أوروبا تعيد "الخدمة الوطنية"... ولّى عهد "عائد السلام"

ميزانيات الدفاع آخذة في الارتفاع وخطوات لإعادة إحياء الخدمة العسكرية الإلزامية

أ ف ب
أ ف ب
يشارك المجندون في تدريب على تدمير الدبابات في الميدان في ثكنات وستفالن-كاسرن التابعة للقوات المسلحة الألمانية (البوندسفير) في مدينة آهلن، غرب ألمانيا، خلال يوم إعلامي حول التدريب الأساسي لمجندي البوندسفير، في 13 نوفمبر 2025

أوروبا تعيد "الخدمة الوطنية"... ولّى عهد "عائد السلام"

ما كادت فرنسا تقرّ خطوات جادة لإعادة إحياء الخدمة العسكرية الإلزامية في مواجهة التهديد العسكري الروسي المتزايد حتى لحقت بها ألمانيا بعد أيام. ففي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزمه إطلاق برنامج تطوعي يقدم رواتب للشباب والشابات مقابل عشرة أشهر من التدريب العسكري. وبعد أيام قليلة، في أوائل ديسمبر/كانون الأول، صوّت البوندستاغ (البرلمان الألماني) على برنامج مماثل، سيشهد إرسال استبيان إلى جميع من يبلغون من العمر 18 عاما للسؤال عن مدى استعدادهم للانضمام إلى القوات المسلحة. ويعد هذا تحولا جذريا، نظرا لأن كلتا الحكومتين ألغتا الخدمة العسكرية الإلزامية منذ فترة ليست ببعيدة. فقد سُرِّح آخر المجندين الفرنسيين عام 2001، في حين أنهت أنغيلا ميركل التجنيد الإلزامي في ألمانيا عام 2011، حيث استفادت الدولتان من برنامج "عائد السلام" الذي أعقب الحرب الباردة، والذي شهد تقليص حجم الجيوش الغربية مع انحسار خطر الحرب، ويعرف "عائد السلام" بأنه الفائدة الاقتصادية التي تجنيها الدولة من خفض الإنفاق العسكري، مما يسمح بإعادة توجيه الأموال إلى البرامج الاجتماعية والبنية التحتية والتعليم، أو خفض الضرائب، وبالتالي تعزيز النمو والتنمية بدلا من التركيز على الصراعات. إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا قلب موازين عقود من التراخي النسبي في العواصم الأوروبية. وبعيدا عن كونها حالات شاذة، تعكس خطط باريس وبرلين، تحولا على مستوى القارة نحو العودة إلى "الخدمة الوطنية" كعنصر أساسي في استراتيجيات الدفاع.

خلال خمسينات القرن العشرين، قدرت مؤسسة "راند" أنه يوجد حوالي 900 ألف جندي من قوات "الناتو" متمركزين في أوروبا الغربية، نصفهم من الولايات المتحدة، والباقي في معظمه من أوروبا

"الخدمة الوطنية" في أوروبا... بين صعود وهبوط

تعود "الخدمة الوطنية"، وهي مفهوم الالتحاق الإلزامي أو الطوعي في القوات المسلحة لبلد ما، إلى آلاف السنين في أوروبا. ففيالق روما على سبيل المثال كانت من المجندين، في حين كانت الجيوش في العصور الوسطى تتألف في معظمها من الفلاحين الذين أجبرهم أسيادهم الإقطاعيون على القتال. وقد أدى تحول أوروبا من قارة تهيمن عليها سلالات الإمبراطوريات إلى مجموعة من الدول القومية في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى تغيير طبيعة التجنيد الإلزامي، إلا أنه ظل سمة أساسية من سمات الحروب. فبدلا من أن يجبر ملاك الأراضي مستأجريهم على خوض المعارك والقتال، رسخت الحكومات الوطنية مفهوم واجب المواطنين في القتال من أجل الوطن. وكان قادة الثورة الفرنسية عام 1789، بشعاراتهم "حرية، مساواة، إخاء"، يعتقدون أن "الإخاء" يُلزم كل الفرنسيين بالقتال من أجل فرنسا، مما أضفى الطابع الرسمي على إلحاق "الجنود المواطنين" بالخدمة الإلزامية. وهو النموذج الذي حذت حذوه معظم الدول الأوروبية الأخرى في العقود اللاحقة.

