استفاقة أميركية متأخرة تجاه أفريقيا تلعب على وتر أزمة الديون والغذاء

إعلام الدول المشاركة في القمة

استفاقة أميركية متأخرة تجاه أفريقيا تلعب على وتر أزمة الديون والغذاء

القاهرة: على مدار ثلاثة أيام، انعقدت القمة الأميركية- الأفريقية الثانية في واشنطن بحضور 49 رئيس دولة أفريقية وعدد من رؤساء الدول والحكومات، والمجتمع المدني والقطاع الخاص، فضلاً عن مفوضية الاتحاد الأفريقي، تحت عنوان عريض يتعلق بتعزيز الشراكة بين الولايات المتحدة ودول القارة، لكنه يحمل بين أحشائه العديد من القضايا الأخرى سواء المعلنة أو الخفية.
ركزت القمة كثيرًا على تأثيرات الحرب الروسية- الأوكرانية على الأمن الغذائي للقارة وهو أمر متوقع في ظل اعتماد الكثير من دولها على القمح المستورد سواء من روسيا أو أوكرانيا على حد سواء، وامتدت أيضًا إلى التحديات الأمنية والسياسية للاقتصاد العالمي وملفات الاستثمار، والديمقراطية والحوكمة، وأزمات التغير المناخي، والصحة والأمن، وتبادل الخبرات العلمية.
إلى جانب الجدول المعلن واللقاءات الثنائية، أرادت واشنطن تحقيق عدة مآرب بعدما استفاقت أخيرًا على فقدان قوة تأثيرها في القارة السمراء أمام روسيا والصين، خاصة بكين التي استطاعت على مدار عقود رفع قيمة التبادل التجاري مع دول القارة إلى 254 مليار دولار حتى عام 2021، كما يتعزز تواجدها بشكل مستمر مع مبادرة الحزام والطريق، وفتحها خط تمويل لمشروعات الدول الأفريقية.

محاولة انتزاع إدانة أفريقية لروسيا
الاستفاقة الأميركية جاءت أيضًا مع الضربة التي تعرضت لها محاولات واشنطن في انتزاع إدانة أفريقية للحرب الروسية بعدما جاء الموقف الرسمي لغالبية الدول على الحياد أو مؤيد لروسيا أو مدين لفكرة الحرب بحد ذاتها، لكن في الوقت ذاته دون موافقة واشنطن في مساعيها لإدانة موسكو.
العلاقة بين القمة الأفريقية الأميركية والحرب الروسية شغلت بال الكثير من الصحافيين في المؤتمر الصحافي الذي عقده البيت الأبيض قبيل القمة، والذي قدم خلاله سردًا لتاريخ الدعم الأميركي للقارة السمراء منذ عهد الرئيس كينيدي عندما حصلت العديد من الدول الأفريقية على استقلالها، وبرنامج فيلق السلام (برنامج تطوعي في المجالات الإنسانية أسسه كينيدي ومستمر حتى اليوم)، والشراكات الدائمة خاصة الثقافية والتبادلية، مثل برامج فولبرايت (مخصص للمُعلمين) والزائر الدولي (منح دراسية)، ومبادرة القيادة الأفريقية الشابة التي تم إطلاقها في  2010 لتدريب الشباب على القيادة وريادة الأعمال.

جانب من الاجتماعات

رهان أميركي على التاريخ
في التوقيت ذاته حاول مسؤول البيت الأبيض الإشارة إلى الأضرار التي تعرضت لها القارة الأفريقية من الحرب الروسية الأوكرانية فيما يتعلق بصادرات الأسمدة والقمح من أوكرانيا، والتي وعدت واشنطن بوضع حلول لتعزيز مرونة النظم الغذائية، ليس فقط لمعالجة الأزمة الفورية لكن أيضًا للبحث عن حلول متوسطة وطويلة الأجل.
الرهان الأميركي على التاريخ لاستعادة دورٍ في أفريقيا يصطدم بوجود دور روسي تاريخي أيضًا، أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التذكير به في القمة الروسية- الأفريقية التي احتضنتها مدينة سوتشي الروسية في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 حينما أشار إلى دور الاتحاد السوفياتي في دعم حركات التحرر الوطني الأفريقية التي أنجزت الاستقلال، كما تعمل روسيا أيضًا على توفير القمح للدول الفقيرة والتذكير بأن ممر الحبوب الذي وفرته للحبوب الأوكرانية تم توجيه شحناته لصالح الدول الغنية وليس الفقراء.
الدكتورة هبة البشبيشي، أستاذ العلوم السياسية وخبيرة الشؤون الأفريقية، ترى أن واشنطن قيمت نتائج القمة الأفريقية الأميركية الأولى في 2014 ما أظهر تمامًا الفشل في إيجاد موطئ قدم لها، فغيرت الاستراتيجية في القمة الأفريقية الجديدة، إذ تتخلى هذه المرة عن النظرة الفوقية ووضع مصلحتها في المقام الأول، وتحاول إيجاد مكاسب لجميع الجالسين على الطاولة وليس للأميركيين فقط.

