ترجمة رواية فوس إلى العربية تجعلنا نتشكّك في جدارة نيله نوبل

نص لا يرتقي إلى المستوى الإبداعي المطلوب

Aliaa Aboukhaddour
Aliaa Aboukhaddour

ترجمة رواية فوس إلى العربية تجعلنا نتشكّك في جدارة نيله نوبل

لطالما شكل إعلان جائزة نوبل للآداب مفاجأة لدور النشر العربية التي تنهمك، كل عام، في البحث عن اسم الفائز الجديد لترجمة أعماله إلى لغة الضاد، وخصوصا أن بوصلة نوبل تتجه، غالبا، إلى عكس ما هو متوقع، لكن إعلان فوز النروجي جون فوس عكس، هذه المرة، طبيعة المفاجأة، إذ تبين أن "دار الكرمة" في القاهرة، وهي غير معروفة قياسا إلى دور نشر عربية مكرسة، كانت قد ترجمت له عملين روائيين قصيرين هما "صباح ومساء" في 2018 و"ثلاثية" في مطلع 2023 ، والعملان جاءا بترجمة شرين عبد الوهاب وأمل رواش، مع التأكيد هنا أن الترجمة تمت عن اللغة الأصلية وليست عبر لغة وسيطة مثلما تفعل بعض دور النشر العربية عندما ترغب في ترجمة أعمال كاتب معروف يكتب بلغة غير رائجة، وهذا ما سينطبق، في ترجمات مقبلة وشيكة، على فوس الذي يكتب بلغة النينورسك (النرويجية الجديدة) المحدودة الانتشار حتى في النرويج ذاتها، إذ لا يتحدث بها سوى نحو 12 في المئة من السكان في غرب البلاد (عدد سكان النرويج خمسة ملايين ونصف المليون).

سارعت الى البحث عن الرواية المترجمة حديثا وهي "ثلاثية" المقسمة ثلاثة فصول، "سهاد"، "أحلام أولاف"، "تعب الليل"، فعثرت عليها على موقع "أمازون" واقتنيتها عبر تطبيق "كيندل"، وعلى الرغم من انها رواية قصيرة مكونة من 132 صفحة، لكن يمكن القول، ودون أدنى مجازفة، بأنني كنت سأترك الرواية من الصفحة الأولى لولا أن كاتبها قد توج بنوبل الآداب للتو، بسبب "مسرحياته المبتكرة ونثره الذي يعبر عن المسكوت عنه"، على ما جاء في براءة الجائزة التي منحتها الأكاديمية السويدية في حيثياتها، فكان لا بدّ تاليا من إكمال القراءة.

الحكاية

يمكن اختزال مضمون الرواية في قصة حب تراجيدية تنشأ وسط المصاعب وفي بيئة غير متسامحة، فالرواية تتناول في الفصل الأول "سهاد"، حكاية الشاب أسلا وحبيبته أليدا، وهما مراهقان في السابعة عشرة من عمريهما، يبدو أنهما تورطا في علاقة مبكرة، وينتظران مولودهما من دون أن يكون لهما أي مأوى. والد أسلا كان صيادا وعازف كمان غاب في البحر وسط عواصف الخريف، ووالدته توفت، فيأتي ابن صاحب كوخ الصيد، الذي يعيش فيه أسلا مع حبيبته الحامل، ليستعيد الكوخ الذي تعود ملكيته لوالده، فكان على أسلا وأليدا أن يجدا مكانا جديدا يستقبلان فيه مولودهما المنتظر. العلاقة بين أليدا ووالدتها أيضا سيئة، فترفض استقبال العاشقين اللذين يضطران الى التوجه الى بيورجفين (الأرجح بورغن) وهي مدينة في غرب النروج، بحثا عن مأوى، لكنهما يعجزان عن ايجاد سكن للايجار في مدينة لا يرأف سكانها بوضعهما، فيدخلان أحد البيوت عنوة، وهناك يأتي المولود الجديد سيغفالد.

