العقارات بديلاً للمصارف في مصر

باعتبارها أحد أهم الملاذات الآمنة للادخار

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
صورة جوية لجزء من القاهرة تظهر مسجد عمرو بن العاص التاريخي في مدينة الفسطاط (الى اليمين)، ومنطقة القاهرة القبطية وجزيرة النيل، وتبدو الجيزة. الصورة التقطت في 28 ابريل/نيسان 2023

العقارات بديلاً للمصارف في مصر

اتجهت شريحة كبيرة من المصريين إلى الاستثمار في العقارات كأحد الأصول الأكثر أمانا والأقل خطرا لمدخراتهم، في ظل تذبذب الأوضاع الاقتصادية، معتبرين العقار، إلى جانب الذهب، بديلا من المصارف للتحوط من التضخم وانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار. ويبقى القطاع العقاري وقت الأزمات الاقتصادية الحصان الرابح في ظل أسعاره التي تميل إلى الاستقرار إن لم يكن الارتفاع، فهو أفضل القطاعات التي توفر فرصة آمنة للاستثمار وعوائد مجدية ومضمونة بأقل قدر من المخاطرة.

وكان لانخفاض قيمة الجنيه المصري وارتفاع معدل التضخم أثر في تكاليف البناء، فعانت شركات التطوير العقاري من التغيرات في مستوى الأرباح، مع بروز توجه جديد يتمثل في اندفاع المواطنين إلى شراء العقارات. وافادت الوكالات العقارية من انخفاض قيمة الجنيه الذي جعل سـوق العقارات أكثر جاذبية وساهم في تحقيق مبيعات قوية خلال الربع الأول من عام 2023. لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، إذ ارتفع معدل التضخم الأساسي السنوي في مصر من 38,6 في المئة في أبريل/نيسان إلى 40,3 في المئة في مايو/أيار، مما رفع أسعار كل مـواد البناء بصورة جنونية، فزاد سعر طن الحديد، مثلا، من 17 ألف جنيه (551 دولارا) إلى 40 ألفاً، مما أثار حفيظة قطاعات عديدة، وخصوصا مقاولي البناء وأصحاب الشركات العقارية. وقفزت أسعار الأراضي، وهي من مدخلات قطاع العقارات، لأسباب منها موجات التضخم العالمي، التي ألقت بظلالها على أسعار مدخلات قطاع البناء، فضلاً عن النقص في بعض الخامات نتيجة الصعوبة في الاستيراد حاليا، نظرا الى الشح في العملة الصعبة.

بدورها، سارعت شــركــات عـقـاريـة إلى التحوط من خلال ربط تسعيرة وحـداتـهـا السكنية بسعر صـرف الـــدولار، في خطوة اعتبرتها الشركات مقياسا لضبط السعر مع التكلفة. لكن في المقابل، زاد هذا الإجراء الضغوطَ على المشترين، ولا سيما من الطبقة المتوسطة، على الرغم من أن هذه الشريحة تمثل نسبة ضعيفة من مستهدفات الشركات العقارية، التي تركز على نسبة الـ10 في المئة من السكان المصنفين في الطبقات الأعلى دخلاً من إجمالي السكان في مصر البالغ عددهم 105 ملايين نسمة.

تعاني مصر من شح النقد الأجنبي، وتلتزم الشركات مواعيد تسليم بعيدة الأجل تمتد لسنوات، مما يجعلها عرضة لأثر تعويم الجنيه، إلى جانب الأعباء التمويلية لارتفاع أسعار مواد البناء، التي أدت بدورها إلى التأثير في الإيرادات والأرباح

تعاني مصر من أزمة في النقد الأجنبي، وتلتزم الشركات مواعيد تسليم بعيدة الأجل تمتد لسنوات، مما يجعلها عرضة لأثر تعويم الجنيه، إلى جانب الأعباء التمويلية لارتفاع أسعار مواد البناء، التي أدت بدورها إلى التأثير في الإيرادات والأرباح. لذلك، جمدت شركات عدة خططها البيعية والإنشائية الشهر الماضي، ولجأ مطورون إلى الحكومة للمطالبة بدعم هذا القطاع الذي يمثل 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، أي ما يقرب من 1,6 تريليون جنيه (نحو 52 مليار دولار وفق سعر الصرف الحالي). يبلغ الناتج المحلي لمصر نحو 476 مليار دولار بحسب البنك الدولي، أي أن 20 في المئة توازي نحو 90 مليار دولار.

