ظل الجائحة المقبلة يلوح من الكونغو الديموقراطية

تراجع التلقيح في الكونغو الديموقراطية يزيد خطر انتشار الأمراض والتكيف معها من دون اكتشافها

AFP
AFP
امرأة تحمل طفلها أثناء قياس وزنه من برنامج للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية برعاية برنامج الأغذية العالمي في مركز صحي في مافيفي، إقليم بيني، شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، في 15 نوفمبر 2016.

ظل الجائحة المقبلة يلوح من الكونغو الديموقراطية

في نسيل، جمهورية الكونغو الديموقراطية، لاحظت نانا إيبومبو أن دانيال موانزا البالغ من العمر ثماني سنوات كان محموماً. إيبومبو هي خبيرة في التغذية تعمل في دار للأيتام تقع في ضواحي كينشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديموقراطية، وتشرف على جوانب صحة الأطفال كلها. الخريف الماضي، واجهت الكونغو تفشياً كبيراً للإمبوكس (المعروف سابقاً باسم جدري القردة)، فضلا عن تهديد مستمر بتفشي الحصبة. قررت إعطاء دانيال مضادات حيوية، على أمل أن تهدأ حمّاه. لكنه من ثم بدأ التقيؤ، وبعد ذلك بوقت قصير ظهرت طفوح جلدية على جلده.

بعد أيام، ظهرت على طفلين أصغر سناً، كريس ماتوندو وبنيسييل تشيتنج، الأعراض نفسها. اعتقدت إيبومبو أنهم جميعاً قد يكونون مصابين بالحصبة؛ كان عدد قليل من الأطفال الـ35 الذين يعيشون في دار الأيتام قد تلقوا لقاحات. أخذت الثلاثة إلى عيادة صحية قريبة، حيث كانت لدى الدكتور تريسور غوليفوا نظرية أخرى: الإمبوكس. لكي يتأكد من ذلك، اضطر إلى إرسال عينات إلى المعهد الوطني للبحوث الطبية الحيوية، الواقع في وسط كينشاسا، على بعد نحو 18 ميلاً [29 كيلومتراً تقريباً] – وهو المختبر الوحيد القادر على اختبار الأمراض المعدية في الكونغو أو في جمهورية الكونغو المجاورة.

سلسلة أوبئة

تعاني الكونغو سلسلة من الأوبئة السنوية: ليست الحصبة وشلل الأطفال والكوليرا والطاعون والملاريا والإيبولا والإمبوكس سوى بعض الأمراض التي تهدد الأطفال، وكثر منهم غير ملقحين. في الكونغو، يُلقَّح 35 في المئة فقط من الأطفال في شكل كامل قبل بلوغهم الثانية من العمر. وهذا يتبع اتجاهاً مؤسفاً: قبل جائحة كوفيد-19، كانت معدلات التحصين العالمية تتزايد ببطء، لكن عام 2021، فوّت ما يقرب من 25 مليون طفل حول العالم لقاحاتهم الروتينية، في أكبر تراجع خلال أكثر من ثلاثة عقود.

سجلت منظمة الصحة العالمية أكثر من 10 آلاف إصابة بالإمبوكس في الكونغو، مع أكثر من 360 حالة وفاة. كذلك شهدت الكونغو أسوأ وباء للحصبة على الإطلاق بين عامي 2018 و2020، مع أكثر من 460 ألف حالة. ومن المرجح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير.

لطالما كانت الكونغو نقطة انطلاق للأمراض المعدية. ذلك أن انخفاض التغطية بالتلقيح – فضلاً عن انخفاض الثقة في اللقاحات – وسوء أنظمة الصرف الصحي، يعرضان البلاد إلى خطر تصدير الفيروسات عبر حدودها.

خلال تفشٍّ للإيبولا عام 2018، أصبح ثاني أكبر تفشٍّ للمرض في العالم، أُبلِغ عن حالات ذات صلة في أوغندا. وعلى الرغم من أن حكومة الكونغو اتخذت خطوات لتحسين معدلات التحصين، يجعل حجم البلاد الكبير ومواردها المالية المحدودة السيطرة على تفشي المرض في أنحاء البلاد كلها أمراً صعباً. ومن دون حملات تلقيح شاملة، يمكن للأمراض أن تنتشر وتتكيف من دون أن تُكتشَف وأن تهدد بقية العالم أيضاً.