علامات الترقيم ليست مجرد أدوات زخرفية لتجميل الشكل الطباعي للغة العربية، بل هي رموز تستخدم لإيصال المعنى المطلوب، فوضع النقطة في سياق جملة ما من عدمها، قد يقلب المعنى رأسا على عقب

في الفصل الثاني المعنون بـ "أحلام أولاف"، نصغي إلى مونولوغ طويل لأسلا بعدما اتخذ اسما جديدا هو أولاف، فيما أليدا أصبحت أستا، فقد اختبأ الاثنان في مزرعة،  ولكن عندما يريد أولاف الذهاب إلى المدينة لشراء الخواتم، من أجل إشهار الزواج، والتخلص من نظرات الكراهية المريبة، بسبب حمل "غير شرعي"، يتعرف إليه رجل عجوز ويتهمه بالقتل. هذا الفصل هو أشبه بالحلم الذي يروي إعدام أسلا في زمن كان الاعدام فيه مسموحا، بعدما اتهم بقتل صاحب كوخ الصيد الذي وجد غريقا في البحر، أو ربما بتهمة قتل والدة حبيبته التي وجدت ميتة قبل يوم من اختفاء أسلا وأليدا. في الجزء الثالث، "تعب الليل"، فإن البطلة تكون أليس، وهي ابنة أليدا من زوج آخر بعدما أعدم زوجها.  ونصغي هنا كذلك إلى متاعب الابنة وهي تراقب والدتها أليدا التي تأبى تصديق أن حبيبها الأول أسلا قد أعدم، لتختار نهاية تراجيدية هي الانتحار غرقا في مياه البحر.

AFP

على الرغم من هذا الاختزال، تكاد الحبكة الروائية المتماسكة تكون غائبة في هذا النص المترجم الذي لا يعتمد سردا زمنيا تصاعديا يرصد تطور الشخصيات والتحولات التي تطرأ عليها خلال وقائع الرواية، بل هو زمن دائري متداخل يمتزج فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، وتتلاشى الحدود بين الواقع والمتخيل أو بين الوهم والحقيقة.

ثمة إمعان في التكرار، لدى فوس، سواء تعلق الأمر بالوصف الخارجي أو بالحالات النفسية للشخصيات أو كذلك بالحوار الذي يدور على ألسنة الأبطال، وكأن ثمة شكا في السرد يؤكده الراوي بالتكرار. كما أن شخصيات فوس، ليس في هذه الرواية فحسب، بل في معظم أعماله، هم من الصيادين والمغنين الذين يعيشون في قرى صغيرة معزولة غارقة في الصقيع الاسكندينافي، يراقبون العالم الموحش من وراء النوافذ المغلقة أو في قوارب وحيدة تجوب زرقة المياه، "البَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء،/ دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف،/ وَالمَوْتُ ، وَالميلادُ ، والظلامُ ، وَالضِّيَاء"، وفق السيّاب الذي يعكس كلامه مناخات هذه الثلاثية.

أين علامات الترقيم؟

يستهل الناشر الرواية بأغرب ملاحظة في عالم الكتابة والترجمة، مفادها: "اتباعا لقواعد المؤلف الخاصة بعلامات الترقيم، التزم الناشر ما جاء في نسخة الرواية الأصلية (النروجية)، ولم تطبق قواعد النشر الخاصة بـ"دار الكرمة" في هذه الرواية، حتى تبقى لغتها كما جاءت في الأصل، وحتى لا تخرج ترجمة الرواية عن الأسلوب الذي أراده المؤلف".

تكمن الغرابة في أن هذا الاستهلال لا يطيح قواعد اللغة العربية، فحسب، بل يمثل سابقة في التلاعب بالقواعد الثابتة لهذه اللغة، والتبرير هو "اتباع قواعد المؤلف" والحرص على "ألا تخرج ترجمة الرواية عن الأسلوب الذي أراده المؤلف"، لكن قواعد اللغة العربية ليست ملكا لـ"دار الكرمة"، ولا يحق لها المساس بها أو التساهل حيالها في أي حال من الأحوال، وأيا كانت الأسباب.

من البدبهيات التي يعرفها أي مبتدئ، أن علامات الترقيم ليست مجرد أدوات زخرفية لتجميل الشكل الطباعي للغة العربية، بل هي رموز تستخدم لإيصال المعنى المطلوب، فوضع النقطة في سياق جملة ما من عدمها، قد يقلب المعنى رأسا على عقب، ففي عبارة من قبيل "العفو ممنوع الحكم عليه بالإعدام"، فإن وضع النقطة قبل كلمة ممنوع تعطي معنى مغايرا تماما، فيما لو وضعت النقطة بعد كلمة ممنوع.