أقرت الحكومة حزمة من التيسيرات والمحفزات لدعم قطاع التطوير العقاري، وسارعت إلى تعديل بعض القوانين ورفع بعض القيود التي كانت تمنع الأجانب من شراء أكثر من وحدتين في مصر. ويدرج كثرٌ الخطوة الأخيرة في إطار "تصدير العقار المصري". من ناحية أخرى، يرى بعض الخبراء أن القطاع العقاري يضر بكثير من القطاعات الاقتصادية في الدولة لأنه يبطئ الدورة الاقتصادية لرأس المال، فهو ملاذ آمن للاستثمار وليس للادخار، بينما يرى البعض الآخر أن العقارات فرصة آمنة للاستثمار وذات عوائد مضمونة لكنها بعيدة الأجل.

اتجاه تصاعدي للقطاع

أشار تقرير لـ"فيتش سوليوشنز للأبحاث"، وهي مؤسسة الخدمات المالية التابعة لوكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، بعنوان "القطاع العقاري في مصر"، صدر في يناير/كانون الثاني 2023، إلى عناصر القوة في القطاع العقاري التي ستدعم صموده أمام التحديات المحلية والدولية، من ضعف الجنيه المصري وارتفاع أسعار الفائدة ومعدلات التضخم، وتوقع التقرير أن تنخفض إيجارات العقارات التجارية في شكل حاد عام 2023 مسعرة بالدولار، في مقابل ارتفاعها بالعملة المحلية. على المدى القريب، سيتراجع نمو سوق العقارات التجارية نتيجة عدم اليقين في الاقتصاد الكلي، إلا أن زيادة الاستثمار الأجنبي في مصر واستثمارات الدولة في البنية التحتية ستؤدي إلى ارتفاع الطلب على العقارات التجارية على المدى البعيد.

رويترز
ناطحة سحاب "البرج الأيقوني" في منطقة الأعمال المركزية التي يجري بناؤها في العاصمة الادارية الجديدة، شرق القاهرة

وكشفت "بروبرتي فايندر"، المنصة العقارية التي تعمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عن أبرز النتائج التي توصل إليها أحدث تقرير لها صدر قبل أيام، بعنوان "السوق العقارية المصرية بين التحديات والاستقرار"، حول مراقبة سوق العقارات المصرية خلال الربع الأول من عام 2023، والذي تضمن الاتجاهات الرئيسة لتحركات السوق وأبرز الإحصاءات المتعلقة بقطاع العقارات المتنامي في البلاد. فقد حقق سوق العقارات المصري في الربع الأول من عام 2023 قفزات كبيرة في مجال الاستثمارات، مدعوماً بالارتفاع الكبير في نسبة التملك والنمو الملحوظ في مشاريع التطوير العقاري، وفقا للتقرير.

على المدى القريب، سيتراجع نمو سوق العقارات التجارية نتيجة عدم اليقين في الاقتصاد الكلي، إلا أن زيادة الاستثمار الأجنبي في مصر واستثمارات الدولة في البنى التحتية ستؤدي إلى ارتفاع الطلب على العقارات التجارية على المدى البعيد

وذكرت المنصة أن المكون العقاري السكني والمتعدد الاستخدامات سجل نحو 522 مشروعا قيد الإنشاء في مصر، بقيمة بلغت نحو 309,9 مليار دولار، تمثل نحو 50 في المئة من عدد المشاريع الإجمالي لمختلف المكونات وتستحوذ على نحو 83 في المئة من قيمة الاستثمارات الإجمالية. توزعت هذه المشاريع على 21 محافظة في مصر. وارتفع متوسط السعر للشقق السكنية في الربع الأول من السنة الجارية بنسبة 30 في المئة، مقارنة بالربع الأول من عام 2022، في حين قفز متوسط السعر المطلوب للفيلات بنسبة 25 في المئة، ولحق به متوسط إيجار الشقق والفيلات، الذي ارتفع بنحو 24 في المئة، مقارنة بالفترة نفسها من العام المنصرم.

