياتهم العادية ولحكومتنا تنفيذ خططها التنموية والخدمية. الأمر الآخر أن نكون وسطاء إيجابيين بين الطرفين، بغية إنهاء مرحلة العنف، فتركيا دولة جارة للإقليم، والمسألة الكردية داخلها تمس المصالح والأمن القومي لإقليم كردستان".

جغرافيات معقدة

في حديث إلى "المجلة" يشرح الباحث المختص في الشؤون الأمنية لدى مركز الفرات للدراسات وليد جليلي تفاصيل الحساسيات من المناطق المُسيطر عليها من "العمال الكردستاني" ضمن العراق، والحسابات التي يتخذها كل طرف بشأنها، متوقعا حصول "مزاحمات" سياسية وأمنية بشأنها، سواء كردية أو داخلية عراقية، أو حتى إقليمية. لأنها حسب رأيه بيئات شديدة الخصوصية، أسست وراكمت خصوصيات أمنية وسياسية وشبكات من العلاقات مع البيئات المحلية في تلك المناطق، أو مع ما يحيط بها من جغرافيات أهلية وسياسية.

أ.ف.ب
صورة لزعيم "حزب العمال الكردستاني" السجين، عبد الله أوجلان، خلال حفلٍ أُقيم في منطقة قنديل شمال العراق، حيث أعلن الحزب انسحابه الكامل من تركيا، في 26 أكتوبر 2025

يضيف الباحث جليلي قائلا: "لو أخذنا المناطق الجبلية في محافظتي دهوك وأربيل، في المنطقة الممتدة بين جبلي برادوست وكارى، فإنها تشغل مساحة تتجاوز ثلثي محافظة كاملة، وتاليا حينما تُستعاد سياديا إلى سلطة إقليم كردستان، فإنها ستكون بمثابة دفعة قوية لحكومة الإقليم، بالذات (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، صاحب النفوذ الرئيس في هاتين المحافظتين. بالإضافة إلى ذلك، فإنها المنطقة التي ستسيطر على الحدود مع تركيا بشكل كامل، وتاليا (صمام الأمان) لنهاية الصراع العابر للحدود بين البلدين، والذي كان مصدرا لـ(شرعية) كل التدخلات التركية والصراعات التي حدثت طوال عقود. منذ الآن نسمع أصواتا متقطعة من بغداد، تطالب بأن يكون ثمة اتفاق ثنائي بين العراق وتركيا، يسمح للجيش العراقي والقوى الأمنية المركزية بالسيطرة على المنطقة التي سُتخلى، بعد مغادرة مقاتلي (الكردستاني) والجيش التركي، لما يقولون إنه ضمانة لتركيا، وما يعتقدون أنه حق طبيعي للسلطة المركزية. لكنه أمر لن يكون محل مقبولية من قِبل إقليم كردستان، الذي يؤكد على تابعية تلك الجغرافيا لـ(السيادة) الفيدرالية للإقليم.

طبعا لا يتعارض ذلك مع قبول الإقليم بوجود ألوية من حرس الحدود التابع للجيش العراقي، لحراسة ومراقبة النقاط الحدودية بين البلدين، لكن أيضا وفق الأعراف والسياقات الدستورية التي تنظم ذلك، وتعتبر أن عناصر وأفراد ألوية الحرس يجب أن يكونوا من أبناء المحافظات الحدودية".

يتابع الباحث المختص شرحه لباقي المناطق حسب تلك الآلية: "منطقة جبال قنديل هي الأكثر تعقيدا أمنيا. لأن البنية التحتية التي أسسها (الكردستاني) طوال عقود ستكون محل تنازع، بين تركيا والعراق وإيران. وأيضا لأن المثلث الحدودي المعقد بين الدول الثلاث سيحتاج لأن يكون ثمة توافق سياسي لرسمه وإعادة ضبط التدخلات الجغرافية فيما بين تلك الحدود. لكن الأهم طبيعة هذه المنطقة التي هي مسار لعبور البضائع المهربة بين البلدان الثلاثة، وستحتاج أيضا لتوافق لتضبط مسارات العبور. لكن تركيا ستطالب بأن يكون لها حضور مستدام في تلك المنطقة، حتى تبقى مطمئنة لعدم عودة أي تنظيم مسلح. فجبال قنديل كانت مركزا لمختلف الحركات المسلحة الكردية منذ أوائل الستينات، وتراه هذه الدول نموذجا قادرا على إغراء أي تيار سياسي مناهض لهذه الدول جذريا.

