ملامح مرحلة انتقالية اجتماعية في ايران

في الذكرى الاولى لمقتل مهسا أميني

Reuters
Reuters
صورة مهسا أميني في اجتماع عزاء نظمه طلاب وناشطون من جامعة دلهي لدعم الاحتجاجات المناهضة للنظام في إيران

ملامح مرحلة انتقالية اجتماعية في ايران

كان مقتل الفتاة الشابة مهسا (جينا) أميني في مقر "شرطة الأخلاق" بعد التعرض للضرب والشتم المبرح من قبل عناصرها في 16 سبتمبر/أيلول 2022 الحدث الأكبر والأبرز في البلاد خلال العام الإيراني حيث ألقى بظلاله على كثير من القضايا في إيران، ما يوحي بملامح مرحلة انتقالية اجتماعية في البلاد.

ولم تكن مهسا (جينا) أميني الضحية الأولى لهمجية دوريات "شرطة الأخلاق" في طهران ومدن أخرى وتصرفها العنيف (أقل ما يمكن وصفه) ضد النساء اللواتي لا يلتزمن بالحجاب المناسب حسب معايير السلطة الاستبدادية في الجمهورية الإسلامية.

لقد انتشر الكثير والكثير من الصور والفيديوهات التي توثق مواجهات "شرطة الأخلاق" السيئة السمعة مع نساء غير ملتزمات بالحجاب ورافضات للحجاب المفروض عليهن، وذلك قبل مقتل مهسا أميني. وقد أثار كثير من هذه الصور والفيديوهات غضبا شعبيا كبيرا، منها أحد الفيديوهات الذي تقف فيه إحدى الأمهات أمام دورية لـ"شرطة الأخلاق" تتوسل إليهم عدم أخذ ابنتها معهم لأن ابنتها مريضة غير أن هذه الدورية كبقية دوريات "شرطة الأخلاق" لم تبال بطلب الأم.

لقد تزايد هذا الغضب والامتعاض الشعبي الكبير شيئا فشيئا بسبب تصرفات دوريات "شرطة الأخلاق" التي تتألف من كاميرات مراقبة ومخبرين مجهولين وعناصر أمنية بهدف اعتقال غير الملتزمات بالحجاب، وكان مقتل مهسا (جينا) أميني بمثابة "سكب الزيت على النار"، نار الغضب والاستياء العام من هذه الوحدة التي يصفها كثير من المعتقلات بأنها "عديمة الرحمة"، و"وحشية" في تصرفاتها.

وبالتالي أثار خبر مقتل مهسا (جينا) أميني، الفتاة الكردية البالغة من العمر 22 عاما القادمة إلى طهران من مدينة سقز لقضاء الأيام الأخيرة من العطلة الصيفية في العاصمة على يد عناصر "شرطة الأخلاق" بعد غیابها عن الوعي وانتقالها للمستشفى ودخولها في الغيبوبة هناك لمدة 3 أيام ومحاولة إخفاء السلطات السبب الرئيس لوفاة الشابة، أثار غضبا جماهيريا عارما لم تسلم الجمهورية الإسلامية من تداعياته حتى اليوم.

تزايد الغضب والامتعاض الشعبي الكبير شيئا فشيئا بسبب تصرفات دوريات "شرطة الأخلاق" التي تتألف من كاميرات مراقبة ومخبرين مجهولين وعناصر أمنية بهدف اعتقال غير الملتزمات بالحجاب

ونفت السلطة الحاكمة تعرض مهسا للضرب المبرح بالعصي على الرأس وعلى رجليها، حسبما أفاد شهود عيان كانوا في نفس المكان. وبالتالي اندلعت حركة احتجاجية في إيران من حالة الاستياء العام والغضب بسبب مقتل فتاة كردية جاءت إلى العاصمة لتمضي عطلتها فتحولت إلى جثة هامدة. فقد أظهرت الاحتجاجات الشعبية قوتها بمشاركة نسائية لافتة في غالبية المدن الإيرانية إيمانا بما كتب على قبر مهسا (جينا) أميني بلغتها الأم (الكردية): "عزيزتي جينا، أنت لن تموتي، سيكون اسمك كلمة السر".

وبذلك انطلقت حركة ثورية تمكنت من الزحف إلى المدن المختلفة بسرعة، وبالتالي أصبحت حركة اجتماعية عارمة وغير مسبوقة على مستوى البلاد، حركة ناقمة على كل مؤسسات نظام الجمهورية الإسلامية وأركان الحكم فيها يقودها شباب وفتيات ولدوا في فترة حكم الجمهورية الإسلامية، غير أنهم ضاقوا ذرعا بكل مكونات النظام الإسلامي الحاكم الذي يحمل في طياته سمات الأنظمة الحاكمة في "القرون المظلمة" كما يسمونه.

