الحرب في قصائد شعراء سودانيين: كلهم قتلة!

من الفيتوري إلى روضة الحاج

Wafaa Salah
Wafaa Salah

الحرب في قصائد شعراء سودانيين: كلهم قتلة!

غزة: لا يتوقف موقف الشاعر الأخلاقي من مأساة الحرب، عند رصدها ووصفها، بقدر ما على تثبيت موقف من التجربة، يشتمل على الهوية والبراءة، والصوت الداخلي، وتثبيت الذاكرة على الورق، وهو ما أعطى شعر الحرب أهمية إضافية، إذ يتناول لحظة نوعية في حياة الإنسان، لحظة الخطر، والاقتراب من الموت الوشيك.

تجربة حيّة مع الحرب

وفي المنطقة العربية، تكرّرت طوال أجيال أحداث الحروب، وخضعت الشعوب في فلسطين وليبيا وسوريا والعراق واليمن والصومال والسودان والجزائر، لأقسى أشكال التجربة مع الفقد والموت جراء الحرب، وفي الفترة الأخيرة، تجدّد دخول الشعب السوداني في هذا النفق، وصارت التجربة الحية مع الحرب والموت والفقد، مصيرا مفروضا، بوزنه الثقيل، على الشعب السوداني.

وتبقى ثيمة الشعر، كتعبير إنساني نوعي، من أبرز الأدوات التي اتخذها الشعراء السودانيون، كي يقدموا انعكاسا نابعا من العمق البشري، يوازي وطأة أقدام الحرب على صدر الإنسان.

REUTERS
مواطنة سودانية تنظر إلى المدينة من سطح منزلها أثناء الصراع في الخرطوم، السودان، 30 أبريل/ نيسان 2023.

دراكولا

إن صفة داركولا التي تلازم هيئة الحرب، جعلت منها هيئة بغيضة، تنافي فكرة الحياة، بما تحمله من صفات وحشية، ومقدرة على امتصاص دم الأبرياء، وتشريد الآمنين، وانتهاك حرمات البيوت، بما في ذلك من سحق للمشاعر الإنسانية.

وقد أعطى الشعر السوداني الحرب صفات الوجه المشؤوم واللسان القاسي، بما تفرزه من امتصاص وحشي لدم الإنسان، وبما تسلبه من سلام وأمن. في هذا السياق يمضي الشعر لفضح الحرب، أو مؤاساة الناجين، ومنحهم القدرة على معاودة الحياة. حول هذا يكتب الشاعر السوداني عبد الوهاب محمد يوسف المعروف باسم عبد الوهاب لاتينوس:

"كلهم قتلة، يمارسون القتل المقدس، يمتصون دم الجميع

ببراءة أطفال،

لا سلام، لا أمن، الخراب هو كل ما تبقى".

وللمفارقة، فإن الشاعر الشاب عبد الوهاب لاتينوس قتل عام 2020 برصاص خفر السواحل الليبي، خلال محاولته الهجرة، بحسب تقارير صحافية.

تبقى ثيمة الشعر، كتعبير إنساني نوعي، من أبرز الأدوات التي اتخذها الشعراء السودانيون، كي يقدموا انعكاسا نابعا من العمق البشري، يوازي وطأة أقدام الحرب على صدر الإنسان

فوضى

إن كانت خطى الحرب العشوائية، تضع الجميع تحت أقدامها في لحظة تبدو خاطفة، فلا أحد يأمن على نفسه أو على أحبابه، خلال اشتداد الحرب. فكل ما ينافي الأخلاق يقع في هذه التجربة، إذ لا يمكن في تلك اللحظة أن تكون الغلبة للقانون الإنساني في الحماية والتأمين. ذلك الجنون البشري الذي تفرضه السياسة في وقت ما، يضع المشروع البشري الاجتماعي في مصاف الهلاك والنهايات، كأن موسيقى جنائزية حزينة تعم الأرض السودانية خلال الصراعات والقتال، وينطلق الحريق الكبير، وتتسع بقعة زيته، كلما احتدم الصراع وتأجج القتال.