AFP
سوق الفحم في غوما، شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، في 2 ديسمبر 2022.

بعد أيام من عودة كريس البالغ من العمر سنة من العيادة الصحية، ظلت حماه مرتفعة. كل ما استطاع موظفو دار الأيتام فعله هو الانتظار. من دون نتائج الاختبار، ما كانوا ليفرضوا حجراً صحياً على الأطفال، ذلك لأن الحجر الصحي في حالات "الإمبوكس" سيكون أكثر صرامة منه في حالات الحصبة، نظرا إلى معدل الوفيات البالغ ثلاثة في المئة إلى ستة في المئة للإمبوكس. وبينما كان الأطفال في دار الأيتام ينتظرون النتائج، اختلط بعضهم ببعض ونشروا المرض إلى طفلين آخرين على الأقل. وحتى بعد أشهر، لم يتلقّ غوليفوا نتائج الاختبار من المعهد الوطني للبحوث الطبية الحيوية.

10 آلاف إصابة بـالحصبة

لكن تحديد إصابة الأطفال في دار الأيتام بالحصبة أو الإمبوكس ظل مهماً: على الرغم من أن لقاح الإمبوكس الأكثر فاعلية – اسمه "جينيوس" – وافقت عليه إدارة الغذاء والدواء عام 2019، هو ليس متاحاً للجمهور بعد في الكونغو. وعندما وصل الفيروس إلى أوروبا والولايات المتحدة العام الماضي، مما تسبب في تفشيات قريبة الأجل لكن كبيرة، تلقت أوروبا والولايات المتحدة اللقاحات المتاحة. لكن الكونغو من بين البلدان الأكثر تضرراً من كلا الفيروسين. بين عامي 2020 و2022، سجلت منظمة الصحة العالمية أكثر من 10 آلاف إصابة بالإمبوكس في الكونغو، مع أكثر من 360 حالة وفاة. كذلك شهدت الكونغو أسوأ وباء للحصبة على الإطلاق بين عامي 2018 و2020، مع أكثر من 460 ألف حالة. ومن المرجح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير. 

في النظر إلى تاريخ الكونغو مع المرض، تكفي حالة واحدة فقط من الإمبوكس لإعلان حلول وباء، وفق غوليفوا. العام الماضي، شهدت 22 مقاطعة من أصل 26 مقاطعة في البلاد أوبئة إمبوكس. لكن الافتقار إلى القدرة على الاختبار السريع في الكونغو كثيراً ما يجعل نتائج الاختبار عديمة المنفعة، كما علم موظفو دار الأيتام. وقال بلاسيد مبالا، مدير مختبر المعهد: "التحدي الأكبر هو الوقت بين موعد استلامنا العينات وموعد توصلنا إلى النتائج".

معاناة في التلقيح

وتعاني الكونغو في تلقيح ملايين الأطفال في الظروف الطبيعية. ويساهم في المشكلة نقص في البنية التحتية، ونواقص في الوقود، ومركزية اللقاحات في العاصمة. وقال ديفوس كابيمبا، رئيس منطقة نسيلي الصحية، إن الحفاظ على اللقاحات في درجة الحرارة اللازمة في المناخ الاستوائي يمثّل التحدي الأكبر. وأضاف أن منطقة نسيلي الصحية لا تتلقى تمويلاً سنوياً كافياً لتنظيم حملات تلقيح كافية – ثلاثة دولارات فقط لكل طفل، في حين أنها تحتاج حقاً إلى 15 دولاراً. ولا يكفي الدعم من الشركاء الدوليين لتغطية الفرق.

AFP
فتاة وصبي يحملان الماء في مخيم روسايو للنازحين داخليًا، الذي يأوي عشرات الآلاف من النازحين بسبب الحرب، والذي يقع عند سفح بركان نيراجونجو النشط، على مشارف غوما، شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، في 2 أكتوبر، 2023.

تركز الحكومة على التعليم. في مركز ميرفيدي الطبي في نسيلي، وقفت أمهات في طابور مع أطفالهن الحديثي الولادة في انتظار تلقيحهم. وقالت العديد من النساء إنهن لا يستطعن الوصول إلى مياه نظيفة وجارية – وهو عامل آخر يؤدي إلى تفاقم الأوبئة في البلاد. خارج العيادة، تحدثت أورتان مانليغو، وهي متطوعة مجتمعية، إلى الناس عن اللقاحات. ويُعَدّ عملها أساسياً، إذ أن المعلومات المضللة التي تفشت في أعقاب جائحة كوفيد-19 جعلت الناس حذرين من التلقيح.