رويترز
جنود من الجيش الألماني (البوندسفير) يقفون في صفوف منتظمة خلال حفل تجنيد أمام مبنى الرايخستاغ في برلين في 20 يوليو 2011

وهذا يدل على أن معظم اللاعبين الرئيسين في الحربين العالميتين خاضوا المعارك بجيوش جرارة من المجندين. وشكّلت بريطانيا استثناءً في عام 1914، إذ اعتمدت على قوات تطوعية بالكامل، إلا أن الخسائر الفادحة التي تكبدتها اضطرتها إلى جعل الخدمة العسكرية إلزامية في عام 1916، وأعادت العمل بهذا الإجراء في مطلع الحرب العالمية الثانية. أما الأطراف الرئيسة الأخرى، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، فقد طبقت التجنيد الإلزامي طيلة فترة الحرب. ومع إبقاء الاتحاد السوفياتي على جيوشه ذات الأعداد الهائلة منتشرة في سائر أرجاء أوروبا الشرقية بعد عام 1945، احتفظت دول أوروبا الغربية، التي أنشأت حلف "الناتو" مع كل من الولايات المتحدة وكندا، بجيوشها من المجندين. وخلال خمسينات القرن العشرين، قدرت مؤسسة "راند" أنه يوجد حوالي 900 ألف جندي من قوات "الناتو" متمركزين في أوروبا الغربية، نصفهم من الولايات المتحدة، والباقي في معظمه من أوروبا.

إذا ما سحب ترمب قواته، ثمة حاجة إلى استبدال ما يقرب من 84 ألف جندي أميركي متمركزين حاليا في أوروبا الغربية

بيد أن تغير الظروف أدى إلى تحول المواقف تجاه "الخدمة الوطنية" تدريجيا. وكانت بريطانيا هي الأولى من بين أعضاء حلف "الناتو" التي أنهت التجنيد الإلزامي، إذ خلصت في عام 1960 إلى أن عدم شعبيته في الداخل البريطاني وتغير طبيعة الحرب في العصر النووي يجعلانها تفضل جيشا أصغر من المتطوعين المحترفين. أما الدول الأوروبية الأخرى، ربما بسبب افتقارها إلى الحماية التي يوفرها بحر المانش من القوات السوفياتية، فقد انتظرت حتى نهاية الحرب الباردة لتتخذ خطوات مماثلة. حيث علقت بلجيكا التجنيد الإلزامي في عام 1992، وانتقلت إلى قوة تطوعية بالكامل في عام 1995. أما فرنسا فقد أنهت "الخدمة الوطنية" في عام 1997، وهو العام نفسه الذي علقت فيه هولندا الخدمة الإلزامية. وتبعتها إسبانيا في عام 2001، ثم إيطاليا في عام 2005، وألمانيا في عام 2011. بينما احتفظت بعض دول أوروبا الغربية بهذا الإجراء، مثل النمسا واليونان، بالإضافة إلى الدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا. إلا أنه، وبحلول الوقت الذي غزت فيه روسيا أوكرانيا في عام 2022، كانت معظم الدول الأوروبية قد اختارت جيوشا أصغر حجما وأكثر احترافية.

رويترز
مجندون جدد في الجيش الفرنسي يتدربون على دبابات AMX خلال جلسة تأهيل في القاعدة العسكرية كاربيان بالقرب من مرسيليا، 15 أكتوبر 2001

خطر جديد يلوح في الأفق

على الرغم من أن الحرب الأوكرانية دقت ناقوس الخطر لدى القادة الأوروبيين بشأن جاهزيتهم العسكرية، فإن إعادة انتخاب دونالد ترمب في أواخر 2024 زادت من إلحاح الوضع وجديته. فخلال حملته الانتخابية، هدد ترمب مرة تلو الأخرى بسحب القوات الأميركية من أوروبا كليا، ومنذ عودته إلى البيت الأبيض، كان أبعد ما يمكن عن تبديد مخاوف حلفائه في "الناتو". وإذا ما سحب ترمب قواته، ثمة حاجة إلى استبدال ما يقرب من 84 ألف جندي أميركي متمركزين حاليا في أوروبا الغربية. وقد يكون هذا العدد غير كاف في حال أعلن فلاديمير بوتين النصر في أوكرانيا ووسع طموحاته متطلعا إلى دول أوروبية أخرى.