يكتب عبد الوهاب لاتينوس:

"الفوضى الهمجية في لباسها الخلاق، إنها أشدُّ التصاريف الكونية عبثا في الكمال النهائي، الحرائق تشتعل في الأركان كلها، أدخنة تجتاح المدى، ليل غسقي مبهم وسوداوي، حرب بعد حرب، صراعات لا معنى لها، وطبول الحرب تعزف أناشيدها الجنائزية على ركام أجساد الموتى والمنسيين".

REUTERS
خلال عمليات الإجلاء في فندق بالميناء، مع استمرار الاشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، في بورتسودان، السودان، 1 مايو/ أيار 2023.

محو

يبرز وقت الحرب شعور المحو، إذ يكون على الإنسان تصديق لحظة ثقيلة على الشعور، بأنه هو ذاته، أو من حوله، معرض للمحو في أية لحظة، والاغتراب عن المكان الذي اعتاده، تلك اللحظة التي تحدّث الإنسان حديث النهايات، يعلو صوتها، ما إن يرى حالة نحر الحياة أمامه، أو يرى رصاصة ترقد في جسد قريب، هنا تصبح الحياة فقاعة ماء، قابلة للانفجار في أية لحظة. حول هذه المشاعر، يكتب الشاعر والروائي السوداني أمير تاج السر :

"ولا شيء أكثر إيلاما

من دماء حزينة.

ولا شيء قد ينحر القلب

مثل حروب تطال النوايا،

وتصبح أكلا وشربا،

ومتكأ للحكايات،

لا شيء يقتل فعلا،

سوى وجه قناص تالف،

وسلاح،

وممحاة قد تزيل الوطن".

 "كلهم قتلة، يمارسون القتل المقدس، يمتصون دم الجميع 

ببراءة أطفال، 

لا سلام، لا أمن، الخراب هو كل ما تبقى" 

عبد الوهاب لاتينوس

عيدان كبريت

يعد مشهد الاحتراق بالنار، من المشاهد الراسخة في مخيلة الإنسان، كأن تحترق الأشجار في الغابة، ويعلو صوت احتراق الخشب، كما فرقعة أصابع الإنسان.  ويبقى الشعر مجسِّدا نوعيا للمشاعر الإنسانية في هذا الإطار، من خلال نقل الأفكار من المخيلة، وتبسيطها، كأن يصور اشتعال عيدان الكبريت في كومة من القش، فليس المهم وقتئذ، سوى الهروب من ألسنة اللهب، والنجاة من اشتعالها الذي قد يمضي في لحظات كثيرة أسرع من خطى الإنسان.

عن هذا يكتب الشاعر السوداني نجيب محمد علي:

"من يعرف الحرب لا يدنو لمرقدها

الريح تعصف والكبريت يتقد

الحرب نارٌ إذا اشتعلت مواقدها

من يطفىء النار لا ينظر لها أحد

نحن الشعوب ضحاياها فيا أسفي...

ضعنا وضاعت دوننا البلد".

 

النيل الأحمر

في السودان يعدّ نهر النيل رمز الحياة الدافقة، فهو الشريان الذي يمضي داخل جسد البلاد، ويمنح الإنسان والنبات والأرض الحياة، وإنّ عذوبة ماء النهر، لخير دليل على عذوبة الحياة، أما إن كان الواقع هو العكس، فهذا يعني أن حياة الناس فقدت قيمتها.

وعندما يختلط ماء النهر بدم العشيرة والرفيق، تكون الحادثة أكثر إيلاما للإنسان، لأن في هذا النهر ذاكرة، تعد صلب ذاكرة البلاد الأزلية.

ولأن الشعر يعتمد الرموز في تجسيد حالته، فإنه يلمح إلى الواقع ويمتزج فيه، عبر الإشارات والتلميحات اللغوية الثاقبة، فتتضح الصورة جلية للإنسان، عبر التأمل والإيجاز.

فالنهر الملطخ بالدم، ينذر بتلوث الحياة واقترابها من الهاوية، واقتراب الموت من الجميع، دون تمييز. حول هذا يكتب الشاعر الصادق الرضي:

"النّهرُ لم يَعُدْ يُتْقنُ مهنته الأزلية في العذوبة؛ النّهرُ سِرُّنا الأخصُّ- في العُمْقِ- سرُّنا الأعمقُ من سِرِّ الوجودِ؛ السِرُّ الذي يترقرقُ كلَّ صباحٍ بوجهكِ النبويّ؛ يُطمْئنُ على صَحّةِ العالم؛ في مكانٍ بعيدٍ من العالم؛ النّهرُ صفحته امتزجتْ بالدَمِ- دمُنَا يا أُمي؛ دمُ الجِيرَةِ والعَشيرَةِ ممتزجا بصفحةِ النّهرِ- كلّ صباحٍ يا أُمّي!".

