بشاير حبراس: مغامرة أولى لافتة في القصة القصيرة جدا

صدرت مجموعتها الأولى "شبابيك زيانة"

بشاير حبراس: مغامرة أولى لافتة في القصة القصيرة جدا

تنحو القاصة العُمانية بشاير حبراس في كتابها القصصي الأوّل، "شبابيك زيانة"، إلى اعتماد وصف "القصة القصيرة جدا" لمجمل نصوصها المنشورة في ستين صفحة ضمن إصدارات مجلة "نزوى"، مع وجود ثلاث قصص، ضمن المجموعة، تندرج تحت مسمّى القصة القصيرة، وفق التصنيف التقليدي.

ما يلفت في هذه النصوص، هو انزياحاتها المتكئة على مشهدية سوريالية من خلال اعتماد الومضة/الخاطرة، أو المشهد القصير أو الحوار، أو الخبر الحكائي الذي يتنقل في أسطر قليلة بين الأزمنة، في لحظة، هي عمر القص.

مع هذا، فالمجموعة إذ تمضي في تخيلاتها المعتمدة على المفارقة والمفاجأة والتهكم، لا تخرج على إطار الإشكاليات الاجتماعية المعيشة، فتبدو، في معظمها، نصّا عن حال المرأة وعلاقتها المنفعلة بالرجل.

اختيار النصوص هنا، هدفه إظهار هذا المنحى الكتابي الذي بدا يتسع، بهذا الشكل، في الأدب العربي خلال العقدين الأخيرين، وكانت سبقته تجارب عالمية كثيرة يعيدها كثيرون إلى كتّاب قصّة كأرنست همنغواي، إلا أن المشهدية القصصية القصيرة جدا لا يبدو لي أنها تتعلق بكتّاب القصّة وحدهم، إذ نجدها في كتابات شعراء قصيدة النثر وأبرزهم بودلير (في ستينات القرن التاسع عشر) وصولا إلى المشهدية الاختزالية لِما سُمِّي باللوحات القصصية التي لا تغفل القص المباغت أو الآني، والذي يمكن معه أن نفرّق بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا.

وعلى الرغم مما يقوله بعض الكتّاب عن خصائص فنية يمتاز بها هذا النوع من القص أو الكتابة، من الممكن، أيضا، القول إن قراءة الكثير من المجموعات القصصية القصيرة جدا تُظهر عدم وجود شكل أو خصائص محددة لهذا المنحى الأدبي في الكتابة، حيث يغيب مفهوم القص، أو بنيته، في الكثير منها ويبدو أنه يقترب من الخاطرة/الومضة أو الرأي/القول أو السطر الشعري. لذا تبدو تجربة بشاير حبراس محاولة للحفاظ على الملمح القصصي في شكل بنائي سريع وخاطف.

القاصة العُمانية بشاير حبراس

هنا مختارات من قصص بشاير الحبراس:

الصورة الملعونة

"ملعونةٌ هذه الصورة". هذا ما تردده الأم مذ أحضر ابنها الأكبر صورة لأبيه، وعلّقها في غرفة المعيشة. حاول وإخوته كثيرا أن يعرفوا ما تخفيه جملتها تلك، لكنها تأبى أن تقول شيئا.

يأتي الصباح فتلْعق المناديل والمماسح كل شيء في البيت إلا صورة الأب. كانوا مرة يتناولون الفطور فقالت وقد بدا عليها الغضب: "أنا أكره اللحى الكثة، شذِّبوا لحيته وإلا كسرته بهذا الصحن". أحضروا سلّما وصعد أكبرهم حاملا مقصّا، لم يعرف ماذا يفعل ولم يعرف إخوته ماذا يقصّ في الهواء.

ذات يوم عادوا من مدارسهم، فوجدوا عينَي الأب في الصورة معصوبتَين بشريط لاصق أسود. لم تنتظر أن يطرحوا عليها الأسئلة. قالت إنه غازل جاراتها عندما زُرنها في الصباح.

ما لم يتوقعه الصبية، أن يجدوا على فمه شريطا لاصقا في اليوم الذي تلاه، سألوها بربّها عمّا يحدث، قالت إنه كاد يقبّل عاملة المنزل لولا دخولها عليهما فجأة. استجوبوا العاملة فهزّت رأسها مؤكّدة. لم يمر يومان على الحادثة حتى أنزلت الصورة من على الجدار وأزالت الأشرطة اللاصقة، ثمّ أرجعتها حيث كانت، ووضعت دلوا تحتها. استدعت البستاني إلى غرفة المعيشة، وشرعت في تقبيله. لم يستطع المسكين أن ينبس ببنت شفة. أمرته وهي تشعر بلذة الانتصار: "أرباب سيبكي كثيرا اليوم، خُذِ الدلو بعد أن يمتلئ، واغسِل أرض الدار".

تبدد

كانت أمي لا تزال تنظف زجاج النافذة،

عندما ظهر خلفها فجأة الشاب الذي أحبّ. وبينما كنت ألوّح له، رشّت الزجاج بالمحلول فتبعثر، ودعكت بالمنديل وجهه والسترة والحذاء

وساقَيه الطويلتين.

