حرب غزة تزيد تأرجح الأسواق... والنفط في الميزان

أسهم شركات الطيران الأكثر تضرراً ... وتوقعات سلبية للسياحة في مصر والأردن ولبنان وإسرائيل

متداولون في بورصة نيويورك

حرب غزة تزيد تأرجح الأسواق... والنفط في الميزان

لم تكن الأسواق المالية في مختلف دول العالم في أحسن أحوالها منذ بداية السنة، ولم يكن ينقصها سوى حرب دامية ومدمرة جديدة في غزة تضاف الى الصراعات الأخرى بمختلف أشكالها. أداء هذه الأسواق تفاوت بين مد وجزر وتفاعلت مع البيانات الاقتصادية وصعدت بمؤشراتها خلال أشهر السنة الجارية بعدما تراجعت حدة التضخم الذي كان يشكل قلقاً أساسياً ودفع السلطات النقدية في مختلف الدول إلى رفع سعر الفائدة وزيادة تكاليف الاستدانة. لا يزال استمرار الحرب في أوكرانيا وعدم حسمها يمثل مشكلة اقتصادية، حيث حافظت أسعار النفط على اتجاهها ارتفاعا، خصوصاً أن الدول المنتجة الأعضاء في "أوبك بلس"، قررت خفض الإنتاج على المدى طويل الأجل حفاظاً على تماسك الأسعار.

كذلك، لم يكن أداء الأسواق المالية متميزاً طوال العام المنصرم. يعود ذلك الى التشدد في السياسات النقدية الذي أدى إلى رفع معدلات الفائدة المصرفية الى مستويات قياسية. فخلال النصف الأول من السنة الجارية، ارتفعت المؤشرات بنسبة قدرت بـ 12 في المئة في الأسواق الرئيسية في الاقتصادات المتقدمة، ما يعني إضافة ستة تريليونات دولار إلى قيمة الأسهم المدرجة. لا شك أن أسهم التكنولوجيا حققت الارتفاعات الأهم. لكن الأداء في الربع الثالث من السنة لم يكن متناغماً مع أداء النصف الأول حيث بقي "عدم اليقين" سائداً بالنسبة لتوجهات مجلس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي، ومدى إمكان رفع اضافي لسعر الفائدة خلال الفترة المتبقية من هذه السنة، وكيف ستتعامل البنوك المركزية الرئيسية الأخرى في هذا الشأن.

جاءت الحرب على غزة لتزيد الأوضاع صعوبة حيث تأثرت الأسواق المالية الخليجية بالتطورات منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وكذلك الحال في السوق المالي في إسرائيل

حافظت بيانات سوق العمل في الولايات المتحدة على تماسكها وقوتها بما أكد لصناع السياسة النقدية أن الاقتصاد لا يزال ساخناً ولا بد من تبريده برفع تكاليف الاستدانة. وقد تم توظيف 336 ألفاً من العاملين الجدد في مختلف الأعمال غير الزراعية خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي في الولايات المتحدة، بموجب بيانات مكتب إحصاءات العمل، وظل معدل البطالة في حدود 3,8 في المئة. ربما لم ينخفض معدل التضخم في الشهر نفسه إلى المستوى المنشود من قبل مجلس الاحتياطي الفيديرالي، وهو 2 في المئة، إلا أن معدل 3,7 في المئة يبقى تطوراً إيجابياً قياساً بالمستويات التي سجلت خلال العام المنصرم أو حتى الشهور السابقة، وهو ما يؤكد أن معدل التضخم يتراجع تدريجيا.

على الرغم من ذلك، يبقى مجلس الاحتياطي الفيدرالي حذراً وماضيا في سياسة رفع معدل الفائدة.

هذه الوقائع الاقتصادية، زعزعت ثقة المستثمرين في نتائج الشركات المدرجة وإمكان تحسن أسعار الأسهم. في الوقت عينه، ارتفعت معدلات العوائد على السندات الحكومية لتبلغ 4,6 في المئة في الولايات المتحدة في حين بلغت 2,93 في ألمانيا، نظراً لارتفاع مستويات المديونية الحكومية في دول رئيسة عديدة، خصوصاً بعد غزو روسيا لأوكرانيا وزيادة مخصصات الدفاع والتسلح. وأدت الحرب في أوكرانيا، إضافة إلى التكاليف التي حملتها لحكومات الدول الغربية، كالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، إلى التأثير على الثقة في الأسواق المالية وساهمت منذ بداياتها في رفع معدلات التضخم وتعطيل إمدادات النفط والغاز والغذاء.

