القنبلة في بيروت... كيف تحوّل سلاح أميركي غير منفجر إلى هدية للعدو

لطالما درست إيران وحلفاؤها الأسلحة الغربية في ساحات النزاع

أ.ف.ب/ المجلة
أ.ف.ب/ المجلة

القنبلة في بيروت... كيف تحوّل سلاح أميركي غير منفجر إلى هدية للعدو

في الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أطلقت مقاتلة إسرائيلية من طراز "F-15" قنابل "GBU-39" صغيرة القطر على القائد العسكري لـ"حزب الله" في بيروت. أصابت الضربة هدفها وقتلت القائد العسكري لـ"الحزب"، علي طباطبائي، لكن إحدى القنابل أخفقت في الانفجار. خلال أيام قليلة، سارعت واشنطن إلى مطالبة لبنان بإعادة الذخيرة غير المنفجرة، خشية أن يستغل الخصوم تقنياتها الحساسة. قنبلة واحدة فاشلة تحولت إلى كارثة استراتيجية محتملة.

هذه ليست مجرد مشكلة ذخيرة غير منفجرة. فالقنبلة "GBU-39"، إذا بقيت سليمة، خصوصا تلك التي لم تنفجر وبالتالي قد تكون محفوظة إلى حد كبير، يمكن أن توفر معرفة ثمينة حول هندسة الرؤوس الحربية الأميركية وتقنيات التوجيه وأساليب التصنيع. إنها نافذة كاملة على كيفية عمل الحرب الدقيقة الأميركية، والكنز الاستخباراتي الذي يبقي مسؤولي الدفاع ساهرين ليلا.

ما الذي يجعل هذه القنبلة ثمينة إلى هذا الحد؟

تزن القنبلة "GBU-39" نحو 250 رطلا فقط، لكنها محملة بأسرار التكنولوجيا الأميركية. حجمها الصغير يعني أن الطائرة الواحدة تستطيع حمل عدد أكبر من هذه القنابل المدمجة مقارنة بالذخائر الثقيلة الأخرى. تجمع القنبلة بين رأس حربي صلب قادر على الاختراق ونظام ملاحة بالقصور الذاتي مدعوم بـ"GPS"، بدقة تصل إلى متر واحد، مستخدمة جناحا صغيرا يتيح لها التحليق لمسافة تصل إلى 110 كيلومترات من نقطة الإطلاق. وحين تعمل كما ينبغي، تكون بالغة الدقة، لكن حين تخفق، قد تكشف الكثير عن التكنولوجيا الأميركية.

في داخلها تكمن التقنية الحاسمة: "جيروسكوب ليزري حلقي" من إنتاج "هوني ويل-"HG1700، مقترن بنظام "GPS" مشفر مصمم لمقاومة التشويش والخداع. النظام مزود بآلية احتياطية، فإذا تعطل الـ"GPS"، يعود إلى التوجيه بالقصور الذاتي ويواصل مهمته. وهذا بالضبط ما يسعى خصوم أميركا إلى فهمه: كيف تعمل الدقة الأميركية حين يُستهدف نظامها عمدا بالكسر؟

لطالما درست إيران وحلفاؤها الأسلحة الغربية في ساحات النزاع حيث تُستخدم. ففي عام 2019، أكد مسؤول حوثي أن الجماعة تستعيد التكنولوجيا الأميركية وتنقلها إلى "حزب الله" والأصول الإيرانية

ثم هناك المادة المتفجرة: 37 رطلا من "AFX-757"، تمثل سنوات من أبحاث الطاقة المتفجرة الأميركية. الصيغة الدقيقة سرية. وإذا تمكن الخصم من إعادة هندستها، فإنه يتجاوز عقدا كاملا من البحث. حتى إن مقدمة القنبلة الفولاذية الصلبة، القادرة على اختراق ثلاثة أقدام من الخرسانة المسلحة، والأجنحة القابلة للنشر التي تمنحها مدى إضافيا مع الحفاظ على بصمة رادارية منخفضة، كلها أسرار قابلة للتصدير.

رويترز
خلال تشييع جثمان هيثم علي الطباطبائي، المسؤول العسكري الأعلى في "حزب الله"، وآخرين قُتلوا في غارة جوية إسرائيلية يوم الأحد، في الضاحية الجنوبية لبيروت، لبنان، 24 نوفمبر 2025

ورغم أن هذه الذخيرة متاحة للتصدير الخارجي، فإن واشنطن تقيد بيعها بشدة، ولا تعرضها إلا على الحلفاء الموثوقين. ومع ذلك، بعد الضربة، بقيت واحدة منها، غير منفجرة، في لبنان.

