حرب إسرائيل و"حماس" تشكل تحديا لبريطانيا

إلى جانب مساعداتها للفلسطينيين، أصبحت لندن أقرب إلى إسرائيل في السنوات الأخيرة

Reuters
Reuters

حرب إسرائيل و"حماس" تشكل تحديا لبريطانيا

اتصفت ردة فعل بريطانيا الفورية على المجزرة وعمليات الاختطاف التي طالت العسكريين والمدنيين الإسرائيليين على يد "حماس" بالشعور بالرعب والمسارعة إلى تقديم دعم سريع. وأصر رئيس الوزراء ريشي سوناك على أن "الإرهاب لن ينتصر"، وأن "إسرائيل تملك الحق المطلق في الدفاع عن نفسها وردع المزيد من التوغلات".

من جانبه، أعرب زعيم حزب العمال كير ستارمر عن "الصدمة والفزع من الأحداث الجارية في إسرائيل". وأضاف أن "هذه التصرفات التي تقوم بها حماس لا تُقدم شيئا للشعب الفلسطيني، ويجب أن تتمتع إسرائيل دائما بالحق في الدفاع عن شعبها". وينظر إلى ستارمر على نطاق واسع باعتباره رئيس الوزراء المقبل في المملكة المتحدة، بفعل تقدمه الكبير في استطلاعات الرأي العام.

ومع ذلك، وفضلا عن عروض الدعم المباشرة هذه، فإن الصراع يُمثل تحديا للسياسيين البريطانيين؛ فعلى المستوى الدولي، اقتربت حكومة المملكة المتحدة من إسرائيل في السنوات الأخيرة، لكن في الوقت ذاته تضاءلت إلى حد كبير قدرة بريطانيا على التأثير في حليفتها وفي الصراع الأوسع مع الفلسطينيين. ومع محدودية الخيارات المتاحة أمام بريطانيا في الخارج، أصبح الصراع أكثر تأثيرا على الصعيد الداخلي. وتتزايد معاداة السامية المتعلقة بالأحداث الجارية في الشرق الأوسط، إذ تجري اشتباكات بين السلطات والجماعات الكبيرة المؤيدة للفلسطينيين، ويحتج هؤلاء الناشطون على الأعمال الانتقامية الإسرائيلية في غزة. وتتمثل المعضلة بالنسبة إلى كل من المحافظين الموجودين في سدة الحكم، وحزب العمال المعارض، على حد سواء، في طريقة إدارة الدعم الغريزي لإسرائيل، والتوترات الداخلية المحتملة، مع الأمل في اكتساب درجة من الأهمية الدولية في الصراع.

تأييد إسرائيل وعملية السلام

تتمتع بريطانيا، بطبيعة الحال، بعلاقة طويلة تربطها بكل من إسرائيل والفلسطينيين. ومعروف أن لندن أصدرت وعد بلفور الشهير عام 1917، وأخذت على عاتقها الانتداب على فلسطين، وهو ما مهد الطريق أمام تطور إسرائيل. خلال فترة الحرب الباردة، وضعت بريطانيا جانبا عداءها السابق تجاه إسرائيل، الذي نشأ عن الحملة الإرهابية التي أدت إلى انسحاب بريطانيا من فلسطين عام 1948، وأصبحت الدولتان حليفتين مخلصتين. وتماشيا مع الدول الغربية الأخرى، تبنت بريطانيا في التسعينات "حل الدولتين"، الذي اقترحته اتفاقات أوسلو للسلام ودعمته باستمرار.

وجاءت المشاركة البريطانية في ذروتها خلال فترة ولاية توني بلير كرئيس للوزراء عندما نجح في إقناع الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بإحياء عملية السلام المتعثرة. إلا أن "خارطة الطريق للسلام" التي طرحها بوش واجهت عقبات مماثلة لتلك التي واجهها اتفاق أوسلو. ورغم أن بلير نفسه تولى في وقت لاحق دور المبعوث الخاص للجنة الرباعية للشرق الأوسط (التي تضم الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا)، إلا أن الدور المباشر الذي لعبته بريطانيا في العملية ظل محدودا نسبيا.

