دل تورو يعيد اكتشاف أسطورة "فرانكنشتاين" الأكثر رسوخا في المخيلة

السؤال الأخلاقي في زمن التكنولوجيا

ملصق فيلم "فرانكنشتاين"

دل تورو يعيد اكتشاف أسطورة "فرانكنشتاين" الأكثر رسوخا في المخيلة

يجتهد المخرج المكسيكي غييرمو يل تورو في تقديم نسخته الخاصة من "فرانكنشتاين"، محاولا إعادة اكتشاف واحدة من أكثر الأساطير الأدبية رسوخا في المخيلة البشرية.

الفيلم، الذي جاء ثمرة أول تعاون له مع "نتفليكس" وبميزانية بلغت نحو 120 مليون دولار، ليس مجرد رقم في فيلموغرافيا المخرج، بل تحقيق لحلم راوده منذ الطفولة لتقديم شخصية فرانكنشتاين من منظور شخصي وعاطفي، مركزا على الصراع الأخلاقي بين العالم والوحش، وهو ما يميز هذه النسخة عن المعالجات السابقة.

ومنذ أن نشرت الروائية الإنكليزية ماري شيلي روايتها الشهيرة "فرانكنشتاين أو بروميثيوس العصر الحديث" عام 1818، حفرت هذه الحكاية عميقا في خيال القراء والمبدعين، إذ تحكي عن طبيب مهووس يعبث بالموت والحياة، ومخلوق (وحش) مفصول عن أبويه يبحث عن معنى وجوده في عالم يرفضه.

هذه التراجيديا القديمة التي ألهمت العديد من الروائيين والمسرحيين والمخرجين، تصل إلى مختبر المخرج المكسيكي الذي يقدم فيلما يمزج بين الرعب القوطي والتأملات الحائرة حول الهوية، وأخطار التقدم العلمي حين يخرج عن السيطرة، وهو ما يقودنا الى سؤال راهن حول حدود الذكاء الاصطناعي وأخطاره المحتملة على البشرية.

الحكاية

يروي دل تورو في فيلمه قصة الطبيب والعالم فيكتور فرانكنشتاين (أوسكار إسحق) الذي عاش طفولة مضطربة بين حنان الأم المبالغ به، وسطوة الأب، الطبيب المشهور، الذي أخفق في إنقاذ حياة زوجته عند ولادتها شقيق فيكتور، الذي يشك في تقصير متعمد من الأب.

عند هذا الحد، يتجلى منظور دل تورو السينمائي الذي غالبا ما ينحاز للمخلوقات المهمشة، فيمنح الوحش لحظات تنزع عنه نمطية "التهديد" وتجعله كائنا هشا بلا قرين

بعد هذه الخسارة المؤلمة، ينهمك فيكتور فرانكنشتاين في أبحاثه العملية مقررا التفوق على الأب، والتصدي لتجربة جريئة: خلق الحياة من الموت، والنتيجة هو الوحش المخلوق الفريد (جاكوب إلوردي) المكون من جثث متناثرة في ساحة معركة.

سرعان ما تتحول العلاقة بين فيكتور والوحش، الذي قدمه دل تورو بملامح بريئة وصوت واهن تستدر العطف، إلى جدل حول الأبوة والمسؤولية الأخلاقية، إذ يتخذ النزاع بينهما طابعا أبويا بوضوح ليضفي عمقا دراميا على هذا التوتر الذي يعيد إلى الأذهان مقولة الشاعر الفيلسوف المعري: هذا ما جناه أبي علي، وما جنيت على أحد.

IMDb
جاكوب إلوردي في فيلم "فرانكنشتاين" (2025)

حين يرى فرانكنشتاين أن الوحش الذي ابتكره لا يعرف شيئا ولا يستطيع إتقان اللغة، يتحول هذا الانتصار العلمي إلى عبء أخلاقي، فيقرر التخلص منه عبر حرقه في المختبر، لكن الوحش ينجو هاربا إلى البراري، يعاني من الوحدة والرفض، إلى أن يعثر على شخص يتعاطف معه وهو شيخ أعمى ينجح في "أنسنة" الوحش الذي يكشف، بدوره، البشر من بعيد، ويتعلم لغتهم ليصل إلى قناعة باستحالة التأقلم مع عالم لا يرى فيه سوى "التشوه والتهديد".

