ياسر صافي والطبخ بأصباغ حارة

ترويض الحواس واستعادة الذاكرة

Manaf Azzam
Manaf Azzam
ياسر صافي

ياسر صافي والطبخ بأصباغ حارة

أشار إلى عدد من لوحاته وقال "من قديمي". أسعدتني تلك الجملة وهي تجدد ثقتي بصديقي الرسام السوري المقيم في برلين ياسر صافي فنانا طليعيا، يسبق أفكاره في كثير من الأحيان غير أنه يتأنى حين يتعلق الأمر بتفكيك عناصر المشاهد التي لا يُخفى عليه أن الجزء الأكبر منها يظل مطمورا تحت طبقات الصدام غير الواعي بين المرء وإرادته وبينه ولغته المصفاة من الشوائب. تلك الشوائب التي لا تستسلم بل تظل تتحين الفرص للهجوم إذا ما فُتحت أمامها ثغرة بالخطأ.

ففي قديمه الذي يعود إلى أكثر من عشر سنوات كان صافي المولود في القامشلي عام 1976 تعبيريا زاهدا. ما معنى ذلك والتعبيرية هي أقرب الأساليب الفنية الحديثة إلى الأدب؟ كونه حفارا (فنان غرافيك) فإنه يملك حذرا استثنائيا في مواجهة الأشكال الكاملة. هناك شعور دائم لديه بأن النقصان هو حقيقة الأشياء والكائنات التي تواجه مصائر صعبة.

وهي وحدها التي تستحق أن تكون موضوعا ملهما للرسم. لذلك فإنه واجه فوضى العالم والإنسان على حد سواء بلغة تقفز على السياقات الجاهزة لتصنع مسافتها التي تمكن الرسام من خلالها أن يخلق مسارا أسلوبيا جعله أقرب إلى المحاولة المفاهمية منه إلى التجريب المحلي.

لا يعتمد صافي لعبة الإظهار والإخفاء كما فعل آخرون بل لجأ إلى أسلوب تفكيك المشهد المرئي من خلال تعزيز مفرداته بجماليات حيرتها القلقة التي عُبّر عنها.

تتشظى المفردات كأنها تسعى وراء عزلاتها. لقد سببت تجارب ياسر صافي في ماضيه الكثير من الحرج لأبناء جيله الذين حاول بعضهم تقليده، لا لشيء إلا لأن الرسام الذي حقق نجاحا لافتا في زمن قياسي صارت رسومه مغرية بالنسبة لأصحاب القاعات والمقتنين. لقد لحق به سوء الفهم الذي هرب منه إلى ألمانيا.

ترويض الحواس

ترك ياسر صافي كل شيء وراءه. كل ما رأيته من أعماله في دمشق وبيروت لم يحمله في حقيبته التي لم يعد يضعها قرب الباب أملا في العودة. "لقد تغير العالم. علي أن أصدق ذلك حتى لو كذبت حواسي" يقول صافي وقد أثث مرسمه الثالث. في برلين هذه المرة بعد مرسمي دمشق وبيروت. يضيف "أنا تغيرت. لم تعد حواسي تطيعني. لقد فرت في اتجاه الماضي كأنها تخطط لإعادة تربيتي".

"تعلمت الطبخ من أجل ترويض حواسي" يقول صافي. كان ذلك سر اندفاعه في اتجاه تغيير طريقة نظرته إلى الرسم. يصلح الرسم أن يكون مراقبا عفويا لما يفعله الإنسان في حياته اليومية. أما إذا تعلق الأمر بالطبخ فإن هناك مزيجا من الأصوات والروائح والنكهات والأشكال يضع نفسه في خدمته. يطارد المرء من خلال الطبخ ما لا يراه، يسبح في عالم وهمي، وحين يكون الطعام لذيذا فإن ذلك ينطوي على وصف غامض.

يطارد المرء من خلال الطبخ ما لا يراه، يسبح في عالم وهمي، وحين يكون الطعام لذيذا فإن ذلك ينطوي على وصف غامض

لا معنى أن يكون الطعام لذيذا إذا كنا قادرين على الوصول إلى أسرار لذائذه بيسر. المسألة معقدة. ولكن هل يمكن رسم لذة الطعام لا صورته في الصحون؟ ذلك هو التحدي الذي وجد فيه ياسر صافي وسيلته في تصفية حساباته مع ذاكرته الحسية. تلك ذاكرة غنية بوصفات الأم وأدعيتها وجملها المنغمة الخارجة من قدور الطبخ.

من أعمال ياسر صافي

سيكون آسرا بالنسبة له أن يستحضر طاقة العيش بمعزل عن أدواته المباشرة. سيكون الرسم هذه المرة في مكان آخر. مكان تُنصف فيه اللغة البصرية باعتبارها مصفاة للمدركات الحسية. في تلك اللغة يستخرج صافي مما يتذكره من أشكال الطعام قوة الروائح وهواء الأبخرة التي تنبعث من الطعام وامتزاج ملمسه بمتعة تذوفه. 