تغير التفكير الأميركي
تشير البشبيشي إلى أن تغير التفكير الأميركي البرغماتي يظهر في التركيز على ملف الدعم بضخ استثمارات بقيمة 55  مليار دولار، إلى جانب دعم التكنولوجيا في بعض الدول الأفريقية، وتغير فكرة المساعدات العسكرية من فرض قواعد عسكرية مثل قاعدة النيجر إلى مساعدة الجيوش الوطنية لمحاربة الإرهاب عن طريق المساعدات والتدريب، بجانب المكسب الأكبر في دعم وجود مقعد دائم لأفريقيا في مجلس الأمن.
محللون سياسيون أميركيون يرون أن الحرب الروسية الأوكرانية أظهرت الفجوة الكبيرة بين واشنطن والقارة السمراء، حيث شعرت واشنطن بصدمة بعد رفض معظم دول القارة إدانة العملية العسكرية الروسية، وربما يكون ذلك الدافع وراء دخول الولايات المتحدة بقوة في مجال الاستثمار والتنمية بتخصيص 55 مليار دولار لأفريقيا على مدى السنوات الثلاث المقبلة.
تحاول أميركا خطب ود الأفارقة حاليًا فمع الدعم الاستثماري، تسعى أيضًا لدعم ضم الاتحاد الأفريقي لمجموعة العشرين رسميًا، استجابة لمطلب رئيس الاتحاد، ماكى سال إلى جانب إنشاء مجلس استشاري للجالية الأفريقية بالولايات المتحدة، ليقدم المشورة للرئيس الأميركي.
تعي واشنطن أن روسيا لديها نفوذ في أفريقيا حاليًا على مستوى الاستثمارات خاصة في قطاع التعدين والنفط، لكن تركيزها مُنصب أكثر على الصين، على اعتبار أن الحرب مع أوكرانيا والعقوبات الدولية تقلص من قدرات روسيا الاقتصادية مستقبلاً وسعيها للعب دور أكبر على الصعيد الدولي.

 زعماء من القارتين في القمة

التواجد مرهون بتنفيذ الوعود
تظل الرغبة الأميركية في التواجد بقوة في القارة الأفريقية مرهونة بتنفيذ وعودها فيما يتعلق بضخ الاستثمارات المعلن عنها بالفعل، ومدى استمرار تلك السياسة على المدى البعيد، فباراك أوباما كانت لديه النية لتعزيز العلاقة مع أفريقيا فزارها مرتين وألقى خطابين تاريخيين منها أحدهما إلى العالم الإسلامي في القاهرة، والآخر للأفارقة في أكرا بغانا ثم عززهما بالقمة الأمريكية الأفريقية الأولى 2014، قبل أن يسير خلفه دونالد ترامب في طريق آخر بالانكفاء على الذات وإعلاء شعار «أميركا أولا».
الدكتور حمدي حسن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، يشير في دراسة حديثة، إلى التنافس الشديد بين الصين وأميركا على أفريقيا، فبينما كانت واشنطن الشريك الأكثر أهمية تاريخيًا لكن الصين أصبحت قوة بارزة في أفريقيا خلال العشرين عاما الماضية بعدما ضخت استثمارات ضخمة في القارة السمراء خاصة في البنية التحتية.
بحسب حسن، فإن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تكون بديلاً للوجود الصيني والقوى الصاعدة الأخرى في ظل الحاجة إلى مزيد من الأموال لتطوير البنية التحتية الأفريقية، علاوة على المشروطية السياسية والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، فالغرب عمومًا غير معتاد على منح الأموال أو القروض دون شروط سياسية. ما يجعل القروض الصينية أكثر جاذبية. بالإضافة إلى ذلك، هناك فرص إضافية، مثل بنك مجموعة البريكس الذي يضم روسيا والصين وتحظى جنوب أفريقيا بعضويته.
الولايات المتحدة ذاتها تعي تلك الفكرة جيدًا، حتى إن نائب وزير التجارة دون جريفز، قال إن الولايات المتحدة تخلفت عن الركب حيث تجاوزت الصين الاستثمار الأجنبي المباشر في أفريقيا، لكنه يعتبر في الوقت ذاته أن الولايات المتحدة لا تزال الشريك المفضل في القارة السمراء.
جريفز، قال في تصريحات صحافية قبل ساعات من وصول الضيوف الإفارقة إن واشنطن أبعدت أعينها عن الكرة (تعبير مجازي عن ترك الساحة مفتوحة للاعب الصيني)، وعلى المستثمرين والشركات الأميركية أن يلعبوا دور اللحاق بالركب وجلب أفضل التقنيات والابتكارات، وأعلى المعايير لبناء القدرات في البلدان الشريكة لواشنطن بدلاً من استغلالها.