"الموت أو الرفقة"

يحتل مشهد مطالبة الوحش "الضجر"، لفيكتور فرانكنشتاين بخلق رفيقة له، مكانة محورية تتجاوز حدود السرد الكلاسيكي لتصبح لحظة محملة دلالات شتى، إذ يصوغ دل تورو هذا الطلب لا كابتزاز، بل كصرخة مدوية، ممزوجة بالرجاء، من كائن بدأ يعي العالم عبر سلسلة من الصدمات والرفض، فبات يدرك أن وحدته ليست طارئة، بل جزء منطقي من الطريقة التي وجد بها.

الوحش المغلوب على أمره، لا يظهر لدى لقاء فرانكنشتاين قوة غاضبة بقدر ما يبدو روحا ممزقة تطالب بما هو بديهي لاجتياز امتحان الحياة: رفيقة تخفف ثقل الامتحان المفروض عليه، أو موت يضع حدا للعنة جسدية ونفسية لم يخترها.

عند هذا الحد، يتجلى منظور دل تورو السينمائي الذي غالبا ما ينحاز للمخلوقات المهمشة، فيمنح الوحش لحظات تنزع عنه نمطية "التهديد" وتجعله كائنا هشا بلا قرين، كما أن فرانكنشتاين يتعامل مع الطلب بارتباك يكشف عجزه الأخلاقي أكثر مما يكشف مهارته العلمية، فهو يرى في خلق رفيقة جديدة تكرارا لخطأ لم يعد قادرا على تحمل تبعاته.

في نهاية الفيلم، يصل الصراع بين فرانكنشتاين و"الوحش" إلى الذروة عبر مطاردة تصل الى القطب الشمالي، إذ يلتقيان على متن سفينة دانماركية عالقة في الجليد. يمد فرانكنشتاين يده برقة الى الوحش، كآخر اعتراف بالأبوة والذنب، ليغمض عينيه إلى الأبد في صقيع الشمال، بينما يسمح للمخلوق بالمغادرة بسلام في مشهد ختامي يتأرجح بين الألم والأمل: فبعد أن يستخدم قوته لتحرير السفينة، يخرج إلى أفق متجمد شاخصا إلى نور الفجر الخافت الذي يضيء الجليد الشاسع الأبيض كرمز إلى إمكان "الحياة بعد الألم".

IMDb
ميا غوث وجاكوب إلوردي في فيلم "فرانكنشتاين" (2025)

وقد ظهرت عشرات الاقتباسات من رواية ماري شيلي، إلا أن معالجة غييرمو دل تورو تتميز بأنها تقف في منطقة مختلفة بين كلاسيكيات الرعب والتأويل الإنساني الحديث. في النسخة الأيقونية الأولى لعام 1931 من إخراج جيمس ويل، ركز الفيلم على الرعب البصري والخوف من العلم الجامح، مقدما الوحش في صورة مرعبة أكثر منه ضحية، مع اختزال للأبعاد النفسية التي حملتها الرواية.

لا يقدم دل تورو الرعب كغاية، ولا يسعى إلى تكرار القالب المألوف للوحش، بل يضعه في مركز السؤال الأخلاقي: من هو الإنسان؟ ومن هو الوحش؟

ومع أفلام استوديوهات هامر البريطانية في خمسينات وستينات القرن العشرين، من قبيل "لعنة فرانكنشتاين"، أصبح الخطاب أكثر ميلا إلى الدموية والإثارة، بتصوير فرانكنشتاين كعالم مهووس لا يحمل أي تناقض إنساني، بينما الوحش المخلوق هو نتيجة مباشرة للغرور العلمي.

أما نسخة كينيث براناه، "فرانكنشتاين ماري شيلي" عام 1994، التي حاولت الاقتراب من النص الأصلي بحرفية أكبر، فقدمت معالجة ميلودرامية ظلت محاصرة بين التزام النص والكشف عن رؤية سينمائية مغايرة.