حريات مسلوبة

المطالبون بالحرية والتغيير في البلاد اليوم يعتقدون أن كل حرياتهم الأولية والإنسانية مسلوبة ومكبوتة وبالتالي ينشدون التحول والتغيير والإتيان بنظام ديمقراطي وعلماني يكفل لهم الحرية. وتمکنت السلطة الحاكمة من الحد من الموجة الثورية التي اجتاحت البلاد من كردستان حتى بلوشستان وطهران بأسلوبها القمعي واللجوء إلى الإعدامات غير المبررة بحق متظاهرين، بحسب منظمات حقوقية دولية ومحلية، لبث الرعب وإسكات المحتجين وقمعهم بشتى الطرق على غرار إطلاق الرصاص الحي على عيونهم مما أدى إلى إصابة عدد كبير من الفتيات والشباب بالعمى في عين واحدة على الأقل، إلى جانب الإصابات المباشرة في الرأس والصدر.

إن الجمهورية الإسلامية ترى في هذا الحراك الثوري المتغلغل في المجتمع خطرا كبيرا على وجودها ولذا تلجأ إلى القمع والاعتقالات والقتل لاحتوائها على غرار الإعدامات التي أصدرتها محاكم تسمى محاكم الثورة بحق كثير من المعتقلين خلال هذه الموجة من الاحتجاجات.

انطلقت حركة ثورية تمكنت من الزحف إلى المدن المختلفة بسرعة، وبالتالي أصبحت حركة اجتماعية عارمة وغير مسبوقة على مستوى البلاد

ويرى مراقبون أن القمع الواسع والضرب بالحديد قد يؤدي إلى النتائج المطلوبة للنظام على غرار الحد من الاحتجاجات في الشوارع، غير أن هذه الحركة الاجتماعية المناهضة للنظام الإسلامي الحاكم لن تتوقف حتى تحقيق مطالبها بإسقاط النظام. وفي المقابل ترى فئة أخرى أن الشباب والنساء يشكلون الجزء الأكبر من الحراك الحالي، غير أنهم لا يستطيعون بمفردهم تغيير السلطة في المدى القصير. ولم يكن دور الشعوب غير الفارسية أقل من غير فئات المجتمع في هذه الموجة الثورية التي أعقبت مقتل مهسا (جينا) أميني، حيث كان للأكراد الحصة الأكبر في الاحتجاجات التي بدأت بعد دفن مهسا أميني في سقز بكردستان عبر حفر اسمها المحظور (جينا) من قبل السلطة الحاكمة على قبرها بدلا من مهسا مرورا بالشعارات الكردية التي تؤكد هوية الشعب الكردي وتضامنه وتمجيده لقياداته على غرار عبد الرحمن قاسملو، وفؤاد سلطاني، وآخرين.

كما ردد أكراد محتجون هتافات تنادي بالمساواة بين كل مناطق البلاد وهتافات تضامنية مع الشعوب غير الفارسية الأخرى على غرار "الحرية والمساواة للأكراد والبلوش والأتراك الأذريين".

وشهد إقليم بلوشستان حراكا واحتجاجات واسعة منذ بداية الموجة وخرجت مظاهرات واسعة بعد صلاة الجمعة تطالب بالحرية والمساواة بين كل الشعوب وحقهم في التعلم بلغة الأم إلا أن الاحتجاجات خفت حدتها بعد المجزرة التي ارتكبتها السلطات الإيرانية يوم 30 سبتمبر/أيلول في مدينة زاهدان عاصمة الإقليم، حيث قتلت أكثر من 90 شخصا بعد أن فتحت النار على المتظاهرين الذين خرجوا بعد صلاة الجمعة وذلك بعد أسبوعين على اندلاع الموجة الثورية بعد وفاة مهسا أميني.

Reuters
امرأة تشارك في احتجاج ضد النظام في إيران بعد وفاة مهسا أميني، في إسطنبول، تركيا، 10 ديسمبر 2022.

وشارك أتراك أذريون، خاصة في تبريز وأردبيل وأرومية في الاحتجاجات، رافعين شعارات تعبر عن مطالبهم، كان أبرزها "أزادليق، عدالت، ميللي حكومت" (الحرية، العدالة، الدولة الوطنية)، وهتافات أخرى ترفض النظام الملكي والنظام الإسلامي وتطالب بدولة وطنية.

وتصاعدت حدة المظاهرات في هذه المناطق خاصة بعد مقتل طالبة كلية الطب في جامعة حرة تبريز، آيلار حقي، خلال الاحتجاجات، غير أن مشاركة الأتراك الأذريين خلال هذه الموجة الثورية اتسمت بالمحدودية، وقد يكون ذلك بسبب قلقهم من حضور كبير لقوى تتخذ منهجا عنصريا مناهضا للأتراك الأذريين في هذه الاحتجاجات. ويبدو أن هذا هو الهاجس الرئيس المشترك لكل الشعوب غير الفارسية التي تشعر بالقلق من احتمالية ركوب تيار شوفيني معاد لهم الموجة، والأخذ بزمام القيادة في حال تطورت الأمور داخل إيران.