قُتل أو فُقد 17 مواطنا بريطانيا خلال هجمات حماس وبعدها، وهناك مخاوف من ارتفاع هذا العدد، إذ يُقدر حاليا وجود أكثر من 60 ألف مواطن بريطاني في إسرائيل أو قطاع غزة. 

ومنذ ذلك الحين، تراجعت مشاركة بريطانيا. ولكنها لا تزال تقدم المساعدات للسلطة الفلسطينية وقطاع غزة. فعلى سبيل المثال، تعهدت بريطانيا بتقديم 38 مليون جنيه إسترليني كمساعدات بهدف دعم النشاط الاقتصادي في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة الممتدة من 2018 إلى 2023، وأرسلت 20 مليون جنيه إسترليني إضافية إلى السلطة الفلسطينية للمساعدة في دفع أجور العاملين في مجالي الصحة والتعليم. ووصل بها الأمر إلى حد التدخل، فقدمت تمويلا إضافيا بقيمة 7 ملايين جنيه إسترليني للمساعدة في سد العجز عندما قام الرئيس الأميركي دونالد ترمب بوقف مساهمة واشنطن في وكالة "الأونروا"، والتي تدفع تكاليف الخدمات الحيوية في الأراضي المحتلة.

ولكن إلى جانب مساعداتها للفلسطينيين، أصبحت لندن أقرب إلى إسرائيل في السنوات الأخيرة. وزادت التجارة، ولا سيما في قطاع التقانة، إذ تمثل إسرائيل حاليا خامس أكبر وجهة لتصدير السلع والخدمات البريطانية في الشرق الأوسط. ومع تحول حزب المحافظين الحاكم نحو اليمين بعد الاستفتاء الذي جرى على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حث الكثير من شخصياته البارزة على تقديم المزيد من الدعم لإسرائيل.

وكانت بريتي باتيل، التي شغلت منصب وزير الداخلية في الفترة الممتدة من 2019 إلى 2022، مناصرة معروفة، بعد أن اضطرت إلى الاستقالة من منصب وزاري سابق عقب رحلة سرية قامت بها إلى إسرائيل. وبالمثل، أرادت ليز تراس، خلال فترة عملها القصيرة كرئيسة للوزراء عام 2022، نقل سفارة المملكة المتحدة من تل أبيب إلى القدس، مقلدة بذلك دونالد ترمب خطوة بخطوة، وهو الأمر الذي كان سيشير بشكل فعال إلى دعم المملكة المتحدة لضم إسرائيل غير القانوني للقدس الشرقية. وفي عام 2019، صنفت المملكة المتحدة "حزب الله" على أنه منظمة إرهابية، وهو أمر لطالما ضغطت إسرائيل من أجله.

AFP
متظاهرون، يحملون لافتات تقرأ رسائل لدعم الفلسطينيين، يشاركون في وقفة احتجاجية خارج مقر رئاسة الوزراء في لندن، في 18 أكتوبر 2023

 

الكثير من النشطاء المؤيدين للفلسطينيين لا يعتبرون أنفسهم معادين للسامية، فقد اعتبر أعضاء الجالية اليهودية في بريطانيا أن بعض أفعال هؤلاء تمثل تهديدا لليهود. 

لم يكن المحافظون أصدقاء لإسرائيل من دون توجيه انتقادات لها؛ فعلى سبيل المثال، دان وزير الخارجية جيريمي هانت اعتراف ترمب بضم إسرائيل غير القانوني لهضبة الجولان السورية عام 2019، في حين حثت بريطانيا على حماية المدنيين خلال الهجمات الإسرائيلية السابقة على غزة. لقد كانت المملكة المتحدة تاريخيا داعمة لإسرائيل منذ فترة طويلة، لكن صراع اليوم اندلع في ظل قيادة حكومةٍ أكثر تأييدا لإسرائيل من سابقاتها.

