"حرب خفية" على ممرات الخليج والقرن الأفريقي

دور محوري للمنطقة في صياغة التحالفات الدولية

Nash Weerasekera
Nash Weerasekera

"حرب خفية" على ممرات الخليج والقرن الأفريقي

يرتكز جيوبوليتيك الشرق الأوسط على مجموعة من نقاط القوة، منها الاقتصادية المستندة الى ثرواته الطبيعية من النفط والغاز وامتلاك مساحات زراعية هائلة، بالإضافة الى ديموغرافيا بشرية شابة (يشكّل الشباب ما نسبته 32% من السكان)، لكن المعطيات الجغرافية وضعته على نقاط تقاطع المصالح الدولية وفي صلب استراتيجياتها منذ ما قبل اكتشاف موارده الطبيعية وتشكّل دوله.

لقد جعلت المضائق البحرية الخمس، مضيق جبل طارق، مضيق باب المندب، مضيق هرمز، قناة السويس، والبوسفور والدردنيل، بالإضافة الى الخليج العربي والبحر الأحمر، من الشرق الأوسط النقطة المحوريّة في استراتيجيات القوى الكبرى ذات الثقل البحري وخطها الدفاعي الذي ينبغي التمسّك به أمام أيّة قوة معاديّة. مكّنت هذه المعطيات الجغرافية الشرق الأوسط من الاحتفاظ بثقله الجيوسياسي خلال السباق الاستعماري في القرن التاسع عشر وخلال التنافس الأيديولوجي بين قطبيّ العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، كما أكسبته ميزات جديدة مع انتهاء الحرب الباردة حين تغيّرت التوازنات الدولية وتلاشت مجالات التأثير التي فرضتها القوتان العظميان حيث شرعت القوى الدولية في إلقاء ثقلها نحو المنطقة بالتزامن مع تطور قدرات القوى الإقليمية.

إنّ استعراض المقوّمات الجيوسياسية لكلّ من نقاط القوة المذكورة على امتداد قرنين من الزمن تغيّر عبرهما ميزان القوى الدولي، وانتقل معه مركز الثقل من قوة استعمارية الى أخرى، يؤكّد الدور المحوري لكلّ منها في صياغة التحالفات وتحقيق المصالح على الرغم من التطور الكبير الذي عرفته الآلة العسكرية وأنظمة التحكّم ودخول التقنيات الرقمية المجالات كافة.

قناة السويس ممر دولي

تنبع أهمية القناة من أنها المكان الوحيد الذي يربط مباشرة مياه أوروبا ببحر العرب والمحيط الهندي ودول آسيا والمحيط الهادئ ويمرّ عبرها نحو 12 % من التجارة العالمية و30 % من حركة الحاويات العالمية وما يقدّر بـ7 إلى 10 % من نفط العالم، و 8 % من الغاز الطبيعي المُسال.

تمثّل قناة السويس أهمية خاصة للاقتصاد المصري باعتبارها المورد الخامس للنقد الأجنبي بعد تحويلات المصريين بالخارج والصادرات السلعية مع ارتفاع قيمة إيرادات السياحة والصادرات البترولية.

تستفيد منها الدول المطلّة على المتوسط وشمال وغرب أوروبا، وبلدان البحر الأسود وبلدان بحر البلطيق والولايات المتحدة الأميركية، وفي الجنوب بلدان شرق أفريقيا وبلدان البحر الأحمر والخليج العربي وشرق آسيا وجنوب شرق آسيا والشرق الأقصى وأوستراليا. لا تقتصر أهمية قناة السويس على أنها ممرّ مائي يربط شرق الكرة الأرضية بغربها، بل تتعداها إلى تأثيرها الجيوبوليتيكي على التجارة العالمية والسياسات الاقتصادية والأمنية التي ترسمها الدول الكبرى. وقد تسبّب إقفال قناة السويس القسري لمدة 5 أيام (من 23 مارس/ آذار 2021 لغاية 29 منه) بعد حادث سفينة «إيفر غيفين»، باضطراب سلسلة التبادل التجاري حول العالم وخسائر في الاقتصاد العالمي بلغت 9.6 مليارات دولار يوميا.