الزاوية الإيرانية

من منظور طهران، فإن قنبلة "GBU-39" غير المنفجرة تمثل فرصة مزدوجة: إمكانية نسخ السلاح الأميركي، وفهم كيفية الدفاع ضده. وتمتلك إيران سجلا طويلا في استغلال التكنولوجيا الأميركية التي تقع بين يديها. ففي عام 2011، استولت على طائرة مسيّرة من طراز "RQ-170-Sentinel"، وادعى مهندسوها أنهم استخرجوا بياناتها كاملة خلال أشهر، ثم عرضوا نسخة مقلدة بحلول 2014. ومؤخرا، أعلنت إيران تطوير أنظمة حرب إلكترونية مصممة خصيصا للتشويش على الأسلحة الموجهة بالـ"GPS" وخداعها. غير أن هذه القدرات فشلت في اختبار الميدان، إذ لم يكن لها أثر يذكر في مواجهة الهجوم الإسرائيلي خلال الحرب التي استمرت 12 يوما في يونيو/حزيران. ومع ذلك، من الخطأ الاستهانة بالتكنولوجيا الإيرانية.

رويترز
طيار مقاتل إسرائيلي يصعد سلما للصعود إلى طائرة إف-15، في قاعدة تل نوف الجوية، إسرائيل، 3 يوليو 2025

إن فهم خصائص القنبلة المضادة للتشويش قد يساعد إيران على تطوير وسائل أكثر فاعلية، ليس ضد هذه القنبلة وحدها، بل ضد عائلة كاملة من الذخائر الأميركية الموجهة بدقة. ولهذا استثمرت الصناعة الدفاعية الإيرانية بكثافة في الحرب الإلكترونية، لأنها تمثل ميزة غير متكافئة: أنظمة زهيدة نسبيا قادرة على تعطيل أسلحة غربية باهظة الثمن.

لطالما درست إيران وحلفاؤها الأسلحة الغربية في ساحات النزاع حيث تُستخدم. ففي عام 2019، أكد مسؤول حوثي أن الجماعة تستعيد التكنولوجيا الأميركية وتنقلها إلى "حزب الله" والأصول الإيرانية. وربما كان علي طباطبائي، الذي قُتل في بيروت، جزءا من هذا الجهد، إذ عمل مستشارا لـ"حزب الله" لدى الحوثيين. وفي مقابلة مع شبكة "CNN"، قال المسؤول الحوثي بوضوح: "اسمع، لا يوجد سلاح أميركي إلا ويحاولون معرفة تفاصيله، مم يتكون، وكيف يعمل".

يمثل الحادث أيضا إحراجا لإسرائيل، التي اضطرت للاعتماد على الولايات المتحدة لاستعادة القنبلة، وقد كشف أسرارا أميركية حساسة

وقد تشارك إيران ما تستخلصه مع خصم أكبر للولايات المتحدة: الصين. فكما هو الحال مع إيران، استخدمت بكين أنظمة عسكرية مسترجعة لبناء نسخها الخاصة. ففي عام 2001، تحطمت طائرة استطلاع أميركية "EP-3" في الصين، حيث استخرجت بكين معلوماتها رغم محاولات الطاقم تدمير المعدات. وفي عام 2011، تحطمت مروحية شبحية خلال عملية اغتيال بن لادن، وسمحت القوات الباكستانية لمهندسين صينيين بفحص الحطام، وبعد سنوات عرضت الصين مروحية شبحية مشابهة بشكل لافت.

التعقيد اللبناني

لم يكن التوقيت أسوأ للعلاقات الأميركية-اللبنانية. فقد سعت واشنطن إلى تعزيز المؤسسات اللبنانية كوزن مضاد لـ"حزب الله"، مقدمة أكثر من 117 مليون دولار كمساعدات أمنية للجيش اللبناني لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

لكن الحكومة اللبنانية تسير على حبل مشدود مستحيل. فـ"حزب الله" ما زال يمسك بمناطق واسعة ونفوذ سياسي كبير، والحكومة أخفقت مرارا في الوفاء بالتزاماتها بخصوص نزع سلاحه. ومؤخرا، حذر نواب أميركيون من الحزبين قادة لبنان: "انزعوا سلاح (حزب الله) الآن، ولو بالقوة إذا لزم الأمر"، ملوحين بسحب الدعم الأميركي إن لم يتغير المسار.