ما يلفت في هذه النصوص، هو انزياحاتها المتكئة على مشهدية سوريالية من خلال اعتماد الومضة/الخاطرة، أو المشهد القصير أو الحوار، أو الخبر الحكائي الذي يتنقل في أسطر قليلة بين الأزمنة

خيانة

بعد وفاة زوجها إثر حادث سير منذ أقل من عام، تخلصت من سريرهما الكبير. تخلصت من كل شيء. حتى رائحة الموت النتنة فتحت لها النوافذ، وعطّرت البيت بروائح الحياة. تُسِرّ إليها جارتها بإعجابها بالسرير المزدوج الذي لم تتردد في أخذه من أمام حاوية القمامة العامة. ذات صباح دخلت إلى بيت جارتها وحطمت السرير بمطرقة كبيرة، واختفى زوجها إلى الأبد.

رجل واحد

 صار عمرنا أربعين عاما ولم يعد أحد من الحرب. لذلك اتفقنا، صديقتي وأنا، على أن نتزوج رجلا واحدا. سنتزوج أول جندي يعود. لكنه حين عاد كانت يداه مقطوعتين، فألبستُها أنا خاتم الزفاف، وهي ألبستنيه، بينما كان هو يقف بيننا ويبتسم.

الصورة

ليست هذه المرة الأولى التي تقف فيها أمام صورة زوجها الراحل المعلّقة في غرفة المعيشة، لكنها المرة الأولى التي تقف فيها بقميص نوم قرمزي قصير. رأته مبتسما على الصورة بل حرّك حاجبيه صعودا وهبوطا بسرعة. هي ليست متأكدة مما رأت، لكنها قبل ذهابها إلى العمل وقفت مرة أخرى أمامه بعباءة الرأس والحجاب العريض الأسودَين، قبل أن ترخي عليها خمار وجهها. على طاولة العمل، شغلها التفكير في الصورة التي أدارت وجهها للجدار.

غلاف كتاب "شبابيك زيانة"

كتف أبي

ما كانت تحبُّ صورة أمي وهي تسند رأسها إلى كتف أبي. مذ دخلت بيتنا وهي تحاول أن تنزع الصورة من الجدار.

ذات صباح استيقظت أمي بعنق ملتو، بينما كان أبي في الصورة بلا كتف.

الضفيرة

ربطت ضفيرتها بجوربه الكحلي الثقيل،

 ونامت. صحا متأخرا على العمل. ارتدى جوربا واحدا وظل يبحث عن الآخر. استوقفته ضفيرتها وهو يخفض رأسه باحثا تحت السرير!

حين استيقظت، وجدت ضفيرتها بين فكَّي المقص تحت السرير.

أمّ صغيرة

حملت دميتها وخرجت إلى الحوش بعدالغداء. جلست على الأرض بجانب السور، وفتحت أزرار ثوبها الأمامية ثمّ بدأت ترضع الدمية من صدرها الصغير.

شبعت الدمية، فحملتها لتمسح على ظهرها. طارت فرحا عندما سمعتها قد تجشأت فعلا، فأخذتها إلى الداخل كي تنام. انفجر عبّود المتلصص من فوق السور ضاحكا. كانت هذه المرة الأولى التي يتجشّأ فيها ولا ينهره أحد.

القصير والطويلة

كنت أقصر من أن أرفع طرحة عروس، لذلك لم يقبل بتزويجي أحد. نحتُّ عروسا على الجدار، ورفعتني بعض الكراسي كي أُتمّها. متأخرا اكتشفتُ أني أخطأت عندما جعلتُها طويلة. كان جلّ تفكيري في صحون الرفوف العلوية في المطبخ.

بعد إتمام نحتها، رفعت العروس طرحتها بنفسها ثمّ طلبت مني قبلة، لكن الكراسي اللعينة اختفت فجأة من الغرفة فهويتُ وظلّت المنحوتة تركض في الجدران.

فراشات

تفرّ فراشة من فستانها كلّما لبسته وخرجت إلى الفناء، فقررت أن تُرجِعه إلى خزانتها حتى لا تفقد المزيد من الفراشات.

ذات صباح فتحت الخزانة، ففوجِئت بتناثر الفراشات الميتة أسفل الخزانة.

شعر البنات

عاكفا على رؤوس بناته الثلاث يحاول ضفر شعرهن، وربط جدائلهن بشريطة المدرسة البيضاء على الطرف.

كان متوتّرا والحافلة الصفراء أصبحت قريبة. يفكّ الجدائل ويعيد تصفيفها من دون أن ينجح.

يتذكر إجازة نهاية الأسبوع في المتنزّه العام رفقة البنات، يوم همست بعض النسوة: "يعرف رحيل الأم من شعر البنات".

يحاول أن يعود إلى الصفحة السابقة من دفتر "كيف تصنع جدائل جميلة"، لكن الحافلة كانت أسرع منه مطلقة زمّورها الذي كاد يزلزل البيت، فخرجت البنات فزعات مع حقائبهن بينما كان هو يلوّح لهنّ مودّعا والمشط في يده.

أحمر

لبستْ ثوبا أحمرَ

وحجابا أحمرَ

وحذاء أحمرَ

وكادت تصبغ شَعرَها بالأحمر

أمّها أخبرتها عندما بلغت الثانية عشرة أن شيئا ما سيتفجر من جسمها لا تعرف من أين، ويجب ألّا يراه أحد.... لونه أحمر.

font change

مقالات ذات صلة