استفادت قناة السويس من الحرب الأوكرانية، حيث تسبّب الحظر الأوروبي للطاقة الروسية في بحثها عن بدائل مما عزز عبور ناقلات النفط والغاز الطبيعي عبر القناة، سواء من الخليج وجنوب آسيا إلى أوروبا أو من روسيا إلى الهند وغيرها من الأسواق الآسيوية.

يرتكز جيوبوليتيك الشرق الأوسط على مجموعة من نقاط القوة، لكن المعطيات الجغرافية وضعته على نقاط تقاطع المصالح الدولية وفي صلب استراتيجياتها منذ ما قبل اكتشاف موارده الطبيعية وتشكّل دوله

مضيق هرمز والثقل العسكري

يقع مضيق هرمز بين عُمان وإيران، ويصل ما بين الخليج العربي وخليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي. يُعتبر أهم المضائق العالمية اليوم، إذ يمر عبره 22 % من السلع الأساسية في العالم (الحبوب وخام الحديد والإسمنت) وما بين 20 إلى 30 ناقلة نفط يوميا بمعدّل ناقلة نفط كلّ ست دقائق في ساعات الذروة محمّلة نحو 40 % من النفط المنقول بحرا على مستوى العالم. يذهب 85 % من هذا النفط إلى أسواق آسيا وبخاصة إلى الهند، اليابان، كوريا الجنوبية والصين.

يبلغ عرض المضيق نحو 21 ميلا (34 كلم) في أضيق نقاطه بما يكفي لعبور أضخم ناقلات النفط في العالم، التي تزيد حمولتها على 150 ألف طن. باتت حركة الملاحة في الخليج العربي غير مطمئنة، نظرا لاستهداف إيران ناقلات النفط الذي وصل إلى عمليتين في شهر واحد أصابت ست ناقلات بترول، مما سيؤدي إلى اعتماد أحد خيارين: الأول استخدام طرق بديلة أكثر طولا وهي متاحة مما يعني زيادة كلفة النقل وأسعار الاستهلاك. الثاني، إحياء التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية (نوفمبر/تشرين الثاني 2019) بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الذي انضمّت إليه عدد من دول المنطقة وعدد من الدول الغربية والآسيوية، لتأمين الملاحة البحرية في الممرات المائية والتدفق الحر للتجارة.

صورة أرشيفية لطائرات حربية أميركية في البحرين (البنتاغون)

تتصدر الولايات المتحدة قائمة العدد الأكبر من القواعد العسكرية الأميركية في الخليج، فيما تضمّ الكويت أكبر عدد من الجنود الأميركيين في الخليج، وتضمّ قطر أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الخارج وهي قاعدة العديد، فيما يتمركز الأسطول الخامس الأميركي في البحرين.

البحرين

 مقر الأسطول الخامس للبحرية الأميركية، الذي يُشرف على منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر والمحيط الهندي، في منطقة الجفير، شرق العاصمة البحرينية المنامة، ويضمّ أكثر من 7000 جندي أميركي. ويُعتبر تأمين منطقة الخليج إحدى مهام الأسطول الأميركي الخامس.

تستضيف قاعدة الشيخ عيسى الجوية بالجزيرة طائرات مقاتلة وطائرات استطلاع ومركز عمليات للقوات الخاصة الأميركية. تعتبر الولايات المتحدة البحرين "حليفا رئيسيا من خارج الناتو".

افتُتحت في ميناء سلمان شرق البحرين في إبريل/نيسان 2018، أول قاعدة عسكرية بريطانية دائمة في الشرق الأوسط تحمل اسم "إتش إم إس الجفير" البحرية.

إنّ استعراض المقوّمات الجيوسياسية لكلّ من نقاط القوة المذكورة على امتداد قرنين من الزمن تغيّر عبرهما ميزان القوى الدولي، وانتقل معه مركز الثقل من قوة استعمارية الى أخرى، يؤكّد الدور المحوري لكلّ منها في صياغة التحالفات وتحقيق المصالح

الكويت

يتمركز في الكويت أكثر من 13000 جندي أميركي، وهي المقر المتقدّم للقيادة المركزية.

تحتفظ واشنطن بقوات ومعدات في قاعدتين جويتين وقاعدة بحرية في البلاد، حسبما ورد في تقرير لوكالة أسوشييتد برس"AP"الأميركية.

عقدت الكويت اتفاقا مع الولايات المتّحدة الأميركية عام 1987، تقوم بموجبه الولايات المتّحدة بحماية 11 ناقلة نفط كويتية تعرّضت للتهديد من جانب قوات البحرية الإيرانية في ما سُمّي بـ"حرب الناقلات".