رويترز

ظلت دول الاتحاد الأوروبي، ومنطقة اليورو تحديداً، تعاني من ارتفاع معدل التضخم حيث بلغ 4,3 في المئة في شهر سبتمبر/أيلول، وعلى الرغم من أن ذلك أدنى من معدله في شهر أغسطس/آب، حيث كان 5,2 في المئة، فإن التضخم لا يزال أعلى بكثير من معدل الـ2 في المئة الذي يطمح  إليه البنك المركزي الأوروبي. كذلك، بينت الإحصاءات الاقتصادية أن منطقة اليورو تواجه انكماشاً في أداء القطاع الخاص. وعندما يرفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة إلى 4,5 في المئة، فإن ذلك يعيق القدرة على تمويل الأعمال القائمة أو التوسع في أنشطة جديدة. ولا بد أن يؤثر ذلك على أداء الأسواق المالية في منطقة اليورو. فقد انخفض مؤشر الأسواق المالية الأوروبية "ستوكس 600" (STOXX 600) في نهاية الربع الثالث من السنة الجارية بنسبة 2,5 في المئة. وعلى عكس بيانات التضخم، فإن بيانات النمو الاقتصادي ليست وردية، حيث أظهرت التوقعات أن معدل النمو في المنطقة سيكون بحدود 0,7 في المئة وربما يرتفع إلى 1 في المئة في عام 2024.

التضخم لا يزال أعلى بكثير من معدل 2 في المئة الذي يطمح إليه البنك المركزي الأوروبي، وبيانات النمو ليست وردية، وتظهر التوقعات بأن معدل النمو في منطقة اليورو سيكون بحدود 0,7 في المئة، وربما يرتفع إلى 1 في المئة في عام 2024

لكن تأثير الأوضاع الاقتصادية في الصين قد يكون ذا أهمية للاقتصاد العالمي وللأسواق المالية نظراً لما تمثله الصين من دور في التجارة الدولية وحجمها الاقتصادي الثاني عالميا من حيث قيمة الناتج المحلي الإجمالي.

Shutterstock

كان الأداء  قوياً في بداية 2023، إلا أن النشاط الاقتصادي الصيني تراجع بشكل كبير خلال الأشهر الماضية ليشكل صدمة للمحللين ورجال الأعمال. إذ انهارت الصادرات وانخفض الاستهلاك الوطني وتباطأ الإنتاج وتدنت الاستثمارات. ربما كانت الإجراءات التي اتخذت لمواجهة جائحة كوفيد-19 ذات تبعات على الأداء الاقتصادي، إلا أن القطاع العقاري الصيني كان يعاني من أزمة حيث ترزح شركاته تحت أعباء الديون وانخفاض الطلب في حين تزايد العرض بشكل غير رشيد.

دخول الاقتصاد الصيني في حال الانكماش دفع البنك المركزي الصيني إلى خفض معدل الفائدة لتوفير المزيد من السيولة للأنشطة الاقتصادية. في الوقت نفسه، تزايدت مبيعات الأسهم في السوق المالــــي وتراجـــــــع مؤشر "هانغ سانغ" (Hang Sang Index) ومؤشر "سي. أس. آي" (CSI 300 Index).

غني عن البيان أن هناك الكثير من المستثمرين الأجانب والصناديق السيادية وصناديق التقاعد ممن وظفوا مليارات الدولارات في الأسواق المالية الصينية ولا بد أن هؤلاء قد قاموا بتسييلات مهمة في هذه الفترة. 

استقبلت الصين منذ بداية الانفتاح والإصلاح الهيكلي في أواخر سبعينات القرن الماضي تدفقات استثمارية مهمة من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي واليابان ومن مستثمرين آخرين من بينهم مستثمرون خليجيون.

هناك شركات قد تستفيد من هذه الأوضاع السياسية والحربية غير المواتية، لكن إذا استمرت الأوضاع الأمنية بالتردي وظلت الحرب مستمرة لفترة طويلة نسبياً، فلا بد أن تتأثر الأسواق بشكل مقلق للمستثمرين

سجلت الأسواق المالية الخليجية تراجعات في نهاية الربع الثالث من 2023. أظهر تقرير للمركز المالي الكويتي "المركز" أن سوق الكويت للأوراق المالية سجل تراجعاً بنسبة 1,6 في المئة في نهاية سبتمبر/أيلول.

كما بين مؤشر "ستاندر أند بورز" المركب لدول مجلس التعاون الخليجي (S&P GCC Composite) تراجعاً بنسبة 2,4 في المئة. تراجعت الأسواق المالية الخليجية على الرغم من ارتفاع أسعار النفط، بيد أن صندوق النقد الدولي توقع أن يكون معدل النمو في منطقة الخليج متدنياً وأقل من التوقعات الحالية، أي دون الخمسة في المئة لهذا العام، وربما يتراجع إلى 4,2 في المئة خلال عام 2024. كذلك، التوقعات غير وردية من قبل "ستاندر أند بورز" (S&P Global Market) حيث تشير إلى معدل نمو 1,5 في المئة بعد أن كان 7,5 في المئة في عام 2022، وربما يرتفع إلى 2,2 في المئة في عام 2024. 