لوحة لياسر صافي

الرسم باعتباره فعلا شهوانيا

ما نراه في لوحات ياسر صافي ليس طعاما. يتذكر الرسام أشكال الأطعمة فيرسمها ولكنه أثناء الرسم يتذكر الوصفات التي لا تُرسم بل يُلهم تاثيرها الروائح والنكهات والصور والأبخرة والأفكار التي تفصل بين الأطعمة لتكون بمثابة مرجعية له وهو ينقب في ذاكرته بحثا عن هوية، هي بوصلته التي تعينه على القبض على لحظات فالتة من حياته. يرسم صافي كمَن يطبخ. لا يكتفي بما تراه عيناه بل يذهب مأسورا بخيال يديه إلى التفكير بحساسية المواد التي تستعمل في الطبخ. إنه يطبخ لكن بأصباغ، أضطُر إلى أن تكون حارة تماهيا مع حالة الطبخ.

من أعمال ياسر صافي

ذاكرة الرسام الذي رحب بظهوره الرسامون الكبار في بلاده وصار يعرض معهم وكان بعد صغير السن، لا تنفتح على المطبخ السوري باعتباره تشكيلة من الأطعمة اللذيذة التي غزت العالم بسبب موجات اللجوء، بقدر ما تنفتح على لغة ذلك المطبخ التي تنطوي على قيم حسية لا يمكن تفكيكها بيسر إلا من خلال الإتصال بإيحاءاتها واكتشاف مناطق إلهامها. يبدو الرسم في هذه الحالة فعلا شهوانيا. يرى المرء في لوحات ياسر صافي أطباق الطعام، يرى الطعام. غير أن الرسام لم يقصد أن يرينا الطعام وأطباقه بقدر ما رغب في أن يأخذنا مسحورين إلى عالمه المكتظ بالنكهات الخفية.

نزهة بصرية تمتزج من خلالها متعة النظر إلى عناصره المستعارة من الطبيعة بشهوة اكتشاف تأثيراته الحسية

رسم صافي ما يتذكره كأنه يتخيل. ذلك العالم الذي تركه وراءه كان مأهولا بالسحر، لم يكتشف سحر ذلك العالم إلا بعد أن ابتعد عنه. ولكنه اليوم يحتاج إلى قوة الخيال لكي يتمكن من توجيه حواسه والسيطرة عليها. ما يرغب فيه الرسام أن تكون المرئيات مجالا افتراضيا لغزواته الحسية. لا يحتاج صافي إلى ذلك الفضاء الافتراضي في معالجته لشهواته. حياته صارت هي المسرح.

ياسر صافي

الواقع والخيال

المطبخ أم الطعام؟ بروي ياسر صافي في لوحاته، كبيرة الحجم حكايات ممتعة عن علاقته بالمطبخ. أحيانا يكون المرء مأسورا بروح المطبخ وهو مكان تتسابق فيه قوتا الخيال والواقع. "أليس الرسم كذلك؟" يتساءل صافي. ما نراه من طعام بفتح أمامنا جنات خيال اليدين التي صنعته. وهو أيضا مناسبة لنزهة بصرية، تمتزج من خلالها متعة النظر إلى عناصره المستعارة من الطبيعة بشهوة اكتشاف تأثيراته الحسية. ذلك ما سعى الرسام إلى تجسيده بعد أن نقله إلى مكان آخر. 

لوحة لياسر صافي

لا تزال الأصباغ التي استعملها صافي في تنفيذ لوحاته ساخنة. ستظل كذلك في كل مناسبة تُعرض فيها لوحاته تلك من جديد. فالطعام ينبغي أن يظل ساخنا. تلك حيلة استعملها الرسام من أجل أن يبقي على حياة، استدرجها من العدم وهو يعيش عزلة، يشبهها بالفراغ الكوني. ولأنه لا يرغب في أن يجره الحنين إلى عاطفة قد تكون سببا في إضعاف قوة الرسم وتهميشه في عالمه المستقل، فإنه لجأ إلى كسر حاجز الوهم بضربات لونية، هي أصلا ليست من المشهد الذي يستعاد من أجل أن يقود متلقي أعماله إلى نقطة اللاعودة التي وصل إليها. وهي النقطة التي يتعرف فيها ذلك المتلقي على الرسم باعتباره خصما للواقع.

ما الذي يبقى من الواقع؟ في المقابل ما الذي يبقى من الرسم؟ يحتاج كل رسام وهو يمر بمرحلة تصفيات حسابات كما هي حال ياسر صافي أن يخرج بأقل الخسائر الممكنة. الزمن ليس مطبخه كما أن الرسم لا يخلق مكانا. ما يهم الرسام أن تكون رسومه عصية على الانتماء إلى زمن ومكان محددين. فهي تشبهه في مغامرته كائنا يضفي على يومياته طابعا جماليا مستلهما من الرغبة في تحييد الذكريات.  

font change