وعزت "بروبرتي فايندر" هذا الاتجاه التصاعدي للسوق إلى أثر انخفاض قيمة الجنيه المصري، وارتفاع معدل التضخم على تكاليف البناء في قطاع العقارات. ولفتت إلى معاناة شركات التطوير العقاري من التغيرات في مستوى الربحية، مع بروز اتجاه آخر يتمثل في اندفاع المشترين الى شراء العقارات في محاولة منهم للتحوط من انخفاض قيمة العملة المحلية في مقابل الدولار. في حين بقي الطلب على الوحدات التجارية منخفضا من جانب الطبقة المتوسطة الدخل التي آثرت الوحدات العقارية التي تنفذها الدولة والتي ارتفعت أسعارها أيضاً.

محرك للنمو الاقتصادي

يحافظ قطاع العقارات على دوره كمحرك مناسب للنمو الاقتصادي على المدى البعيد، حيث يعمل على توليد مزيد من الفرص للشركات في مجال البناء والطاقة والبنية التحتية، في حين يُعَدّ الوقت الحالي مثاليا للاستثمار في هذا المجال، فالأسعار في ارتفاع مستمر، وستنمو قيمة العقار بمرور الزمن. هذا ما أكده المدير التنفيذي لغرفة التطوير العقاري، أسامة سعد الدين، إذ شدد على "أن الحاجة إلى العقارات مستمرة ولن تتوقف، ونحن لا نفي بالطلب على العقارات لارتفاع نسبة الزيجات في مصر، وبالتالي لن تتوقف الحاجة بينما يقل الإنتاج عن المطلوب في السوق المحلية على الرغم من تراجع القدرة المالية".

وقال سعد الدين لـ"المجلة": "إن العقار أحد الملاذات الآمنة لتوجيه السيولة، فقد لجأ كثر ممن لديهم فوائض مالية إلى الاستثمار في العقارات لحفظ قيمة أموالهم بعد التراجع في قيمة العملة المحلية"، مذكراً بما يحدث من إقبال على اقتناء السبائك الذهبية والعملات الأجنبية.

وألمح إلى "أن أسعار مدخلات منتج العقار في ارتفاعات مستمرة، لذلك ترتفع قيمته وتُسعَّر الوحدة العقارية بعد ضبط تكاليف البناء لتفادي تحقيق أي خسائر محتملة للمطور، وعدم تآكل رأس ماله". وأشار إلى "اتجاه الحكومة المصرية حالياً إلى فتح أسواق خارجية في المجتمع الدولي لتصدير العقار؛ هذا كله يؤدي إلى ارتفاع مستمر في الطلب والأسعار". ولفت إلى الطلب المتزايد من العراقيين على شراء العقارات في مصر بديلاً من تركيا عقب الزلزال الأخير، إلى جانب اتجاه غرفة التطوير العقاري في اتحاد الصناعات إلى وضع استراتيجيا لفتح أسواق خارجية. 

واعتبر سعد الدين مجموعة التسهيلات التي منحتها الحكومة المصرية أخيرا لمساندة المطورين العقاريين في هذا التوقيت "الحل الأسرع من أجل تجاوز مرحلة التحديات الراهنة لانطلاق القطاع لأنه يمثل 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر ولأنه يقطر عجلة الاقتصاد، واستمراره في العمل أمر مهم، وستترتب في حال توقفه خسارة فادحة على الدولة".

محفزات وأضرار

وكانت الحكومة المصرية أقرت حزمة من التسهيلات والمحفزات لدعم قطاع التطوير العقاري، تضمنت منح المطورين والمشاريع الاستثمارية في المدن الجديدة وغيرها، معدل فائدة تقسيط يوازي 10 في المئة لمدة سنتين، بدلاً من الفائدة السارية المعلنة من المصرف المركزي والتي تصل إلى 19 في المئة، فضلاً عن تمديد المدة الزمنية لتنفيذ المشاريع العقارية بواقع 20 في المئة من المدة الزمنية الأصلية الإجمالية، تخفيفاً للأعباء على المستثمرين العقاريين. هذا إلى جانب خفض النسبة المئوية لاقرار اكتمال تنفيذ المشروع لتصبح 85 في المئة بدلاً من 90 في المئة. كذلك، اتخذ المجلس الأعلى للاستثمار مجموعة قرارات مهمة من بينها السماح للأجانب بتملك أكثر من عقارين بشرط السداد بالعملة الأجنبية.