في عام 1991 (بعد الغزو العراقي) وقَّعت الكويت مع أميركا اتفاقية للتعاون الدفاعي، تقدّم الكويت بمقتضاها تسهيلات واسعة للقوات الأميركية، كما توفّر لها قواعد تمركز جوية وبرية، ومستودعات تخزين للمعدات والعتاد.

يستضيف مطار الكويت الدولي أيضا أكبر نقطة لوجستية جوية إقليمية للجيش الأميركي. تتمركز هناك نحو 2200 مركبة تكتيكية أميركية مقاومة للألغام.

من تمرين عسكري أميركي في الكويت في 28 نوفمبر 2021. (البحرية الأميركية)

السعودية

أنهت السعودية الوجود العسكري الأميركي في أبريل/نيسان 2003، بانتقال القيادة المركزية للقوات الجوية الأميركية من قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية إلى قاعدة العديد في قطر.

تستضيف السعودية على أراضيها حاليا قوات من التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن الذي تشارك فيه دول عدة بقيادة السعودية.

مع بداية الحرب في أوكرانيا استدار العالم نحو المضيقين اللذين أصبحا جزءا من ميزان القوى في الصراع الدائر في القارة الأوروبية حيث يشكّلان الممر الإلزامي للأسطول الروسي نحو البحر الأسود

قطر

قاعدة العديد، تقع على بُعد 30 كلم جنوب غرب العاصمة القطرية الدوحة، وتُعَدّ أكبر قاعدة جوية أميركية خارج الولايات المتحدة، وواحدة من أهم القواعد العسكرية الأميركية في الخليج حيث يتمركز نحو 11 ألف عسكري أميركي، غالبيتهم من سلاح الجو، وتضمّ القاعدة مقارّ رئيسية لكلّ من القيادة المركزية للقوات الجوية الأميركية والمركز المشترك للعمليات الجوية والفضائية والجناح الـ379 للبعثات الجوية.

قاعدة السيلية تقع جنوب الدوحة، تمّ افتتاحها عام 2000، وكانت مركزا للقيادة الوسطى الأميركية في أثناء الحرب على العراق عام 2003.

القاعدة التركية وتتمركز فيها قوات بريّة تركية ضمن اتفاقية تعاون عسكري وقّعها البلدان في 19 ديسمبر/كانون الأول 2014، وصدَّق البرلمان التركي عليها في يونيو/حزيران 2017، بعد فرض أربع دول عربية حصارا على قطر.

الإمارات

قاعدة الظفرة هي مركز الوجود الرئيسي للقوات الأميركية في الإمارات، وتتمركز بها طائرات أميركية مسيَّرة وطائرات مقاتلة متطورة من طراز  F-35تحتفظ البحرية الأميركية بقاعدة صغيرة في الفجيرة على خليج عُمان. 

ميناء جبل علي الذي تستخدمه قوات المارينز، ويُعَدّ أكبر ميناء لرحلات البحرية الأميركية خارج أميركا.

القاعدة الفرنسية، معسكر السلام يُعَدّ أول قاعدة عسكرية فرنسية بحرية دائمة في منطقة الخليج، تمّ تدشينها في ميناء زايد في أبوظبي عام 2009، وينتشر نحو 700 عسكري فرنسي في الإمارات.

قاعدة المنهاد الجوية - قوات أوسترالية، تقع على بُعد 24 كيلومترا جنوب دبي، وتضمّ قاعدة أوسترالية تُعرف باسم "معسكر بايرد"، تمركزتفيه القوات الأوسترالية بعد انسحابها من العراق عام 2008، بقوام بلغ 500 جندي.

هناك تقارير غربية عن عزم الصين بناء قاعدةسريّة في الإمارات.

تحوّلت منطقة القرن الأفريقي إلى ما يمكن تسميّته بـ "بازار" للقواعد العسكرية، حيث سمح لـ 16 دولة بإقامة 19 قاعدة عسكرية في دوله

 

باب المندب و"قواعد" البحر الاحمر

يقدّر "معهد السلام الأميركي" قيمة حجم التجارة العالمية التي تمرّ عبر البحر الأحمر بــ700 مليار دولار سنويا، بالإضافة إلى قرابة خمسة ملايين برميل من المواد النفطية تعبره يوميا، ويصل عرض مضيق باب المندب في أضيق نقطة إلى 16 كلم، وتعبره أكثر من 60 سفينة تجارية يوميا، بالإضافة إلى السفن الحربية والسياحية.

