"نحن" الرواية الديستوبية الأولى بتوقيع الروسي زامياتين

ترياق مضاد لكل الشموليات القاتلة

غلاف رواية "نحن"

"نحن" الرواية الديستوبية الأولى بتوقيع الروسي زامياتين

الديستوبيا نوع أدبي يستشرف مستقبلا قاتما بهدف فضح انزلاق مجتمع راهن نحو نظام شمولي أو استهلاكي مدمر. وإذ تنسب ريادته إلى رواية "عالم شجاع جديد" (1932)، لألدوس هكسلي، تعتبر رواية "1984" (1949)، لجورج أورويل، رائعته الأشهر.

الحقيقة التي يجهلها كثيرون هي أن الرواية الديستوبية الأولى وضعها الروسي يفغيني زامياتين (1884 – 1937)، وتحمل عنوان "نحن" (1920). عمل ألهم روايتي هكسلي وأورويل المذكورتين إلى حد دفع بعض النقاد إلى اتهامهما – جورا – بالانتحال. لذلك، نغتنم مناسبة صدور ترجمة فرنسية جديدة له عن دار "أكت سود" الباريسية، للتعريف به وبالثورة التي أحدثها داخل الأدب، شكلا ومضمونا.

تجدر الإشارة بداية إلى أن زامياتين، حين كتب "نحن" عام 1920، كان مهندسا بحريا لامعا، وكاتبا معروفا لقصص وروايات قصيرة تستمد موضوعاتها من حياته المليئة بالمغامرات.

بلشفي منذ عام 1905، شارك في ثورة أكتوبر 1917 التي حملت الشيوعيين إلى الحكم في وطنه، وسخر قلمه للمساهمة في الجهد النشري والتربوي الذي قاده النظام السوفياتي آنذاك. لكن لأن حسه النقدي الحر بقي يقظا، لاحظ انحراف النظام المذكور في اتجاه شمولي، فكتب "نحن".

السلطة الجديدة في وطنه رأت في هذه الرواية "عملا هرطوقيا بعنف"، فمنعت نشرها، لكن نسخا منها مخطوطة أفلتت من الرقابة وقرأت في موسكو ولينينغراد، بينما لاقت ترجمتها الإنكليزية رواجا واسعا في الولايات المتحدة فور صدورها عام 1924. وحين صدرت ترجمتها التشيكية عام 1927، استخدمت ذريعة لملاحقة زامياتين قضائيا، مما أفضى إلى ما يعادل حكما بالإعدام الأدبي عليه.

وصفت "الموسوعة الأدبية السوفياتية" الرواية بـ"منشور كريه ضد الاشتراكية". وهذا ما يفسر وجوب انتظار عام 1988 كي يسمح بنشرها في روسيا

عام 1930، وصفت "الموسوعة الأدبية السوفياتية" الرواية بـ"منشور كريه ضد الاشتراكية". وهذا ما يفسر وجوب انتظار عام 1988 كي يسمح بنشرها في روسيا، علما أن طبعة روسية كاملة لها كانت قد صدرت في نيويورك عام 1952.

السعادة الإلزامية

أحداث الرواية تدور في مستقبل بعيد، لكن ليس من الصعب على قارئها أن يحزر بأنها تحذر من الأخطار التي كانت تحدق بزمن كاتبها. كيف؟ عبر تخيل هذا الأخير فيها سيناريوا كابوسيا يحدث بعد ستة قرون من عصرنا، ونرى فيه العالم المتحضر منظما على شكل "دولة موحدة" يحكمها "المنعم" بسلطة مطلقة. دولة يعيش الناس فيها داخل مدينة زجاجية مغلقة، بعدما نفيت الطبيعة خلف "السور الأخضر"، ويخضعون لـ"سعادة" إلزامية يملي شروطها "المنعم"، ويحملون أرقاما بدلا من أسماء.

في هذه الدولة، أي انحراف عن القواعد يمكن أن تكون تكلفته الموت. وبينما يعتبر الحب والأحلام أمراضا نفسية، يخضع النشاط الجنسي لتنظيم صارم من السلطة.

لسرد هذه الديستوبيا، يبتكر زامياتين راويا يعرف بـ"د-503"، وهو مهندس عبقري يعمل على بناء مركبة فضائية تسمى "الكاملة"، هدفها نشر "السعادة" بالقوة في مختلف أنحاء الكون. في عالم "د-503"، يتسلط علم الرياضيات على كل شيء، حتى على الشعر. وفي وقت فراغه الذي لا يتجاوز ساعتين في اليوم، يواظب على كتابة يومياته، ممجدا هذا النظام التوتاليتاري... قبل أن يلتقي "إي-330"، وهي امرأة جريئة ومتمردة توقظ الرغبة والأسئلة داخله، فيقع في حبها ويستعيد شيئا فشيئا روحه.

