بهرام حاجو يفرش خرائط إنسانه في القاهرة

غرباء يفترشون اللوحة

بهرام حاجو أمام أحد أعماله

بهرام حاجو يفرش خرائط إنسانه في القاهرة

ليس من اليسير أن يحقق رسام مهاجر اختراقا على مستوى إثبات حضوره في المشهد الفني الأوروبي. فالمقاييس المنضبطة لا تغيب لحظة عن ذلك المشهد وكل شيء محسوب ومعد سلفا، من النقد الفني حتى السوق المحكومة بآليات ليس للمصادفة تأثير عليها.

غير أن السوري بهرام حاجو الذي يقيم معرضا جديدا له في "غاليري مصر" بالقاهرة كان استثناء حين نجح في اللحاق بمواطنه مروان قصاب باشي الذي سبقه إلى ألمانيا واستطاع أن يقف بجدارة بين كبار الرسامين الالمان بل ويكون معلما يشار إليه بقدر عال من التقدير.

غريب يرسم الغرباء

رسوم حاجو تثني على معاناته الإنسانية ولا تخفيها. وهي بالنسبة له معاناة مزدوجة، إنسانا وفنانا، وفي الحالين فإن هناك شعورا عميقا بالفقد والحرمان والضياع تقابله رغبة في اختراق المجهول والوصول إلى هدف، ليس في الإمكان تسميته. لا لأنه لا يُرى بل وأيضا لأنه يقع في منطقة محرمة. وهو ما يعني أن في إمكان الرسم أن يحقق نوعا من التوازن في حياة المهاجر الذي يرتجل شخصيته مع كل خطوة جديدة يلقيها على أرض منفاه.

يرسم حاجو الغرباء. لا يحتاج الغرباء إلى ملامح واضحة. إنسانيا هم ليسوا متشابهين، لكنهم من وجهة الآخر هم الشخص نفسه. الشخص الذي يتكرر. الشخص الذي يفترسه الحلم عينه وتقف وراءه الحكايات نفسها.

تلك الكائنات التي يرسمها عاشت معه ورافقته وتقاسمت معه ذكريات لا يزال وقعها يضرب في أعماقه

غريب يرسم غرباء. ألأنه يعرفهم؟ ذلك ليس صحيحا. فبهرام يرسم كائنات لا يعرفها وهو يصر على الاعتراف بأن كونه واحدا من ذلك الحشد، لا يعني بالضرورة أن في إمكانه أن يكشف عما يميز كل فرد منهم عن الفرد الآخر. ليس الرسم كشفا نفسيا.

أسلوب حاجو أقرب إلى التجريدية منها إلى التعبيرية التي عزف الرسام عنها بسبب طابعها الأدبي. في حقيقة رغبته في أن يجعل من حياته الشخصية مصدر الهام لرسومه، تكمن محاولته المتمردة والعنيدة في الحفاظ على الطابع البصري الذي يعجز التعبير الأدبي عن الحلول محله أو اختزاله.

لوحة لبهرام حاجو

ليس الوصف هدفه، على الرغم من أنه يرسم ما رآه. تلك الكائنات التي يرسمها، عاشت معه ورافقته وتقاسمت معه ذكريات لا يزال وقعها يضرب في أعماقه. لم يكن غرضه من الرسم أن يقول "كنت معهم" أو "أنني كنت هناك"، بل يمكن أن يكون الأمر أشبه باللغز "هل تراني بينهم؟" أو "أنهم لا يزالون يقيمون معي في أحلامي".

يرسم حاجو الغرباء الذين يحيطون به حتى بعد غيابهم.

رسام بهويات متآخية

ولد بهرام حاجو عام 1952. غادر سوريا وهو في العشرين، وكانت بغداد محطته الأولى. غير أنه لم يكمل دراسته في اكاديمية الفنون الجميلة هناك. انتقل إلى براغ ومن ثم إلى برلين ودرس علم الآثار في مونستر بالمانيا. بعدها درس الرسم في اكاديمية الفنون الجميلة في دوسلدورف.

اقام معرضه الشخصي الأول عام 1983 في المانيا. تلته معارض عديدة أقامها في المانيا والولايات المتحدة والمكسيك والمجر وسوريا وبريطانيا وأخيرا في مصر. وعام 2014 حصل حاجو على جائزة هنري ماتيس الفرنسية. 

سيقال دائما إن بهرام اسم على مسمى. فـ"بهرام" كلمة فارسية تسللت إلى اللغة الكردية ومعناها الموهبة أو الموهوب، وكان بهرام موهوبا منذ طفولته وهو ما أكسبه شهرة مبكرة في القامشلي، هناك حيث ولد وترعرع.

لم يكن غريبا أن يبدأ الفنان برسم الطبيعة، فقد تشكل الجزء الأساس من بنيته النفسية وسط طبيعة ساحرة، صار التعبير عنها هاجسا رافقه عبر سني احترافه الأولى. بعدها انتقل إلى عالم تعبيري كان هو الآخر غير منقطع الصلة بسنوات تكوينه الأولى في مجتمع كردي كانت له، اضافة إلى لغته وتقاليده وطقوسه وعاداته، معاناته الإنسانية العميقة المتعلقة بتواشج الجغرافيا بالتاريخ اللذين لم يكن الشعب الكردي حسن الحظ في العلاقة الشائكة معهما.