يُعتبر القرن الأفريقي جزءا من الشرق الأوسط كما أنّ إثنتين من دوله - الصومال وجيبوتي - هما دولتان عربيتان من الناحية الرسمية من خلال عضويتهما في الجامعة العربية، ويمكن اعتبار اريتريا دولة شبه عربية؛ حيث إنّ العربية هي لغة رسمية إلى جانب اللغات المحلية. لقد تحوّلت منطقة القرن الأفريقي إلى ما يمكن تسميّته بـ "بازار" للقواعد العسكرية، حيث سمح لـ 16 دولة بإقامة 19 قاعدة عسكرية في دوله توزعت على الشكل الآتي:

تُعَدّ الظروف الاقتصادية المتردية لجيبوتي هي العامل الرئيس لاستضافتها القواعد العسكرية الأجنبية. لقد سعى الرئيس الحالي إسماعيل عمر جيله الذي وصل إلى سدَّة الحكم عام 1999 إلى استثمار الأهمية الجيوستراتيجية لموقع جيبوتي وتحويلها إلى مصدر أساسي للدخل حيث تشكّل الإيرادات الناجمة عن القواعد العسكرية نحو 128 مليون يورو وهو ما يعادل نحو 3 % من الناتج القومي المحلي.

تتمركز في جيبوتي 6 قواعد للولايات المتحدة الأميركية، وقاعدة لكلّ من ألمانيا، والصين، واليابان، وإيطاليا، وإسبانيا، وبريطانيا، إضافة إلى 3 قواعد فرنسية، بينها قاعدة بحرية، ومطاران، أحدهما في منطقة ساحلية، إلى جانب منطقة عسكرية تابعة للاتحاد الأوروبي.

بدوره، عمد الرئيس الإريتري أسياس أفورقي الى استغلال موقع بلاده على الساحل الغربي للبحر الأحمر بدعوة الدول المهتمة بالحصول على منصّات عسكرية شديدة الحيوية لا يوفرها إلا موقع بلاده. قدّم أفورقي لإسرائيل وجودا استراتيجيا دائما عبر أرخبيل دهلك، بما يمكّنها من مراقبة إحدى أهم المناطق البحرية في العالم. بدوره استغل أفورقي الشغف الإيراني بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب ليتوجّه باتفاقية أُبرمت بين الطرفين عام 2008، حافظت بموجبها إيران على وجودها العسكري في ميناء عصب، مقابل استمرار الدعم الإيراني للنظام الإريتري عسكريا واقتصاديا.

في عام 2015 أرادت دولة الإمارات الانضمام الى نادي باب المندب فدخلت عام 2015 ميناء عصب لتطويره، ومن ثم أنشأت في جواره قاعدة عسكرية صغيرة استخدمتها للمشاركة في العمليات العسكرية الدائرة.

Diana Estefania Rubio

قواعد غربية وعربية وتركية

إذا كانت منطقة القرن الأفريقي تحظى بأهمية كبيرة بالنسبة إلى مختلف القوى العالمية، فإنّ للصومال أهمية مضاعفة لما يتمتع به من موارد وثروات إضافة إلى حدود مترامية الأطراف وسواحل طويلة تُشرف على منافذ مائية استراتيجية. لقد شكلّت عمليات القرصنة البحرية كما ظهور "جماعة الشباب" المتشدّدة أكثر من فرصة لتوغل عدد من الدول في الصومال تحت عنوان محاربة التطرّف.

توجد في الصومال قاعدة "باليدوغل" الجويّة الأميركية في محافظة شبيلي السفلى التي قرر الرئيس بايدن تعزيزها بـ 500 جندي لمساعدة القوات الحكومية على محاربة المتطرفين، وهناك قاعدة بريطانية في منطقة بيدوا يتمّ فيها تدريب القوات الصومالية، كما تسعى بريطانيا إلى إقامة قاعدة في أرض الصومال (منطقة أعلنت انفصالها دون أي اعتراف دولي). وفي عام 2017، افتتحت تركيا قاعدة عسكرية في مقديشو بغرض تدريب المجندين في الجيش الوطني الصومالي، ودعم البحرية الصومالية وخفر السواحل.