ثمة اعتقاد بأن روسيا تمتلك حاليا جيشا نظاميا قوامه 1.5 مليون جندي، بالإضافة إلى مليوني جندي في صفوف الاحتياط. ويبلغ قوام جيش حلف "الناتو" مجتمعا حوالي 3.4 مليون جندي، وهو يفوق الجيش الروسي بكثير. ولكن إذا لم يتدخل الجيش الأميركي بقواته البالغة 1.3 مليون جندي لإنقاذ أوروبا، ولا الجيش التركي بقواته البالغة 355 ألف جندي، نظرا لعلاقات أنقرة الجيدة مع روسيا وموقفها المحايد في الحرب الأوكرانية، فإن القوات المتبقية لن يزيد عددها على 1.75 مليون جندي. وهو ما يتطلب مشاركة بقية أعضاء "الناتو" الثلاثين تقريبا بكامل قواتهم المسلحة، وهو أمر قد يصعب تحقيقه.

يأمل قادة أوروبا الغربية أن يسهم إحياء "الخدمة الوطنية" في إقناع مجتمعاتهم بمدى خطورة التهديد الروسي

في ظل هذه الحسابات، خلصت الدول الكبرى، مثل فرنسا وألمانيا، إلى حاجتها لمزيد من القوات. حيث يبلغ عدد قوات الجيش الألماني (البوندسفير) حاليا 182 ألف جندي، وهو أقل بنحو 20 ألف جندي من جارتها بولندا، التي لا يبلغ عدد سكانها سوى نصف عدد سكان ألمانيا، ولا يتجاوز اقتصادها خُمس حجم الاقتصاد الألماني. وتهدف برلين إلى زيادة عدد قواتها بمقدار 20 ألف جندي سنويا ليصبح بين 250 و260 ألف جندي بحلول عام 2035. كما تسعى إلى إنشاء جيش احتياطي إضافي قوامه 200 ألف جندي. وسيتحقق ذلك عبر خطوتين: الأولى من خلال حملة تجنيد واسعة النطاق (فألمانيا منغمسة حاليا بحملات تسويقية مكثفة للجيش الألماني). والثانية من خلال "الخدمة الوطنية" الجديدة. يبقى المقترح الحالي الذي وافق عليه البرلمان الألماني اختياريا، على الرغم من أن التسجيل إلزامي للرجال واختياري للنساء. ويتضمن مشروع القانون أيضا بنودا تسمح للبرلمان بمناقشة التجنيد الإلزامي لبعض الشباب الذين يبلغون من العمر 18 عاما في حال عدم تحقيق أهداف الحكومة المتعلقة بالجيش الألماني.

وعلى نحو مماثل، تمتلك فرنسا حوالي 200 ألف جندي في جيشها اليوم، بالإضافة إلى 47 ألف جندي احتياطي، إلا أن ماكرون يتطلع إلى ضم 50 ألف جندي إضافي خلال السنوات العشر المقبلة، وذلك من خلال "الخدمة الوطنية" الجديدة بشكل أساسي. وستكون هذه "الخدمة" اختيارية في الوقت الحالي، وسيتقاضى من يلتحقون بـ"الخدمة الوطنية" ممن يبلغون 18 عاما راتبا لا يقل عن 800 يورو شهريا. وفي هذه الأثناء، اختارت بلجيكا إعادة إحياء "الخدمة الوطنية"، على أساس تطوعي أيضا، اعتبارا من سبتمبر/أيلول 2026، بينما يدرس المشرعون في هولندا القيام بالمثل.

قد يكون تعزيز أعداد القوات هو الهدف الرئيس، لكن ومن جهة ثانية يأمل قادة أوروبا الغربية أن يسهم إحياء "الخدمة الوطنية" في إقناع مجتمعاتهم بمدى خطورة التهديد الروسي. ووفقا لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) على سبيل المثال، صرح رئيس الأركان الفرنسي المعيّن حديثا، الجنرال فابيان ماندون، مؤخرا بأن فرنسا تفتقر إلى روح التضحية، وأن على عامة الناس أن يكونوا مستعدين لفقدان أبنائهم في الحرب. وذكر أيضا أن التخطيط العسكري الفرنسي مبني على افتراض نشوب حرب مع روسيا في غضون ثلاث أو أربع سنوات.