اتهامات أميركية
ورغم تأكيد الخارجية الأميركية عدم وجود علاقة بين سعيها لتعزيز العلاقات مع أفريقيا والصين، لكن التصريحات المتواترة عنها تشير لارتباط وثيق فوزير الخارجية أنطوني بلينكين قال خلال زيارته لنيجيريا العام الماضي، إن «صفقات البنية التحتية الدولية غالبًا ما تكون غامضة وقسرية، وتثقل كاهل البلدان بديون لا يمكن إدارتها»، مذكرا بتصريحات لنائب الرئيس السابق ترامب مايك بنس كانت أكثر وضوحًا، إذ اتهم خلالها بكين بـ«دبلوماسية الديون» في أفريقيا وأماكن أخرى من العالم.
في المقابل، رفض سفير الصين لدى الولايات المتحدة، تشين غانغ فكرة فخ الديون الصينية وأكد أن بلاده كانت منذ فترة طويلة صادقة في التعامل مع أفريقيا، باعتبارها السوق الناشئة النابضة بالحياة في المستقبل.
يقول الخبير الاقتصادي نادي عزام إن أفريقيا هي المستفيد حاليا من الناحية الاقتصادية من الصراع الصيني الأميركي الروسي على النفوذ، إذ يفتح أمامها استثمارات أكبر وآفاقا تمويلية جديدة، مع نقل للتكنولوجيا، مضيفًا: «أقوى قوتين في التقنية والاقتصاد يتنافسان حاليًا على أيهما يمد بها القارة السمراء أولاً».
يبدي المسؤولون الأميركيون قلقًا منذ سنوات إزاء انتشار شبكة «هواوي» الصينية القوية للغاية في جميع أنحاء القارة الأفريقية حاليا، إذ  نشرت ما لا يقل عن 200 ألف كيلومتر من الألياف الضوئية حتى 2019 ما يقرب من 50 في المائة من شبكات 3G و4G، ووصلت بخدماتها لثلثي السكان من خلال أكثر من 200 مشغل.
وربما كان ذلك الوازع وراء مناقشة القمة الأفريقية- الأميركية قانون البرمجة «النمو في أفريقيا»، الذي تم إقراره عام 2000، وربط رفع الرسوم الجمركية بالتقدم الديمقراطي، والذي ينتهي العمل به عام 2025، بينما أكد مسؤول في البيت الأبيض أن القمة الأخيرة تختلف عن 2014 في ضمها حضورا ليس على مستوى الحكومات فقط ولكن القطاع الخاص ونشطاء المجتمع المدني والصحافيين أو بمعنى آخر القوى الناعمة في المجتمعات الأفريقية.

 إعلام الدول المشاركة في القمة


الدور الصيني بارز في أفريقيا
بحسب بيانات المعهد الأسترالي للسياسات الاستراتيجية، فإن بكين شيدت 266 مشروعًا تكنولوجيًا في أفريقيا تتراوح من شبكات اتصالات 4G و5G إلى مراكز البيانات ومشاريع المدن الذكية التي تعمل على تحديث المراكز الحضرية وبرامج التعليم، كما أن لديها تعاقدات ضخمة مع الحكومات ففي 2020 تعاقدت الكاميرون معها لتجهيز مراكز البيانات الحكومية، وقبلها بعام وقعت كينيا مع الشركة ذاتها لتقديم تقنية للمدن الذكية والمراقبة بقيمة 174 مليون دولار.
ويضيف عزام أن الدور الصيني بارز في أفريقيا خاصة مع تحولها لأحد أكبر المقرضين بمضاعفة قروضها 3 أضعاف في 12 عامًا، خاصة للدولة المشاركة في مبادرة الحزام والطريق، وبالتالي أصبحت منافسًا لصندوق النقد والبنك الدوليين، ومن مصلحة الدول الأفريقية الانفتاح على جميع مصادر التمويل والاستثمار دون أن تقحم نفسها في معارك التنافس العالمي.
ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن أفريقيا هي أرض الفرص وتنامى دورها بعد أزمة الطاقة حيث تمتلك شمسا هي الأكثر سطوعًا ويمكن أن تصبح المصدر الأول للهيدروجين الأخضر الذي يحتاج لطاقة متجددة في إنتاجه، علاوة على أنها قوة بشرية ضخمة تعتمد على تصدير المواد الخام واستيراد المواد المصنعة أي إنها سوق مستقبلية واعدة.
 تعاني أفريقيا حاليًا من أزمات في ملف الديون إذ تجاوز إجمالي الديون المستحقة على القطاعين العام والخاص نحو تريليون دولار عام 2021، بينما تشير الإحصائيات الدولية إلى وجود 10 دول بينها يتجاوز حجم ديونها 75 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مما يجعل الموازنات تحت ضغط عبء الفوائد والأقساط، كما تقلل المرونة المتاحة من أجل التوسع في الاستثمارات المحلية، الأمر الذي يجعل الاستثمار الأجنبي أيًا كان لونه وجنسيته ومأربه هدفا أساسيًا من أجل النمو الاقتصادي.

font change