واللافت أن أحد الإجراءات الأولى التي اتخذها ريشي سوناك بعد اندلاع الصراع كان تقديم الدعم العسكري، والاستخباراتي والأمني لإسرائيل. قد يبدو هذا اقتراحا غريبا نظرا إلى أن إسرائيل لا تفتقر إلى أي من هذه العناصر، ويمكنها أيضا الاعتماد على موارد الولايات المتحدة الأضخم بكثير من قدرات الجميع، ولكن في عالم ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تُعد الموارد الأمنية والعسكرية من بين الأدوات القليلة التي يُمكن للمملكة المتحدة تقديمها، وذلك بعد أن فقدت ثقلا اقتصاديا ودبلوماسيا كبيرا على أثر خروجها من الاتحاد الأوروبي.

وقد تقبل إسرائيل هذه العروض، ولكن باعتبارها إشارة إلى صداقتها مع بريطانيا، وليس باعتبارها إشارة إلى نقص أو حاجة من غير الممكن لها الحصول عليها في أي مكان آخر. ومنذ ذلك الحين، عرض سوناك أيضا تقديم دعم عسكري لمصر للمساعدة على إبقاء معبر رفح الحدودي مفتوحا أمام المساعدات الإنسانية عقب القصف على قطاع غزة، واعتمد مجددا على العروض الأمنية نظرا لعدم توفر خيارات أخرى.

وساد التوتر منذ فترة طويلة بشأن الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل، ومعاداة السامية. ويصر البعض على أن الاحتجاج على إسرائيل هو معاداة للسامية، لأن إسرائيل هي الدولة اليهودية الوحيدة في العالم. وفي المقابل، يرى خصومهم أن هناك فرقا بين انتقاد دولة إسرائيل واستهداف اليهود بشكل عام. ومع ذلك، وبينما الكثير من النشطاء المؤيدين للفلسطينيين لا يعتبرون أنفسهم معادين للسامية، فقد اعتبر أعضاء الجالية اليهودية في بريطانيا أن بعض أفعال هؤلاء تمثل تهديدا لليهود. ومن الأمثلة على ذلك كتابة شعار "فلسطين حرة" على الجدران في مناطق لندن المكتظة بالسكان اليهود. وأشارت "مؤسسة أمن المجتمع" (CST) إلى أن البعض "يستخدمون رموز ولغة السياسة المؤيدة للفلسطينيين كأسلحة خطابية لتهديد الشعب اليهودي، والإساءة إليه".

وأعربت وزيرة الداخلية المحافظة، سويلا برافرمان، عن مخاوفها بشأن معاداة السامية واقترحت على شرطة المملكة المتحدة أن تفكر في اعتماد إجراءات أكثر صرامة. وذكرت حظر بعض السلوكيات التي قد تعتبر مشروعة في بعض الظروف، عندما يكون المقصود منها تمجيد الأعمال الإرهابية، مثل التلويح بالعلم الفلسطيني. وشددت برافرمان أيضا على أن من غير المقبول القيادة عبر الأحياء اليهودية أو استهداف أفراد من الجمهور اليهودي بهتافات عدوانية أو التلويح برموز مؤيدة للفلسطينيين.

AFP
رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك يتحدث خلال جلسة أسئلة رئيس الوزراء في مجلس العموم في لندن، 18 أكتوبر 2023.

وقد أثارت هذه التصريحات مخاوف بين المؤيدين للفلسطينيين ونشطاء حرية التعبير، حيث يخشى البعض من أن برافرمان، المعروفة بدعمها القوي لإسرائيل، كانت تدعو بشكل فعال إلى فرض حظر على العلم الفلسطيني. وردا على ذلك، أوضحت الشرطة أنها لن تساوي تلقائيا بين دعم القضية الفلسطينية ودعم "حماس". وذكرت أنه "لن يتم التسامح مع أي إساءة أو تخويف بدوافع دينية، ووعدت بأن يتخذ الضباط الإجراءات عند الضرورة".

الصراع يُمثل تحديا للسياسيين البريطانيين؛ فعلى المستوى الدولي، اقتربت حكومة المملكة المتحدة من إسرائيل في السنوات الأخيرة، لكن في الوقت ذاته تضاءلت إلى حد كبير قدرة بريطانيا على التأثير في حليفتها وفي الصراع الأوسع مع الفلسطينيين.