التحديات المقبلة

تشير هذه التصريحات إلى إحدى العقبات الرئيسة التي تواجه القادة الساعين لإحياء "الخدمة الوطنية": الرأي العام. ويبدو جليا أن ماكرون وغيره من قادة أوروبا يدركون جيدا أن هذه الإجراءات لن تحظى بأي شعبية، كما كان الحال مع البريطانيين عام 1960، وبالتالي اتسمت كل الخطط الجديدة بأنها طوعية وليست إلزامية. وفي فرنسا، لاقت المقترحات استحسانا عاما، حيث أفادت صحيفة "إيلاب" بأن 73 في المئة ممن شملهم الاستطلاع أيدوا هذه المقترحات. حتى الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عاما، وهم الأكثر عرضة للتأثر، أيدوا المقترحات بنسبة 60 في المئة. إلا أن الصورة تبدو مختلفة في ألمانيا. فقد نظم الطلاب في أكثر من 90 مدينة إضرابا في اليوم التالي لموافقة البوندستاغ على القانون الجديد، ويرى الكثيرون أن حجم معارضة الشباب كبيرة. ينبغي أن لا ننسى أن علاقة ألمانيا أكثر تعقيدا مع النشاط العسكري نظرا لتداعيات النازية، ويشكك الكثيرون، ولاسيما من اليسار، في المساعي الجديدة لإعادة التسلح ومواجهة روسيا.

ترى باريس وبرلين، شأنهما شأن دول أوروبا الغربية الأخرى، أن عهد "عائد السلام" قد ولّى من غير رجعة

ثمة تحديات أخرى أيضا، بالرغم من الخطوة التي أقدمت عليها كل من فرنسا وألمانيا، فإن قوتين كبيرتين في أوروبا الغربية، وهما المملكة المتحدة وإسبانيا، لم تتخذا خطوات مماثلة حتى الآن. ومما لا شك فيه أن المملكة المتحدة تأمل أيضا في توسيع جيشها، لكن وعلى الرغم من اقتراح الحكومة المحافظة السابقة إنشاء خدمة وطنية جديدة، فإن حكومة حزب "العمال" الحالية اختارت أن لا تمضي قدما في هذا الاتجاه. كذلك لا توجد لدى إسبانيا أي خطط حالية لإحياء "الخدمة الوطنية". قد يؤدي إحجام كل من بريطانيا وإسبانيا عن هذه الخطوة إلى الحد من نمو القوات المسلحة الأوروبية، وهو في الوقت نفسه يقدم نماذج بديلة يمكن لمعارضي "الخدمة الوطنية" في فرنسا وألمانيا الاستناد إليها.

أ ف ب
استعرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (في الوسط) القوات قبل إلقاء خطابه للكشف عن خدمة عسكرية وطنية جديدة في القاعدة العسكرية بمدينة فارس، في جبال الألب الفرنسية، بتاريخ 27 نوفمبر 2025

وتبرز التكلفة المالية أيضا كواحدة من التحديات التي لا يمكن تجاهلها.  حيث تقدر تكلفة خطة ماكرون بنحو ملياري يورو، في وقت يواجه فيه الاقتصاد الفرنسي صعوبات جمة. والجدير بالذكر أن المتطوعين الفرنسيين سيتقاضون أجورا شهرية أقل بكثير، 800 يورو، مقارنة بنظرائهم الألمان (2600 يورو) أو البلجيكيين (2000 يورو). وقد يثني هذا التفاوت الكثير من المتطوعين، نظرا لأن هذا المبلغ أقل بكثير من الحد الأدنى للأجور.

وبطبيعة الحال، قد يشعر ماكرون، مثل المستشار الألماني فريدريش ميرتس، بأنه لا يملك خيارا آخر. ففي مواجهة ما يعتبره تهديدا وشيكا، تحتاج فرنسا إلى إعادة التسلح وزيادة أعداد قواتها وإقناع شعبها بالتعبئة لمواجهة أي صراع قادم محتمل. وفي ظل البيئة الدفاعية الجديدة لما بعد عام 2022، ترى باريس وبرلين، شأنهما شأن دول أوروبا الغربية الأخرى، أن عهد "عائد السلام" قد ولّى من غير رجعة، فميزانيات الدفاع آخذة في الارتفاع، و"الخدمة الوطنية" عادت إلى الواجهة بقوة.

font change