AP
خلال عملية إجلاء قامت بها بريطانيا من السودان عبر طائرة تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني في 29 أبريل/ نيسان 2023.

جسد واحد .. ألم واحد

يجسد الشعر السوداني وحدة الجسد، ووحدة الأرض، ووحدة الإنسان، فلا قضية في هذا الواقع أهم من الإنسان، وحينما تشتعل الحرب، فإن الخسارة لا تكون في الممتلكات، ولا المقدرات فحسب، لكن الخسارة الحقيقية تبقى خسارة الأرواح.

ويبقى الجرح الإنساني، بطبيعته شقا في الذات، يدميها ويفرض عليها الوجع ويسلبها صوت الحياة الجميل، فماذا لو كان هذا الجرح شاملا الجميع؟ ماذا لو تبدّد الدواء، واختفت الضمادات؟ هذا الجرح هو جرح الحرب الذي يعصف بمعنى الوجود الإنساني، ويضيق المساحات حول الحياة، كلما ازداد عدد الثكالى، وانتشرت عمليات القتل.

حول هذا تكتب الشاعرة السودانية روضة الحاج:

"يا بلادي

كلُّ جُرحٍ فيكِ

جُرحي!

كلُّ قرحٍ مسَّ شبرا منكِ

قرحي!

كلُّ ثكلى ذرَفت

من دمعِ قلبي

واليتامى افترشوا روحي

وناموا

وأنا سهرانةٌ

أتلو على الليلِ تراتيلي

وأستجديه

إشراقةَ صُبحِ

والدمُ القاني الذي خضَّبَ

هذي الأرضَ   يا أمي

دمي

فلمَ  استحللتِ يا أماه ذبحي!؟

"من يعرف الحرب لا يدنو لمرقدها 

الريح تعصف والكبريت يتقد 

الحرب نارٌ إذا اشتعلت مواقدها 

من يطفىء النار لا ينظر لها أحد

نحن الشعوب ضحاياها فيا أسفي...

ضعنا وضاعت دوننا البلد"

نجيب محمد علي

لا تحفروا لي قبرا

تبقى قصيدة الشاعر السوداني الراحل محمد الفيتوري، "لا تحفروا لي قبرا" من أبرز القصائد التي تجسّد الواقع السوداني المعاصر، حينما تحدث عن عشق الأرض، وبغضه للحرب والدم.

ففي النص تجسيدٌ لروح الإنسان وعشقه للأرض، وطرده لصوت الحرب والقبور، إذ يرفض الجسدُ قبره، ويذهب نحو التمدّد في حب البلاد، فما بين أرض السودان، ونيله، وفي سمائه، يرقد جسد الشاعر، معلنا انتصار الروح الإنسانية على صورة الحرب وصنّاعها.

إن تجربة الحرب في قسوتها، تتجسد في أصوات الناجين، إذ منحتهم الحياة وقتا إضافيا، لم تمنحه للآخرين الذي قضوا خلالها، لكن الوجع الإنساني، يبقى ثيمة تعيش داخل النفس، ويُعبّر عنها من خلال الفنون، بما في ذلك الشعر، كنوع من التعافي.

حول انتصار الإنسان، كقضية، على الحرب وهول وجودها يكتب الفيتوري:

"لا تحفروا لي قبرا

سأرقد في كل شبر من الأرض

سأرقد كالماء في جسد النيل

أرقد كالشمس فوق حقول بلادي

مثلي أنا ليس يسكن قبرا

لقد وقفوا... وقفت

لماذا يظن الطغاة الصغار

و تشحب ألوانهم

أن موت المناضل

موت قضية

قتلوني وأنكرني قاتلي

وهو يلتف بردان في كفني

و أنا من سوي رجل

واقف خارج الزمن

كلما زيفوا بطلا

قلت قلبي على وطني".

font change

مقالات ذات صلة