سلوك العمال المتوازن

يواجه حزب العمال عملية توازن صعبة في الاستجابة للصراع المستمر. فخلال قيادة جيريمي كوربين، وهو مؤيد قوي للفلسطينيين، ابتلي الحزب باتهامات معاداة السامية، مما أدى إلى رحيل كثير من الأعضاء اليهود والكثير من النواب. ومنذ أن أصبح كير ستارمر زعيما للحزب، بدأ يعمل بجد لإعادة تأهيل الحزب، وإطلاق تحقيقات داخلية في معاداة السامية وطرد بعض الأعضاء، بما في ذلك كوربين نفسه.

ولم يكن مفاجئا أن يبدأ ستارمر خطابه الرئيس في مؤتمر حزب العمال بالتعبير عن دعمه لإسرائيل، في خروج واضح عن تقاليد كوربين، على الرغم من أنه يتماشى مع تقليد حزب العمال الأوسع، الذي حافظ تاريخيا على علاقة وثيقة مع إسرائيل بسبب الارتباطات الآيديولوجية المشتركة مع مؤسسي الصهيونية الاشتراكية في إسرائيل.

ومع ذلك، يواجه ستارمر عملية توازن دقيقة. فمن ناحية، يهدف دعمه الصريح لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس إلى إظهار لليهود البريطانيين ومؤيدي إسرائيل وعامة الناس أنه زعيم مختلف عن كوربين، وينأى بنفسه عن الجدل حول معاداة السامية والدعم اليساري الغريزي للفلسطينيين، ويدرك الحاجة إلى الحفاظ على دعم مجموعة مخصصة من النشطاء المؤيدين لإسرائيل داخل حزب العمل والجمهور الانتخابي الأوسع.

وفي الوقت نفسه، هناك مجموعة ملتزمة من المؤيدين للفلسطينيين، ويجب على ستارمر أن لا ينفّرهم إذا كان يأمل في الفوز بالسلطة. على سبيل المثال، انتقدت "شبكة العمال المسلمين" (LMN)، المكونة من أعضاء حزب العمال المسلمين البريطانيين، تصريح ستارمر بأن إسرائيل لديها "الحق" في قطع إمدادات الطاقة والمياه عن غزة، مؤكدة أن مثل هذه الأعمال تشكل "عقابا جماعيا"، وهو أمر غير قانوني. بموجب القانون الدولي. ومع استمرار الصراع، قد يواجه ستارمر المزيد من التحديات من بعض أعضاء حزبه ومؤيديه، خاصة إذا أدت الأعمال الانتقامية الإسرائيلية المتوقعة في غزة إلى خسائر كبيرة.

وبالنظر إلى النفوذ الدولي المحدود لبريطانيا، يدرك كل من كير ستارمر، وريشي سوناك، أنه من غير المرجح أن يكون للمملكة المتحدة تأثير كبير على مسار الصراع. ومن المرجح أن تتضمن مساهماتهم التعبير عن الدعم، وإصدار الإدانات، والدعوة إلى وقف التصعيد داخل المجتمع الدولي الأوسع. بالإضافة إلى ذلك، تقدم المملكة المتحدة المساعدة لعمليات الأمن والمساعدات الحالية المتعلقة بالنزاع.

ومن المرجح أن تظهر العواقب المباشرة والملموسة للصراع داخل المجتمع البريطاني. وفي هذا السياق، سيكون التركيز الأساسي على حماية وإجلاء المواطنين البريطانيين الذين قد يجدون أنفسهم عالقين في الصراع. علاوة على ذلك، ستكون هناك جهود لتقليل أي آثار سلبية أو تداعيات داخل المجتمع البريطاني ناجمة عن الصراع المستمر. ويمكن أن يشمل ذلك معالجة المخاوف المتعلقة بالأمن والمشاعر العامة والعلاقات المجتمعية في المملكة المتحدة.

font change


مقالات ذات صلة