"نحن" هي إذن رواية يرتفع فيها صوت واحد، صوت رجل من المستقبل مولع بـ"الوضوح" و"النظام الهندسي"، لكن سرعان ما يقتحم سديم الحب عالمه، فيتحول تدريجيا من مجرد رقم إلى فرد بفعل تفجر الرغبة داخله، واكتشافه جمال العالم الذي كان مخفيا عن نظره، واختباره حرية لم يكن يعلم بوجودها. عالم رياضيات عقلاني كان يكتب مرافعة تمجد "الدولة الموحدة"، وإذ به ينتقل إلى وصف زيفها ودمارها الوشيك، المحتوم.

غلاف رواية "1984"

اللغة التي شحذها زامياتين لكتابة هذه الرواية، تحمل في ذاتها فعل التدمير. فبدلا من أن تحاكي الصروح الزجاجية التي يعيش "د-503" في ظلها، تفجر كمالها الهندسي. لغة حية، متشظية، تنفر من الشفافية والتنظيم الدقيق، وتواجه النظام الذي يقوم عليه هذا العالم اليوتوبي بتصادم كلماتها، بأصداء ترتفع داخلها، بالفجوات التي تعتريها وتقطع نفَسها، بجمل ممزقة وغير مكتملة، وباستعارات حادة كالشفرات.

هكذا تشكل الكتابة الحداثية في "نحن" الوسيلة لاستدعاء الفوضى التي تحاول اقتحام "المدينة الفاضلة"، تماما كما تشكل المرأة التي يفتن الراوي بتمردها وإصغائها إلى رغباتها، الوسيلة لتغيير مسار التاريخ.

رواية يرتفع فيها صوت واحد، صوت رجل من المستقبل مولع بـ"الوضوح" و"النظام الهندسي"، لكن سرعان ما يقتحم سديم الحب عالمه، فيتحول تدريجيا من مجرد رقم إلى فرد

المثير في "إي-330" أنها لا تربط بين الإيروسية والتحرر السياسي فحسب، بل تستثمرهما لجر الراوي - ذلك الرجل الذي لم يولد من أم، ويخضع لأب واحد مستبد - إلى العوالم السفلى، إلى الجهة الأخرى من العالم، فيدرك "رسول الخط المستقيم" هذا، شيئا فشيئا، أن زمن الهندسة المسطحة قد انقضى. ولتمثيل هذا التحول، يضخ زامياتين في نصه إيقاعا يشي بعالم ينتفخ مثل الجليد، ثم يتشقق، قبل الانهيار، فيما تحوم في سمائه طيور سوداء.

وعلى الرغم من خضوع الراوي في الصفحات الأخيرة لعملية جراحية في دماغه تعيده إلى "الرشد"، وفقا لمقاييس السلطة، فيشاهد تعذيب حبيبته أمام عينيه، دون حراك، ويستشهد بعبارة لينين الشهيرة، "انتصار العقل"، فإن القارئ، بفعل رد عكسي، لا يسعه في خاتمتها سوى أن يتمنى انتصار الثورة على النظام، انتصار نيتشه على هيغل وماركس.

TASS / AFP
اشتباكات بين نشطاء بلشفيين وقوات الحكومة المؤقتة في شوارع بتروغراد، 4 يوليو 1917، خلال موجة تظاهرات وإضرابات وتمردات عسكرية في العاصمة الروسية

قصيدة حداثية

يوتوبيا مضادة تستبق كل شموليات القرن العشرين، تقرأ رواية "نحن" كقصيدة حداثية طويلة تنبه إلى ضرورة عودة الثورة لمواجهة حداثة تهرس الفرد تحت وطأة الجماعة والتكنولوجيا. ومن خلال الربط بين التحرر السياسي، ورغبات المرأة، والكلمة الحرة، تحتل مكانها في مصاف أبرز الكتابات الشعرية الطلائعية الروسية في مطلع القرن الماضي.