إن المشكلة تنبع من نقص البنية التحتية المخصصة للدفع الرقمي والتي يمكن أن تسمح للأموال بالوصول إلى العاملين الصحيين في المناطق النائية

نائبة وزير الصحة في الكونغو فيرونيك كيلومبا نكولو

وقالت مانليغو إن المتطوعين المجتمعيين "كانوا يبلون بلاء حسناً في إقناع الوالدين بتلقيح الأطفال ضد شلل الأطفال والأمراض الأخرى. لكن عندما حل كوفيد-19 انتشرت معلومات مضللة على واتساب". وأظهرت دراسة أجرتها الحكومة وشركاء دوليون أن 45 في المئة من المعلومات المضللة حول كوفيد-19 تنتقل من طريق الكلام الشفهي و20 في المئة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؛ وفي حين أشركت الحكومة قادة مجتمعيين في معركتها ضد المعلومات المضللة، لا يزال من الصعب السيطرة على الشائعات. جعل كوفيد-19 من الصعب إقناع المواطنين بالتلقيح، مما قوض التأهب للجوائح في المستقبل. 

من العوائق الرئيسة الأخرى أمام جهود التحصين، الفساد عند المستويات الدنيا من المعنيين. يقول العديد من العاملين الصحيين المسؤولين عن تلقيح الأطفال في أنحاء البلاد كلها إنهم لم يتلقوا رواتبهم منذ سنوات. قال جاك بيلي، وهو عامل صحي يعمل في كينشاسا في إعطاء اللقاحات، إنه لم يتلق أكثر من مكافأة الأخطار الشهرية البالغة 75 دولاراً منذ عام 2008،مضيفاً أن الوضع في منطقة نسيلي الصحية يشبه وضع معظم زملائه. وقال بيلي: "نحن كونغوليون، ونهتم بأطفالنا. نواصل العمل، ونستمر من خلال الإضرابات والاحتجاجات في مطالبة الحكومة بالدفع لنا".

يأتي معظم تمويل اللقاحات والمرافق الطبية من شركاء مثل "اليونيسف" ومنظمة الصحة العالمية و"مؤسسة غيتس"، لكن رواتب العاملين الصحيين هي مسؤولية الدولة.

وقالت فيرونيك كيلومبا نكولو، نائبة وزير الصحة في الكونغو، إن المشكلة تنبع من نقص البنية التحتية المخصصة للدفع الرقمي والتي يمكن أن تسمح للأموال بالوصول إلى العاملين الصحيين في المناطق النائية. وقالت في مقابلة مع "فورين بوليسي" إن المسؤولين يحاولون إدخال مزيد من المدفوعات عبر الهاتف المحمول، لكن الوضع على الأرض يظهر أن العاملين الصحيين في كينشاسا نفسها، لا يتلقون رواتبهم.

AFP
نساء وأطفال يجمعون المياه في مخيم روسايو للنازحين داخليًا، في 2 أكتوبر 2023.

يدفع هذا الوضع غير المستقر بعض العاملين الصحيين المحليين إلى ابتزاز السكان من خلال مطالبة الوالدين بالمال في مقابل اللقاحات. راقب كامي موسين، المدير الميداني السابق لبرنامج الأمراض المعدية بجامعة كاليفورنيا، في لوس أنجليس، جهود الحكومة بين عامي 2018 و2022. ووجد أن بعض الأمهات كن يجمعن قصب السكر لدفع ثمن بطاقات التلقيح لأطفالهن. وقال: "سمعنا في بعض القرى أن الأمهات اضطررن إلى شراء بطاقات التلقيح لأطفالهن، التي يمكن أن تكلف ما يقرب من دولار". وقالت بعض الأمهات إن أطفالهن لا يزالون لا يتلقون اللقاحات، وفي بعض الحالات لا يحصلون حتى على بطاقاتهم.

وقال موسين: "المشكلة هي أنهم [المسؤولين] يعرفون ما يحدث، لكنهم لا يتفاعلون مع ما نقوله لهم. لا شيء يتغير".

font change

مقالات ذات صلة