وفي مؤشر إلى إعادة توجيه الإمارات لاستراتيجيتها في البحر الأحمر بعيدا عن التدخّل العسكري المباشر ونحو الاستثمار الاقتصادي، حولت أبو ظبي في سبتمبر/أيلول 2019 قاعدتها العسكرية المقترحة في منطقة بربرة (أرض الصومال) إلى مطار مدني، حسبما ورد في تقارير اعلامية اميركية.

لقد شكلّت عمليات القرصنة البحرية كما ظهور "جماعة الشباب" المتشدّدة أكثر من فرصة لتوغل عدد من الدول في الصومال تحت عنوان محاربة التطرّف

مضيقا البوسفور والدردنيل

البوسفور أو مضيق إسطنبول هو مضيق يصل بين البحر الأسود من الشمال وبحر مرمرة من الجنوب وتطل مدينة إسطنبول على طرفه الجنوبي، أما مضيق الدردنيل فهو ممر مائي دولي يصل بين بحر إيجة وبحر مرمرة. يمتاز المضيقان عن بقية المضائق بأنهما الأطول والأضيق (الدردنيل طول 61 كلم وعرض من 1,2 إلى 6 كلم. البوسفور طول 30 كلم وعرض من 0,7 إلى 3 كلم). ويعتبر هذان المضيقان الساحة التي تجلّت فيها المنافسة بين روسيا وبريطانيا للسيطرة على أوراسيا في القرن التاسع عشر كما تجلّت فيها آثار الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين.

يشكّل المضيقان حاليا المعبر الأهم لدول حوض البحر الأسود وهي تركيا، روسيا، بلغاريا، رومانيا، وأوكرانيا، وتمرّ عبرهما 45 % من التبادلات التجارية للدول الأوروبية، وأكثر من 50 ألف سفينة منها ما يزيد على 5 الاف سفينة لنقل الطاقة (بترول وغاز) من دول حوض بحر قزوين في اتجاه أوروبا.

مع بداية الحرب في أوكرانيا استدار العالم نحو المضيقين اللذين أصبحا جزءا من ميزان القوى في الصراع الدائر في القارة الأوروبية حيث يشكّلان الممر الإلزامي للأسطول الروسي نحو البحر الأسود. استوجب الوضع المستجد إعلان وزير الخارجية التركي جاويش (أوغلو مساء الإثنين 28 فبراير/شباط 2022) أنّ بلاده ستمنع السفن الحربية من عبور مضيقَي البوسفور والدردنيل، وأضاف "التزمنا ما تنصّ عليه اتفاقية مونترو" التي تمنح تركيا حق التحكّم بعبور السفن الحربية التابعة للبلدان المتورطة في النزاع في هذين المضيقين، وفق ما نقلت عنه وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية. 

Getty Images
سفن بعضها يحمل شحنات حبوب تعبر مضيق البوسفور إلى البحر الأسود في 2 نوفمبر 2022.

مضيق جبل طارق

تقع منطقة جبل طارق على مشارف أفريقيا وطريق الشرق الأوسط، وهي منطقة بريطانية تتمتع بحكم ذاتي لا تتجاوز مساحتها سبعة كيلومترات مربعة وتثير توترا بين مدريد ولندن مذ حصل عليها البريطانيون سنة 1713 بناءً على معاهدة أوتريشت. المنطقة التي تشكّل بوابة الدخول والخروج الوحيدة المطلّة على المتوسط، هي عبارة عن قاعدة استراتيجية مجهزة بمنشآت عسكرية جوية وبحرية واستخباراتية بالنسبة الى بريطانيا، وهي  نقطة توقف دائمة للبوارج الحربية والغواصات النووية البريطانية والأميركية لدى خروج الدوريات إلى المتوسط وعودتها منه. تسمح هذه القاعدة بمراقبة ناقلات النفط والغاز المتوجّهة الى أوروبا الغربية عبر البحر المتوسط.