TASS / AFP
مقاتلون بلشفيون يلتقطون صورة مع شاحنة صغيرة في بتروغراد، نوفمبر 1917، قبيل اندلاع الثورة التي أطاحت حكومة كيرينسكي المؤقتة مع اقتحام قصر الشتاء

ولفهم محركات كتابتها وراديكالية خطابها، لا بد من العودة إلى عام 1920 الذي خط زامياتين خلاله نصها. عام كان قد خفت فيه وهج ثورة أكتوبر، وبدأت الحماسة التي أثارتها تتبدد، فلم تخلف سوى ومضة عابرة من الإبداع والحرية، سرعان ما صادرها "موظفون لطفاء"، كما كتب ألكسندر بلوك بسخرية قاتمة عام 1921. وقد أدرك زامياتين هذا الخطر مبكرا، فكانت روايته هذه تعبيرا عن قدرة الفن على الإدانة والمقاومة، وعن معركة لا تنتهي للحفاظ على الإبداع حيا.

لكن عدم رؤية في "نحن" سوى نقد للنظام السوفياتي هو اختزال جائر لقيمتها، إذ ثمة مصدر إلهام آخر لها، غاب عن بصيرة نقاد كثر، ونقصد نظام "تايلور" (نسبة إلى المهندس الأميركي فريدريك تايلور) الذي اختبر زامياتين آثاره الرهيبة خلال إقامته في إنكلترا الصناعية سنة 1916، حيث كان يشرف على بناء كاسحة جليد. آثار يفضحها بدهاء في روايته حين يضع على لسان راويه القول التالي: "نعم، بالتأكيد كان تايلور الأثر عبقرية بين الأقدمين. صحيح أنه لم يذهب إلى حد توسيع منهجه ليشمل حياتنا كلها، خطواتنا كلها، أيامنا بأكملها – لم يعرف كيف يجعل نظامه ساريا أربعا وعشرين ساعة في اليوم. لكن مع ذلك، كيف أمكن تأليف مكتبات كاملة عن كانط أو غيره، فيما بالكاد انتبه أحد إليه! إنه المستبصر الذي استطاع أن يتوقع المستقبل قبل ألف عام من حدوثه".

ما تخيله تايلور لعالم العمل - تقسيم المهام وتسخير الإنسان للآلة – عممه زامياتين في روايته على كامل الحياة. ففي "الدولة الموحدة"، كل شيء يخضع لتخطيط وتقسيم صارمين، وفقا لـ"جداول الزمن": النوم، العمل، الوجبات، النزهات، المحاضرات... كلها تتم إلزاميا في الساعة نفسها وللمدة نفسها.

ولأن زامياتين استهدف أيضا في "نحن" ذلك الإيمان بالتقدم من طريق العقل والعلم، تماما كما سبقه إلى ذلك كاتبه المفضل دوستويفسكي في "رسائل من تحت الأرض" (1864)، فإن قراءة "نحن" - أو إعادة قراءتها – تكشف بعدها الرؤيوي اليوم في ظل الشفافية الرقمية للمعطيات التي ننتجها بكميات هائلة، من دون وعينا، وفي ظل الخوارزميات التي باتت تتحكم في جوانب كثيرة من حياتنا اليومية.

في زمن الرقابة الاجتماعية، واحتمال بروز ذكاء اصطناعي مستقل، وازدياد الدعوات لتقديم النظام والأمن على الحرية، تكتسب "نحن" نبرة نبوئية يتعذر إنكارها

وفي زمن الرقابة الاجتماعية، واحتمال بروز ذكاء اصطناعي مستقل، وازدياد الدعوات لتقديم النظام والأمن على الحرية، تكتسب "نحن" نبرة نبوئية يتعذر إنكارها.

لا غرابة إذن أن تصبح هذه الرواية عملا مرجعيا تتجذر فيه ليس فقط أعمال كلاسيكية كبرى، بل أيضا روايات حداثية فاضحة لانحرافات عصرنا، مثل "هذا اليوم الكامل" لإيرا ليفن، و"المعدات اللازمة" لتوم وولف، و"ساحر الكرملين" لجوليو دا إمبولي.

غلاف رواية "عالم جديد شجاع"

ولإدراك عمق هذا التجذر، يكفي أن نذكر أن هكسلي في "عالم جديد شجاع" استثمر إلى أقصى حد فكرة زامياتين المتعلقة بعقلنة الولادات وتصنيف البشر، بينما ذهب أورويل في "1984" إلى حد محاورة "نحن" بنيويا، فاستعاد حبكتها وخاتمتها، وإن نقلهما إلى سياق حرب باردة كونية. وفي الحالتين - كما في رواية زامياتين - يواجه الإنسان قدرا ديستوبيا حالكا يحرم فيه من آخر احتمالات الأمل.

font change

مقالات ذات صلة