البرلمان المغربي... أزمة ثقة وتخبط المعارضة

يشهد المشهد السياسي والبرلماني في المغرب حاليا فترة استثنائية من التوتر والتصعيد

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أعضاء مجلسي البرلمان المغربي في جلسة مشتركة بالعاصمة الرباط، في 23 يناير2023

البرلمان المغربي... أزمة ثقة وتخبط المعارضة

يشهد المشهد السياسي والبرلماني في المغرب حاليا فترة استثنائية من التوتر والتصعيد، بلغت ذروتها في مشادات لفظية عنيفة تحت القبة التشريعية. حيث تجاوزت هذه الأحداث حدود السجال السياسي التقليدي، لتكشف عن صراع مرير متعدد الأبعاد تتداخل فيه الآيديولوجيا والمصالح الاقتصادية ومحاولات الإقصاء السياسي.

لم تكن المشادة الأخيرة بين وزير العدل عبد اللطيف وهبي، ونواب "حزب العدالة والتنمية"، مجرد حادثة فردية، بل كشف عن تدهور في الخطاب البرلماني وتغليب النزعة الشخصية والحزبية الحادة على المصلحة العامة.

ويعكس هذا الأداء ابتعادا واضحا عن الوظائف الدستورية الأساسية للبرلمان، أي التشريع ومناقشة البرامج الحكومية، إذ تحول المشهد إلى ساحة لتصفية الحسابات والاتهامات الشخصية، ووصل التوتر إلى ذروته عندما استخدمت كلمات نابية، وكاد أن يتطور الموقف إلى تشابك بالأيدي.

هذه الواقعة، التي نقلها البث التلفزيوني الرسمي مباشرة، أثارت موجة استنكار واسعة، مؤكدة أن ما حدث يمثل "اعتداء لفظيا على سلطة منتخبة وإهانة لكرامة المجلس وهيبته".

وأجمع مراقبون أن حدة الخطاب لم تكن وليدة اللحظة، بل هي رد فعل على الضغط المتزايد من قبل نواب المعارضة الذين يتهمون الحكومة بإهدار المال العام، فضلا عن إثارة استجوابات بشأن مزاعم فساد في القطاع العقاري.

تغليب العداء الآيديولوجي بين "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" و"حزب العدالة والتنمية" على الحاجة للتوحد في العمل الرقابي، أدى عمليا إلى شل قدرة البرلمان على المساءلة الفعالة

ويسعى "حزب العدالة والتنمية"، الذي عانى من صدمة انتخابية قاسية قلصت نوابه إلى 13 نائبا فقط، جاهدا للتعافي واستعادة ثقة قاعدته. وفي هذا الصدد يعتمد الحزب على استراتيجية الحضور الكثيف في كل القضايا، مؤكدا أنه "الزعيم الحزبي الوحيد الحاضر" في المشهد، ليعيد بذلك تأطير الحزب ككتلة برلمانية مناهضة للسياسات الحالية.

هذه الدينامية خلقت توجسا لدى خصومه الرئيسين، وخاصة حزبي "التجمع الوطني للأحرار" و"الأصالة والمعاصرة"، اللذين يعملان على قطع الطريق على عودة الإسلاميين، مما يفسر حدة المواجهة في البرلمان.

الصراع الآيديولوجي وتشتت المعارضة

زادت حدة التوتر بفعل الصراع الآيديولوجي التاريخي بين التيارات اليسارية والإسلامية.

في الظاهر يرجع هذا الصراع إلى التباين التاريخي حول مرجعية الدولة والمجتمع، حيث يمثل اليسار تاريخيا تيار الحداثة الاجتماعية (قضايا الحريات الفردية والمساواة)، بينما يمثل الإسلاميون تيار المرجعية الدينية والتحفظ الاجتماعي.

.أ.ف.ب
برج الملك محمد السادس، في العاصمة المغربية الرباط 21 أغسطس 2023

واستخدم بعض الساسة من الأحزاب اليسارية عبارات دينية تحت قبة البرلمان، تتناقض مع خلفيتها اليسارية والماركسية.

وقد كشف هذا الصراع الآيديولوجي الساخر عن التشتت والضعف داخل صفوف المعارضة. وقد تجلى هذا الضعف بأوضح صورة في فشل طلب بحجب الثقة عن حكومة أخنوش، في شهر مايو/أيار الماضي، حيث اتهمت أحزاب معارضة (العدالة والتنمية، التقدم والاشتراكية، الحركة الشعبية) "حزب الاتحاد الاشتراكي" بـ"التنصل المشبوه وغير المسؤول" من التزامه بالمبادرة الرقابية.

إن تغليب العداء الآيديولوجي بين "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" و"حزب العدالة والتنمية" على الحاجة للتوحد في العمل الرقابي، أدى عمليا إلى شل قدرة البرلمان على المساءلة الفعالة، وخدم مصالح الحكومة بشكل مباشر.

غير أنه لا يجب إغفال رأي آخر يقدم منظورا مخالفا، يرى أن تحليل الصراع بين "حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" و"حزب العدالة والتنمية"، بوصفه "خلافاً آيديولوجياً" هو تحليل سطحي وبه تضخيم.

ويؤكد هذا الرأي أن التوتر الحالي هو في جوهره صراع حسابات ومصالح ضيقة، وليس اصطداما مبدئيا بين التيارين المختلفين.

سبب تصاعد التوتر وشدة الهجوم من الأطراف الحكومية والمعارضة الحليفة لها (مثل "الاتحاد الاشتراكي") هو العمل على إسقاط شخصيات سياسية بعينها من المشهد

ويرى مراقبون من التيار اليساري أن "حزب الاتحاد الاشتراكي" ابتعد عن الآيديولوجيا التي يعلنها اسمه وتاريخه العريق (الاشتراكية)، مما يجعل خلافاته مع الإسلاميين لا تنبع من التزام مبدئي بقيم اليسار.

وكان هناك في الماضي تعاون سياسي بين التيارين، حيث ساند إسلاميو "العدالة والتنمية" حكومة "التناوب" التي كان يقودها الزعيم الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي بين سنتي 1998 و2002، وكانت هذه المساندة توصف آنذاك بأنها "مساندة نقدية". هذه السابقة تثبت أن التعايش السياسي بين الطرفين ممكن تاريخيا، وتُقوّض فكرة العداء الآيديولوجي المطلق.

يذهب الرأي المغاير إلى أن الخلاف الحقيقي ينحصر في "الحسابات التي تجري في الغرف المغلقة". وعليه، فإن سبب تصاعد التوتر وشدة الهجوم من الأطراف الحكومية والمعارضة الحليفة لها (مثل "الاتحاد الاشتراكي") هو العمل على إسقاط شخصيات سياسية بعينها من المشهد.

وبناء على هذا المنظور، فإن المشهد لا يُفسر بصراع مبادئ، بل بصراع على السلطة والنفوذ السياسي يتخذ من الآيديولوجيا واجهة للتغطية على تحالف مصلحي يسعى لتأمين مواقع الأطراف الحالية في المشهد وتقليص المنافسة.

font change