AFP / Stephane de Sakutin
المخرج والمنتج المكسيكي غييرمو دل تورو على السجادة الحمراء لعرض فيلم "فرانكنشتاين" في سينما "غران ريكس" بباريس، 10 أكتوبر 2025

في مقابل ذلك، يأتي دل تورو من زاوية أخرى تماما، فهو لا يقدم الرعب كغاية، ولا يسعى إلى تكرار القالب المألوف للوحش، بل يضعه في مركز السؤال الأخلاقي: من هو الإنسان؟ ومن هو الوحش؟ في هذا المعنى فإن دل تورو، الفائز بأوسكار افضل فيلم وأفضل مخرج عن فيلمه "شكل الماء"، يطرح في نسخته أسئلة مركزية عما تعنيه "الإنسانية" بمعناها الأشمل، إذ يقول في حديثه عن الفيلم إنه يعيد التفكير في من هو "الوحش" الحقيقي: هل هو العالم الذي يرفض "ابتكاره البشري"، أم المجتمع الذي يحكم عليه من خلال مظهره وملامحه؟

IMDb
أوسكار آيزاك في فيلم "فرانكنشتاين" (2025)

في ضوء ذلك، فإن دل تورو لا ينافس الأفلام السابقة بقدر ما يعيد تعريف أسئلة الرواية في سياق معاصر، مقدما فرانكنشتاين كأنه يروى للمرة الأولى، إذ تتكامل في الفيلم عناصر الصنعة السينمائية لتمنحه حضورا مختلفا لا يعتمد على الصدمة أو الاستعراض، بل على بناء متدرج يجعل القصة تقرأ بعيون جديدة.

IMDb
ميا غوث في فيلم "فرانكنشتاين" (2025)

يجمع الفيلم بين التصوير الحافل بالرمزية لدان لوستن الذي يرسم مشهدية بصرية باذخة يتجاور خلالها الظل والضوء مما يعزز الجو التراجيدي ويبرز التوتر النفسي للشخصيات، فيما يوازن المونتاج من إيفان شيف بين المشاهد العاطفية والمطاردات المكثفة.

وفي حين أن الموسيقى التصويرية لألكسندر ديبلا تضيف عمقا إنسانيا للصراع، بعيدا من موسيقى الرعب التقليدية، فإن الديكورات والأزياء تعكس التوازن بين الطابع التاريخي واللمسة الخيالية.

إلا أن ذلك لا يلغي بعض العثرات، فالفيلم الذي يستغرق (ساعتين ونصف الساعة تقريبا) يبدأ بداية بطيئة عبر التركيز على حياة فيكتور وعلاقاته العائلية، وهو ما يؤجل الوصول الى ذروة الصراع، كما أن الحوارات تأتي طويلة أحيانا وتفسر المشاعر والدوافع بشكل مباشر، أقرب إلى التلقين، مما يقلل الغموض الرمزي الذي يميز الرواية الأصلية.

لا ينافس دل تورو الأفلام السابقة بقدر ما يعيد تعريف أسئلة الرواية في سياق معاصر، مقدما فرانكنشتاين كأنه يروى للمرة الأولى

ويلاحظ كل من شاهد الفيلم ان الديكورات الضخمة وكثافة التصميم والإضاءة الخافتة والأزياء المزركشة على نحو مبالغ فيه، أثقلت سلاسة السرد البصري، إذا جاز التعبير. وفي حين رأى البعض أن التصرف في وقائع الرواية شكل ميزة إضافية للفيلم، غير أن آخرين رأوا فيه نقطة ضعف، فالتعديلات الكبيرة على النص الكلاسيكي، مثل منح الوحش فرصة للبقاء على قيد الحياة في النهاية، قد تثير استياء محبي الرواية الأصلية.

AFP / Stephane de Sakutin
(من اليسار) تيد ساراندوس، ميا غوث، جاكوب إلوردي، غييرمو دل تورو، أوسكار آيزاك، وألكسندر ديبلات، على السجادة الحمراء لعرض "فرانكنشتاين" في باريس، 10 أكتوبر 2025

ويبقى أن ما يسجل لدل تورو، هو أنه يقدم قراءة سينمائية لاحدى الكلاسيكات عبر منحها حساسية معاصرة تنقلها من دائرة الرعب التقليدي إلى فضاء الفلسفة، ليمثل الفيلم تجربة غنية تمزج بعدسة خبيرة، بين جماليات الصورة وثقل الأسئلة الإنسانية.

font change

مقالات ذات صلة