AFP
سوق الأسهم السعودية "تداول" في الرياض

كما هو معلوم أن الاقتصادات الخليجية لا تزال تعتمد على إيرادات النفط بشكل أساسي، فهل ستستمر أسعار النفط بالارتفاع وتحافظ على تماسكها أم أن الأوضاع الصينية قد تؤدي إلى تراجع الطلب على النفط؟ على الرغم  من التحولات المهمة في السعودية والإمارات، لا يزال الاقتصاد غير النفطي في دول الخليج بعيداً عن تحقيق تنوع هيكلي والحد من هيمنة الاقتصاد النفطي. هذه الحقائق لابد أن تنعكس في أداء الأسواق المالية.

جاءت الحرب على غزة لتزيد الأوضاع صعوبة حيث تأثرت الأسواق المالية الخليجية بالتطورات منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وكذلك الحال في السوق المالي في إسرائيل. لكن الأسواق المالية العالمية لم تتأثر كثيرا،ً حيث ارتفع مؤشر "داو جونز" (Dow Jones)  يوم الاثنين التاسع من أكتوبر/تشرين الأول. بطبيعة الحال، هناك شركات قد تستفيد من هذه الأوضاع السياسية والحربية غير المواتية، لكن إذا استمرت الأوضاع الأمنية في التردي وظلت الأعمال القتالية مستمرة لفترة طويلة نسبياً، فلا بد أن تتأثر الأسواق بشكل مقلق للمستثمرين، وربما يتم استيعاب حرب غزة كما جرى مع الحرب الروسية على أوكرانيا. 

يبقى الأهم مراقبة تأثير الحرب الجارية في غزة على أسعار النفط والنشاط الاقتصادي في دول المنطقة. كانت أسهم  شركات الطيران الأكثر تضرراً في تعاملات الأسبوع التالي للحرب، ومن المتوقع  أن تتأثر الأنشطة السياحية في دول المنطقة، ولا سيما في مصر والأردن ولبنان وإسرائيل. يراهن المراقبون على إمكان التوصل إلى هدنة ووضع حد للأعمال الحربية، إلا أن الأمور حاليا تبدو أكثر صعوبة مما كانت في المواجهات التي جرت بين إسرائيل وغزة خلال السنوات المنصرمة.

مهما يكن، فإن إنجاز تسوية سياسية للقضية الفلسطينية والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بموجب قرارات الأمم المتحدة، سيؤديان إلى السلام  والتنمية وينعش الأسواق المالية. غني عن البيان أن هذا الطموح لن يتحقق على المدى المنظور، مما يجعل الأمن في المنطقة هشاً ويعرض النشاط الاقتصادي إلى الأخطار.

يبقى الأهم مراقبة تأثير حرب غزة على أسعار النفط والنشاط الاقتصادي في دول المنطقة. كانت أسهم شركات الطيران الأكثر تضرراً في تعاملات الأسبوع التالي للحرب، ومن المتوقع أن تتأثر الحركة السياحية في مصر والأردن وإسرائيل

هل يمكن أن تحقق الصناديق السيادية والشركات والمؤسسات الخليجية نتائج طيبة في الاستثمار في الأسواق المالية خلال السنة الجارية والسنوات المقبلة، إذا استمر الأداء الذي شهدناه في الربع الثالث من هذا العام؟ لا شك أن الإدارات الموكول إليها متابعة الأسواق والتعرف إلى الأدوات الاستثمارية المسعرة، من أسهم حقوق الملكية أو السندات، يجب أن تكون قادرة على استشراف التقلبات في الأسواق وأن تتمكن من التحرر من الأدوات الصعبة، وتوظيف الأموال في أدوات واعدة.

ليس هناك من ضمانات لحماية الاستثمارات، مما يؤكد أهمية الاستشعار في مختلف الأسواق. ليس هناك معلومات تفصيلية عن توزيع الاستثمارات الخاصة بالصناديق والمؤسسات الخليجية، لكن تجربة الصندوق السيادي النروجي تؤكد أهمية توفير البيانات بما  يبعث الاطمئنان بين المهتمين من شعوب المنطقة. الصندوق النروجي، الذي تأسس في عام 1996، سجل عائدات مهمة منذ تأسيسه بمعدل 5,99 في المئة سنوياً بين الأول من يناير/كانون الثاني 1998 إلى نهاية النصف الأول من هذه السنة. هذا الصندوق السيادي يملك أصولاً تجاوزت قيمتها 1,4 تريليون دولار، لذلك لا بد أن يكون العائد كبيرا. 

font change

مقالات ذات صلة