عن أحمد أبو دهمان الذي حمل قريته إلى العالم

روايته "الحزام" علامة فارقة في الأدب السعودي

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

عن أحمد أبو دهمان الذي حمل قريته إلى العالم

برحيل الأديب السعودي أحمد أبو دهمان (1949-2025)، يغيب صوت سردي اختار طريقه بعيدا من الضجيج، واشتغل على مادته الأولى بوعي طويل النفس، فكتب عملا واحدا ترك أثرا يفوق كثرة الإنتاج. لم يكن حضوره عابرا في المشهد الثقافي العربي، رغم محدودية منجزه الروائي، إذ شكلت روايته "الحزام" لحظة فارقة في كتابة السيرة الطفولية بوصفها مادة معرفية، لا مجرد استعادة حنينية.

ولد أبو دهمان في قرية آل خلف بسراة عبيدة، في فضاء جبلي ظل حاضرا في كتابته حضور الجوهر، لا الزينة. انتقل إلى الرياض في مرحلة مبكرة من حياته، ثم قادته تجربته المهنية إلى باريس، حيث أقام سنوات طويلة. هذا المسار الجغرافي لم يقتصر على كونه انتقالا مكانيا فقط، وإنما كان تحولا في زاوية النظر إلى الذات والعالم. توسعت الرؤية، غير أن الارتباط بالجذور بقي عنصرا فاعلا في وعيه وسلوكه وكتابته.

بين عالمين

حمل أبو دهمان في داخله توترا خلاقا بين عالمين، عالم القرية بما يحمله من إيقاع بطيء، وعلاقات مباشرة، وذاكرة جمعية، وعالم المدينة الحديثة بما تفرضه من أسئلة التحضر والمعرفة والانفتاح. هذا التوتر لم يظهر في حياته فقط، وإنما شكل أحد مفاتيح نصه السردي. من هنا جاءت "الحزام" عملا مكثفا، مشغولا على الداخل، يراقب التحول من دون ادعاء امتلاك إجابات نهائية.

لم ينفصل الصحافي فيه عن الأديب، فحافظ على توازن نادر بين المهنية الصحافية والعمق المعرفي، مما جعل حضوره الإعلامي جزءا مكملا لسيرته الثقافية

في روايته الوحيدة، كتب أبو دهمان سيرة الطفولة وبدايات التشكل بوصفها سؤالا مفتوحا عن الهوية والأصل والانتماء. لم يتعامل مع الطفولة باعتبارها زمن البراءة المطلقة، وإنما بوصفها مخزنا أوليا للوعي، تتداخل فيه السلطة الأبوية والجماعة والمكان والخوف والاكتشاف. تجاوزت "الحزام" حدود الحكاية الشخصية، لتغدو شهادة فنية على شريحة واسعة من جيل عاش التحول الاجتماعي والثقافي في السعودية، وانتقل من بنية تقليدية صارمة إلى أفق جديد لم تتضح معالمه بعد.

ذلك الجيل عرف التردد والحيرة، وسعى إلى تحسين موقعه الاجتماعي والمعرفي في زمن شحيح الفرص ومثقل بالقيود. ومع التحولات اللاحقة التي شهدها المجتمع، شعر كثيرون من أبنائه بأنهم دفعوا أثمانا مبكرة قبل أن تنضج شروط التغيير. هذا السياق يمنح "الحزام" بعدها التاريخي، ويخرجها من القراءة الفردية الضيقة.

لماذا رواية واحدة؟

ظل سؤال واحد يرافق القراء والنقاد: لماذا توقف أحمد أبو دهمان عند رواية واحدة؟ سؤال مشروع، خاصة أن العمل ترك مساحات واسعة من العمر خارج النص. بالإمكان قراءة هذا التوقف بطرائق متعددة: خيار جمالي واع، أو اكتفاء بنص روائي رأى فيه  أحمد أبو دهمان خلاصته، أو حتى موقف وجودي من الكتابة الروائية نفسها. تعدد هذه الاحتمالات يمنح الصمت دلالة، من دون الحاجة إلى حسم تفسيره في اتجاه واحد.

لم ينفصل الصحافي فيه عن الأديب، فحافظ على توازن نادر بين المهنية الصحافية والعمق المعرفي، مما جعل حضوره الإعلامي جزءا مكملا لسيرته الثقافية

تميز أبو دهمان، إلى جانب كتابته السردية، بحضور صحافي رصين. كتب من باريس عموده الأسبوعي "كلام الليل" في جريدة "الرياض"، وكان يدير مكتبها هناك لفترة. جاءت مقالاته أقرب إلى تأملات ثقافية وسياسية، تتكئ على الملاحظة الدقيقة، وتبتعد عن الاستعراض والانفعال. لم ينفصل الصحافي فيه عن الأديب، فحافظ على توازن نادر بين المهنية الصحافية والعمق المعرفي، مما جعل حضوره الإعلامي جزءا مكملا لسيرته الثقافية.

في سنواته الأخيرة، برز حضوره في وسائل التواصل الاجتماعي بأسلوب مكثف، قائم على الجملة الملتقطة بعناية. لم يكن حضوره رقميا استهلاكيا، وإنما امتدادا لاقتصاده اللغوي المعروف. عبارته الشهيرة: "أعظم ما قد يحدث أن تصحو على وطن شجاع" تحولت إلى جملة متداولة، تجاوزت لحظتها الزمنية، واستقرت في الوعي العام بوصفها تعبيرا عن أمل جماعي.

أحمد أبو دهمان

على المستوى الإنساني، عرف أبو دهمان بكرمه المعنوي وهدوئه. ترك أثرا طيبا في محيطه الثقافي، خاصة في علاقته بالتجارب الجديدة. من تجربتي الشخصية، أتذكر كيف علق على اقتباس من روايتي الأولى "الصريم" قائلا: "من أجل هذا الاقتباس سوف أقرأ الرواية". عبارة قصيرة، حملت معنى التشجيع الحقيقي. لاحقا، التقيته في مناسبة ثقافية، فبادرني بالسؤال والاهتمام، وتسلم نسخة من روايتي "قنطرة"، وشجعني على مواصلة الكتابة. تلك التفاصيل الصغيرة تكشف جانبا من أخلاق المثقف الذي يدرك أثر الكلمة في مسار الآخرين.

ظل وفيا لحكايته الأولى، ولذاك الطفل الجنوبي الذي بقي يسكن نصه ووعيه حتى النهاية

سيبقى أحمد أبو دهمان حاضرا في الذاكرة الثقافية السعودية والعربية، بوصفه كاتبا اختار الصدق مسارا، والهدوء أسلوبا، وترك أثرا يتجاوز حجم منجزه العددي. من آل خلف إلى الرياض، ومن الرياض إلى باريس، ظل وفيا لحكايته الأولى، ولذاك الطفل الجنوبي الذي بقي يسكن نصه ووعيه حتى النهاية.

رحم الله أحمد أبو دهمان، وأسكنه فسيح جناته. سلام على روحه، وعلى "الحزام" الذي شد الذاكرة ونشطها، وفتحها على أفق أبعد من الجغرافيا.

font change

مقالات ذات صلة