وهذا قد ينطبق على عرب الأهواز الذين لم يشاركوا في هذه الحركة بشكل واسع لأنهم ينظرون بحذر لمآلات هذه الحركة وتبعاتها الخطيرة عليهم، إذا هيمنت تيارات شوفينية معادية للعرب والشعوب غير الفارسية على زمام الأمور، بعد الإطاحة بالجمهورية الإسلامية.

إلى ذلك، فإن السلطات تتعامل بقوة أكبر في مناطق الشعوب غير الفارسية على غرار مدينة معشور في 2019، حيث حاصر عناصر "الحرس الثوري" بكل عتادهم شبابا محتجين بين قصب الأهوار وقتلوا أكثر من 200 شخص حسب قائمة صدرت أعقاب الحادث. وشهدت المناطق التي يسكنها اللور، خاصة في خرم آباد ومدينة إيذج، حراكا شعبيا واسعا من خلال المشاركة في مراسم دفن أبنائهم الذين قتلوا على يد قوات النظام في الاحتجاجات، على غرار نيكا شاكرمي في خرم آباد، وكيان بيرفلك في إيذج.

وبالتالي، فهناك غضب واستياء شعبي عارم في كافة المناطق وفي مختلف الفئات التي تعاني من الاضطهاد القومي والاضطهاد الطبقي والاضطهاد الجنسي.

فترة انتقالية اجتماعية 

ويعتقد كثير من المراقبين أن المجتمع الإيراني يعيش فترة انتقالية اجتماعية أساسية، وهناك ظواهر اجتماعية منتشرة على نطاق واسع في المدن الكبيرة مثل العاصمة طهران على غرار إقصاء الدين في مؤسسة الأسرة و"الزواج الأبيض" الذي يعيش على أساسه شاب وشابة بشكل مشترك كزوجين لكن دون إضفاء أي صفة شرعية أو قانونية ودون التزام الطرفين بأي حقوق أو واجبات، ويسمى هذا الشكل من العلاقة بالفارسية "ازدواج سفيد".

وقد انحسر دور المؤسسة الدينية في إيران بشكل كثير وفقدت هذه المؤسسة مكانتها الاجتماعية في المجتمع الإيراني، وفي المقابل برز دور الفن والفنانين على غرار الممثلين والمغنين في هذه الموجة الاحتجاجية، وكان لهم نصيبهم من حملات الاعتقالات، وآخرها حتي كتابة هذه السطور اعتقال مهدي يراحي المغني المنحدر من مدينة الأحواز ذات الأغلبية العربية، وذلك بسبب نشره أغنية "روسريتو" (وشاحك) ومقطع فيديو يؤيد فيه "الحجاب الاختياري".

وأهدى يراحي هذه الأغنية إلى "النساء الإيرانيات الشجاعات" اللواتي شاركن في الحركة الاحتجاجية. وأعرب يراحي عن دعمه للحركة الاحتجاجية التي انطلقت بعد وفاة مهسا (جينا) أميني.

وليراحي الكثير من الأغاني، وباتت أغنيته "سرود زن" (أنشودة المرأة) منتشرة ومتداولة بشكل واسع في المظاهرات.

هذه التطورات ستؤثر بشكل كبير على مستقبل الموجات واتجاهاتها، كما يقول المراقبون. وبالتالي فإن هذه الحركة الاجتماعية الأخيرة التي انطلقت بعد مقتل مهسا (جينا) أميني ورفعت شعار "المرأة الحياة الحرية" يمكن وصفها بحركة عصيان مدني وتمرد اجتماعي كبير بسبب استياء متراكم خلال عقود يطال فئات في المجتمع والتي ترى كلها نفسها بأنها تعرضت لشكل من أشكال الاضطهاد.

يمثل خلع الحجاب وإحراقه وقص الشعر والرقص في الشوارع دون حجاب مفروض أحد وجوه التمرد على السلطة الحاكمة من قبل كثير من النساء في إيران

وهذه الحركة ليست إلا رأس جبل الجليد الذي ستكون قوته إذا التحقت به الطبقة الرمادية التي لم تحسم أمرها بعد بالمشاركة في هذه الموجة. واللافت في الأمر أن هذه الحركة الاجتماعية التي تعمل على إحداث تحولات أساسية في المجتمع قد يكون تاثيرها بطيئا ولكنه قوي.

ويمثل خلع الحجاب وإحراقه وقص الشعر والرقص في الشوارع دون حجاب مفروض أحد وجوه التمرد على السلطة الحاكمة من قبل كثير من النساء في إيران. واللافت أن الحراك النسوي الجاري في إيران يحظى بدعم شريحة واسعة من الذكور. فحركات إحراق الحجاب أو قص الشعر في إيران حظيت بدعم كبير من قبل رجال منادين بالحرية، فترى هذه الفئة أن الحجاب وطريقة ارتداء الأزياء يجب أن يكون اختياريا وليس مفروضا، غير أن السلطة أثبتت حتى الآن أنها لا تريد التنازل عن الحجاب المفروض فإذا تنازلت عن ذلك ربما يفتح ذلك المجال للمحتجين لطرح مطالب أخرى، وبالتالي على السلطة التراجع أكثر.

font change

مقالات ذات صلة