يقول أحد المسؤولين في الجيش البريطاني "لو لم يكن جبل طارق موجودا لكان ضروريا اختراعه لأننا هنا على ألف ميل أقرب من مصدر الخطر". ازدادت أهمية المضيق الاستراتيجية نظرا الى وضعه الدولي الذي أتاح منذ 1982 لكلّ بلد يحلّق في أجوائه ويعبر مياهه الإقليمية، بما فيها الغواصات، المرور من دون إبلاغ الدول المجاورة أي إسبانيا والمغرب. يُعتبر مضيق جبل طارق من أكثر الممرات البحرية ازدحاما في العالم إذ تعبره يوميا نحو 150 سفينة كما يمرّ عبره 5% من تجارة البترول العالمية، وتشكّل ناقلات البترول ثلث السفن التي تعبر المضيق بما يعادل نحو 18 ألف ناقلة في السنة، وهو أحد أهم مصادر الدخل القومي للدولة البريطانية يربط المحيط الأطلسي بالبحر المتوسط.

تعبّر قاعدة روتا البحرية في شمال المضيق عن القوة العسكرية للولايات المتّحدة وحلف شمال الأطلسي في البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، وقد لعبت دورا إبان احتدام التوترات بين روسيا وأوكرانيا، حيث تمكّنت البحرية الأميركية في إبريل/نيسان من نشر سفينتين حربيتين أميركيتين بسرعة في البحر الأسود من محطة روتا.

إنّ الواقع الاقتصادي المتردّي الذي أدّى الى انزلاق دول القرن الأفريقي نحو الاستثمار في موقعها الجغرافي واستضافة القواعد العسكرية لدول متناحرة على أرضها هو المقدّمة لتحوّل هذه القواعد الى واقع احتلالي، سيفرض خياراته سواء بالقوة العسكرية أو بوسائل ناعمة ذات طابع إنساني بما سيضع الأمن القومي للدول المشاطئة للبحر الأحمر أمام تحديات جديّة

عسكرة المصالح

في الخلاصة، يبدو أنّ السنوات المقبلة ستحمل المزيد من احتمالات عسكرة المصالح الدولية في القرن الأفريقي، وهو ما يُخشى أن يؤدي إلى تكرار العواقب السلبية لمرحلة الحرب الباردة السابقة على المنطقة. 

لم تكن تركيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة وإيران هي فقط الدول الوافدة للتأثير في أمن البحر الأحمر وتحقيق النفوذ فيه، بل هناك قوات أوروبية مشتركة تسيّر دوريات بزعم حماية السفن التجارية من القرصنة. فهناك حضور إسباني وبريطاني في تلك المنطقة بالإضافة الى القواعد العسكرية.

سفن حربية أميركية في مضيق هرمز في 17 سبتمبر 2021. (البحرية الأميركية)

على الرغم من النيات الإيجابية التي يُظهرها من يشيدون تلك القواعد التي تتمحور دائما حول حماية الملاحة البحرية والاستثمارات الاقتصادية، فإنّ تراكم القوة العسكرية في الفترة الحالية يمكن حمله على سببين: الأول، التحكّم بالمنافذ البحرية الأكثر تأثيرا على الاقتصاد العالمي كونها طرق العبور لإمدادات الطاقة ومراقبة مسارات التجارة الصينية في اتجاه بلدان حوض البحر المتوسط، والثاني على المستوى الأمني والسياسي ويتعلّق بمحاولات الهيمنة وتحقيق النفوذ باستغلال فقر بعض بلدان حوض البحر الأحمر.

 إنّ الواقع الاقتصادي المتردّي الذي أدّى الى انزلاق دول القرن الأفريقي نحو الاستثمار في موقعها الجغرافي واستضافة القواعد العسكرية لدول متناحرة على أرضها هو المقدّمة لتحوّل هذه القواعد الى واقع احتلالي، سيفرض خياراته سواء بالقوة العسكرية أو بوسائل ناعمة ذات طابع إنساني بما سيضع الأمن القومي للدول المشاطئة للبحر الأحمر أمام تحديات جديّة. لذلك فإنّ البلدان الواقعة ضمن حوض البحر الأحمر لا سيما الميسورة منها مدعوّة إلى إقامة مشروعات أمنية واقتصادية مشتركة لتعزيز التعاون العربي والإسلامي ودفع الدول الفقيرة نحو التخلي عن سياسة مراكمة القواعد العسكرية حفاظا على استقلالها السياسي وعلى أمنها القومي وفي مقدّمته أمن وحرية الملاحة في البحر الأحمر والخليج العربي.

font change

مقالات ذات صلة