ما هو لافت في التكوين الثقافي للفنان، أن تلك التجربة الإنسانية العميقة تحولت إلى مصدر الهام فني له، من غير أن تعطل قدرته على الاتصال بالعالم، بل كان أفقه الإنساني دائما يتسع بحيث صارت هوياته تتناغم في ما بينها ليكون ذلك الانسجام هو الآخر مصدر الهام له.

لا يمكن تعريف بهرام بهوية واحدة، فهو كردي وسوري وعربي الثقافة وهو أيضا ألماني بعمق

لا يمكن تعريف بهرام بهوية واحدة، فهو كردي وسوري وعربي الثقافة وهو أيضا ألماني بعمق. فحاجو يقيم معارضه في مختلف انحاء العالم ومنها مدن عربية، غير أنه في الأساس يجد القيمة الحقيقية لما يفعل في ردود أفعال الوسط الثقافي الألماني.

الكائن في مواجهة العالم

يقول بهرام: "أرسم الإنسان عاريا من غير أي حماية أو وقاية سوى جلده وملامحه الجسدية. الفراغ الأبيض في اللوحة هو الضياع. ذلك هو انعكاس لشخصيتي ونفسيتي".

يقف الكائن في مواجهة العالم وفي الوقت نفسه يقف في مواجهة نفسه ليقول: "هذا أنا في تجلياتي التي تُظهر في المرآة علاقتي بحكايات الجمال والحب والخوف والعزلة والقلق والغموض والحرية".

لا يرسم حاجو من أجل استحضار تجربة ماضيه أو تذكر ما عاشه بل من أجل أن يعيش حياته الشخصية في الرسم. يعيش غربته وحريته وهما تتبادلان القوة وتتجاذبان. وهذا ما يسمح له بالظهور وسط كائناته المجهولة الهوية، التي يعرفها جيدا ويمكنه الحديث عنها كأنه استخرجها من خزانة ذاكرته. وهو لا يرسمها إلا لأنه يرغب في أن يتحرر من رفقتها التي تجلب له الكثير من الضنى والأسى.

عمل لبهرام حاجو

تلك كائنات من غير هوية وهو ما يعكس موقف حاجو من مفهوم الهوية التي عاش فصولها بطريقة شخصية ولكنها كائنات من غير عاطفة أيضا. ذلك ما يحول بينها وبين التعبير عما ترغب في التعبير عنه من معاناتها الإنسانية.

يحرص حاجو على أن يكون هناك شيء من الغموض يغلف به كائناته. فالعاطفة ليست هوية، كما أن الهوية يمكن تجريدها من العاطفة. في المسافة بين القوتين يقيم الرسام معادلته التي هي أساس عالمه الفني. وفي ذلك إنما يستند الرسام إلى سيرته الشخصية. لقد عثر على هويته في الرسم. إنه يرسم فهو موجود. ذلك ما أعانه على أن يكون صورة عن كل الكائنات التي رسمها. اما العاطفة فقد عرف كيف يحيّدها منذ الأيام الأولى لهجرته إلى أوروبا. العاطفة عدو. ذلك ما تقوله رسوم بهرام حاجو.

الرسام المتمرد في مرآته

"عندما أرسم نفسي في كل لوحة، أرسم تلك الحالة بعدما أصبحت عاريا تماما من الدفء والأمان والترابط الإنساني. فلا شيء يعوض ما فقدته"، ذلك ما يقوله بهرام حاجو في محاولة منه لوصف حالته وهو يرسم. إنه الآخر الذي يسعى إلى أن يكون حاضرا في ما يفعله الآخرون ممن يشاركهم ضياعهم ومحنتهم الوجودية.

الرسم ليس خطابا مباشرا بقدر ما هو كدح جمالي لا حدود للمناطق التي يتحرك فيها وهو يسعى إلى أن يصل الأمكنة بالأزمنة

لا يرغب في أن يقول ذلك الشيء الذي نرغب في سماعه. فالرسم ليس خطابا مباشرا بقدر ما هو كدح جمالي لا حدود للمناطق التي يتحرك فيها وهو يسعى إلى أن يصل الأمكنة بالأزمنة من خلال مزاج شخصي لا يمكن التحكم به بطريقة آلية. لا يمكننا في رسوم حاجو أن نقيس مدى الغضب والاحتجاج والنفور مقارنة بالرضا والتفاؤل والرأفة. ذلك ما لن يتمكن حاجو نفسه من توضيحه بعدما عرى كائناته من العاطفة.

من لوحات بهرام حاجو

غير أن ما هو ثابت، أن التمرد هو الشيء الوحيد الذي ورثه حاجو من تربيته الكردية الأولى ووجد له أرضا خصبة في الواقع الجديد الذي انتقل إليه وصار جزءا منه باعتباره رساما بأفق إنساني. وليس مصادفة أن يكون "الإنسان" هو عنوان معرضه الأخير.   

font change

مقالات ذات صلة