أ.ف.ب
الرئيس اللبناني جوزيف عون والسفير الأميركي المعين حديثا لدى لبنان، ميشال عيسى، في القصر الرئاسي بعبدا، شرق بيروت، في 17 نوفمبر 2025.

اليوم يواجه لبنان خيارا صعبا: إما التعاون مع طلب واشنطن لإعادة القنبلة، وإما السماح لـ"حزب الله" ورعاته الإيرانيين بفحصها. كلا الطريقين مكلف. إعادة السلاح قد تستفز "حزب الله" في وقت رفض فيه بالفعل خطط الحكومة لنزع سلاحه واعتبرها "خطيئة جسيمة". أما الصمت فيمنح الخصوم وقتا أطول لاستخراج المعلومات، ويزيد في الوقت نفسه من توتر العلاقات مع واشنطن.

يزداد الموقف تعقيدا مع عقد لبنان وإسرائيل أول محادثات مباشرة بمشاركة مدنيين منذ عقود، في الثالث من ديسمبر/كانون الأول، بتنظيم أميركي، بعد أسبوعين فقط من الضربة التي قتلت طباطبائي في بيروت. ليس واضحا كيف سيرد "حزب الله"، خصوصا وهو أضعف مما كان، لكنه لا يزال القوة العسكرية الأشد في لبنان. وفي الماضي لم يتردد في استخدام القوة، حتى لو أدى ذلك إلى احتكاك مع الحكومة اللبنانية.

المشكلة الإسرائيلية

يمثل الحادث أيضا إحراجا لإسرائيل، التي اضطرت للاعتماد على الولايات المتحدة لاستعادة القنبلة، وقد كشف أسرارا أميركية حساسة. ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه ما تُعرف بـ"دائرةMAGA " المؤيدة لترمب انقساما متزايدا حول السياسة الخارجية، إذ يدعو بعض أعضائها إلى توخي الحذر في انخراط واشنطن في النزاعات الخارجية أو دعم شركاء أجانب. هذا التيار، الذي يُطلق عليه غالبا اسم "المقيّدون"، يزداد نفوذه تدريجيا.

يبقى مجهولا ما إذا كانت القنبلة "GBU-39" في بيروت ستصل في النهاية إلى أيدي مهندسين إيرانيين أو روس أو صينيين. لكن المؤكد أن كل حادث من هذا النوع يجبر واشنطن على مواجهة مفاضلات غير مريحة

ومع أن إسرائيل نجحت حتى الآن في الحفاظ على صورتها كرصيد صافٍ لا كعبء، ولم يثر التطور الأخير ضجة كبيرة، فإن تكرار حوادث مشابهة قد يمنح أرضية لشخصيات من تيار "الممتنعين"، أو حتى لشريحة متنامية من "دائرة MAGA" التي باتت أكثر عداء لإسرائيل.

يزداد الأمر حساسية لأن إسرائيل تعتمد على الولايات المتحدة في الذخيرة. وموضوع الذخيرة نفسه شديد الحساسية، ويكاد يكون في صميم فلسفة "المقيّدين"، فهم يرون أن دعم واشنطن لصراعات لا تُعد أولوية قصوى لها يستنزف مخزون الأسلحة الذي يجب أن يُخصص حصرا لمواجهة الصين. وقد كشفت الحروب في أوكرانيا وغزة والحرب الإيرانية-الإسرائيلية وما سبقها من نزاعات محدودية المخزون الغربي، والأهم محدودية القدرات الصناعية.

الحسابات الصعبة

يبقى مجهولا ما إذا كانت القنبلة "GBU-39" في بيروت ستصل في النهاية إلى أيدي مهندسين إيرانيين أو روس أو صينيين. لكن المؤكد أن كل حادث من هذا النوع يجبر واشنطن على مواجهة مفاضلات غير مريحة بين تسليح الحلفاء وحماية الأسرار.

رويترز
دبابات إسرائيلية وجرافة من طراز D9 تعبر الحدود الإسرائيلية اللبنانية إلى داخل إسرائيل، 23 نوفمبر2025

ويأتي الحادث في وقت حساس للعلاقات الأميركية-اللبنانية والأميركية-الإسرائيلية، فيما لدى إيران كل الدوافع لفحص القنبلة بسرعة. ففي زمن تحدد فيه الدقة والقدرات الشبحية نتائج المعارك، حتى قنبلة واحدة قد تصنع فارقا. والسؤال الآن: هل ستبقى في لبنان، أم تتحول إلى مخطط لأسلحة تُستخدم ضد أميركا؟

font change