ثمة ملفان لاحقان لعملية إعادة تشكل المناطق التي سيخليها مقاتلو "الكردستاني" في المستقبل القريب. فآلاف القرى التي دُمرت وأخليت من سكانها ستحتاج إلى ميزانيات ضخمة لإعادة بنائها وتشجيع المهجرين منها للعودة إليها

أما قضاء سنجار شمال غربي محافظة نينوى (الموصل) فهو ملف سياسي أولا. فالاتفاق الذي وقعته حكومة كردستان مع نظيرتها في بغداد عام 2020 لم يُنفذ بسبب وجود "وحدات حماية سنجار" المقربة/التابعة لـ(العمال الكردستاني)، التي تسيطر على القضاء منذ سنوات، وتقول إنها تحظى بقبول من القواعد الاجتماعية من أبناء الديانة الإيزيدية، بعد تعرضها لإبادة رهيبة على يد تنظيم (داعش) الإرهابي.

فوق ذلك، فإن هذه الوحدات عراقية رسميا، والكثير من أعضاء تنظيماتها من المواطنين العراقيين/الإيزيديين، ستدعي امتلاكها لشرعية البقاء، على الأقل كما هي فصائل "الحشد الشعبي" المنتشرة في الكثير من المناطق المحيطة بالقضاء. لكن إيران ستصر على إبقاء نفوذها في ذلك القضاء، لأنه يشغل منطقة شديدة الحساسية والضرورة بالنسبة لها، لوقوعها على الحدود السورية والتركية، تساندها في ذلك فصائل (الحشد الشعبي) القريبة. الأمر نفسه ينطبق على مخيم مخمور، الذي تحول إلى نسيج اجتماعي عميق طوال عقود، وتفكيكه يحتاج إلى جهد إنساني وحقوقي وسياسي استثنائي، تسبقه إرادة سياسية من قِبل تركيا أولا، حتى لا تكون مصدرا لمأساة جديدة، تتحمل الجهات المنخرطة في العملية الحالية تبعاته".

أ.ف.ب
أحمد ملازغيرت، أحد كبار قادة "حزب العمال الكردستاني"، خلال مقابلة مع وكالة فرانس برس في شبكة كهوف تقع في جبال قنديل، ضمن سلسلة جبال زاغروس، بالقرب من الحدود العراقية الإيرانية التركية، في 29 نوفمبر 2025

البيئة والحقوق

ثمة ملفان لاحقان لعملية إعادة تشكل المناطق التي سيخليها مقاتلو "الكردستاني" في المستقبل القريب. فآلاف القرى التي دُمرت وأخليت من سكانها ستحتاج إلى ميزانيات ضخمة لإعادة بنائها وتشجيع المهجرين منها للعودة إليها. فالمناطق الجبلية هذه هي أكثر بيئات كردستان خصوبة وإنتاجا زراعيا ذات جودة عالية. الأمر نفسه يتعلق بالبنية التحتية المهدمة تماما. فآلاف المدارس والطرق والجسور يجب أن يُعاد تشييدها في هذه المناطق، وهي التي بقيت طوال عقود بعيدة عن المسارات التنموية التي تطورت في كردستان بشكل (انفجاري) خلال العقدين الماضيين. طبعا سيكون ذاك الجهد مطلوبا من الحكومة الاتحادية العراقية وتركيا نفسها، لأنها كانت طرفا في هذا الصراع، وشغلت هذه المناطق دون أية مسوغات قانونية وسياسية واضحة. وتحتاج البيئة إلى سنوات من العناية، فالعمليات العسكرية تسببت بعشرات الحرائق على الأقل، هذا غير استخدام أسلحة محظورة وشديدة الأذى على البيئة.

المسألة الأخرى تتعلق بالحقوق التي قد يطالب بها السكان المحليون. فالسلطات المحلية لا يُمكن لها أن تعترض على آلاف الدعاوى التي قد ترفع على مختلف الجهات، بالذات تركيا، التي تسببت عملياتها بقتل مئات المدنيين وإخلاء القرى، وتسببت بحجز حريات المواطنين وحقهم بالعودة إلى قراهم ومناطقهم.

font change