ويعتبر خبراء اقتصاديون أن الادخار في القطاع العقاري أضر بكثير من القطاعات الاقتصادية في الدولة، فحين يصبح القطاع العقاري ملاذا لتخزين للقيمة، يتحول القطاع إلى الادخار والاستهلاك ولا يعود موئلاً للاستثمار، وهذا خطر على الاقتصاد ويؤدي إلى إبطاء الدورات الاقتصادية في البلاد. هذا ما خلص إليه أستاذ التمويل في جامعة القاهرة، حسن الصادي، الذي قال لـ"المجلة": "عندما تتحول العقارات إلى جدران مغلقة يصبح الاستثمار فيها سيئا، فهي ملاذ آمن للاستثمار وليس للادخار وهناك فرق كبير بين الاثنين، لأن الادخار في القطاع العقاري في مصر لا يدر دخلاً، وإنما يدر مكسباً رأسمالياً في حالة إعادة البيع مستقبلاً، وفي هذه الحالة يتحول الادخار العقاري إلى استهلاك عقاري وبذلك تتعطل الدورة الاقتصادية لرأس المال ما بين سنتين و10 سنوات".

عندما تتحول العقارات إلى جدران مغلقة يصبح الاستثمار فيها سيئا، فهي ملاذ آمن للاستثمار وليس للادخار، وهناك فرق كبير بين الاثنين

حسن الصادي، أستاذ التمويل في جامعة القاهرة

وألمح الصادي إلى أن نسبة الإشغالات العقارية في مصر لا تتعدى 30 إلى 40 في المئة، أما نسبة الـ60 في المئة المتبقية فتُعَد تعطيلاً للدورة الاقتصادية لرأس المال. واعتبر ذلك تدميراً للاقتصاد القومي وأحد أسباب التباطؤ في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية والتعليم والصحة، "لأن المصريين كانوا يدخرون في الأوعية الادخارية التي تتحول إلى تمويل مشاريع في قطاعات أخرى"، مشيرا الى "أن الحديث في أوساط الاقتصاديين يدور الآن حول أهمية تحقيق التوازن بين القطاع العقاري والقطاعات الأخرى في ظل الاحتياجات الحقيقية، فلا يحدث انهيار اقتصادي". وأكد أهمية تصدير القطاع العقاري إلى دول الخليج.

العرض أكثر من الطلب

في المقابل، رأى الخبير الاقتصادي طاهر المرسي أن ارتفاع أسعار العقارات "يعزى في شكل أساسي إلى أمرين مهمين، الأول هو خلل واضح في سياسة التسعير لاتباع المطورين العقاريين سياسة تسعير غير عادلة منذ البداية، فعلى الرغم من استقرار أسعار المواد والمستلزمات على مدى العقدين الماضيين، كان المطورون يبالغون في تسعير الوحدات في شكل لافت، ليتخطى الأمر محاولة التحوط من ارتفاع التكلفة خلال فترة الإنشاء إلى تحقيق معدلات ربحية أكبر على حساب العملاء. الثاني يتعلق بتراجع القوة الشرائية للجنيه المصري مما يؤدي إلى ارتفاع التكاليف، الأمر الذي ينشأ عنه خلل في مواعيد التسليم مع مشاكل في التسعير. وإذا أضيف التضخم العام لهذه التركيبة، فالنتيجة الطبيعية لن تكون سوى تراجع قوي للطلب الكلي، الذي يُخشَى أن يؤدي إلى ركود عام في سوق العقار".

يُذكَر أن كثيراً من المشاريع العقارية الكبيرة التي تشرف عليها الدولة، تعرضت إلى تقليص في المخصصات، وبعضها إلى وقف موقت بسبب الشح في السيولة. تعتبر هذه المشاريع الكبيرة القوة الدافعة لمجمل السوق العقارية المصرية، وما تتعرض إليه من ضغوط يؤثر في كامل القطاع، وعلى أداء المطورين وعوائدهم، باختلاف أحجامهم، وعلى العاملين في القطاع الذين يتخطى عددهم خمسة ملايين عامل. ولا يمكن إغفال مشكلة جوهرية تكمن في نوعية الوحدات السكنية والمدن التي يجري التوسع في إنشائها أخيراً، فمعظمها مخصص للشرائح الأعلى دخلاً، في دولة تعاني في الأساس من أزمة سكن مزمنة.

font change

مقالات ذات صلة