هذا مجرد مثل بسيط على أن علامات الترقيم، التي تحظى بمكانة جليلة في اللغة العربية، تستعمل في تنظيم الكتابة، وفي الفصل بين الكلمات، أو أجزاء من الجملة، وتفسّر معاني الكلمات وتوضح المقصود منها، وغياب مثل هذه العلامات يربك عملية القراءة ويرهق القارئ، وهذا ما يحدث فعليا في هذا النص المترجم الذي يكاد يخلو من علامات الترقيم، فبدا  "سائبا"، وغير مريح للقرءة، إذ لا يدع للقارئ أي فرصة لالتقاط الأنفاس وهو يلاحق الجمل والعبارات المتراصة والمتلاحقة التي قد يفهم معناها باجتهاده الخاص، او قد يتوه عن المعنى المراد في أكثر من موقع.

ترجمة متساهلة

ينطوي حديث منسوب للرسول "إن من البيان لسحرا"، على أن اللغة العربية تتميز بجماليات بلاغية وتعبيرية يمكن، عند إجادتها، صياغة نصوص ساحرة،  وثمة أمثلة لا تحصى على جماليات اللغة العربية التي عبّر عنها، مثلا، المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، حين قال إن "اللغة العربية من أروع ما ابتدعه العقل البشري، فهي لغة الشعر والتصوف والقانون والفكاهة ولغة إحدى الديانات العظيمة في العالم"، مشددا على أنها "لغة رياضية مرنة للغاية".

هذه المتطلبات لم تتوفر لرواية جون فوس، التي حظيت بالكثير من القراءات النقدية المادحة في لغات أخرى، لكن النص العربي جاء ركيكا، خاليا من اية ومضة إبداعية


هذا الثراء الذي يميز العربية لم يوظف في ترجمة "ثلاثية" فوس التي خلت من أي بلاغة لغوية، ومن أي جملة قد تكون مبتكرة، ومن أي تركيب لغوي لافت. الكتاب عبارة عن سرد مسترسل وركيك يشبه حكايات الجدات، أو مواضيع التعبير لتلاميذ المرحلة الابتدائية، فضلا عن استخدام بعض المفردات المستمدة من العامية المصرية، التي تربك التفاعل مع نصٍّ من بلاد تبعد آلاف الأميال عن مصر.

والأرجح ان هذه الركاكة في التعبير والصياغة مردّها إلى استسهال الترجمة، التي لا يمكن اختزالها الى مجرد اتقان لغتين، فالترجمة وفقا لأمبرتو ايكو في كتابه "أن نقول الشيء نفسه تقريبا" هي عملية تفاوض مستمرة، إذ يتحتم على المترجم أن يتفاوض مع شبح مؤلف هو في أغلب الأحيان غير موجود، ومع الحضور المهيمن للنص المصدر (الأصل)، ومع الصورة التي لا تزال غير محدّدة للقارئ الذي يترجم له، ناهيك بفهم المترجم للسياق التاريخي والإطار الحضاري الذي أوجد النص، إلى جانب حوارات ذهنية مستفيضة يخوضها المترجم مع الثقافة التي أنتجت النص الأصل، وكذلك مع الثقافة التي سيذهب إليها النص المترجم"، ويقر صاحب "اسم الوردة"، بأن "الخيانة الظاهرة"، أي عدم التقيد بالترجمة الحرفية، هي، في نهاية الأمر، "وفاء للنص".

لكن يبدو أن المترجمتين شرين (هكذا كتب اسمها على الغلاف)  وأمل، تجاهلتا طرق الترجمة الوعرة والشائكة، ولم تبذلا جهدا كي تتوصلا إلى حقيقة أن الترجمة "ليست التعبير عن الكلمة بكلمة، بل عن المعنى بمعنى"، وخصوصا أن بعض القراءات لهذه الرواية، التي كانت فازت بجائزة "المجلس الاسكندينافي للآداب"، وهي جائزة إقليمية رفيعة، تقول إن الرواية  "تتضمن شبكة من الإحالات والإشارات اللاهوتية والتاريخية والثقافية"، غير أن ذلك غير متحقق البتة في النص المترجم الذي جاء كحدوتة تخلو من أي خصوصية لعوالم النروج ومناخاتها، ولا يمكن مقارنتها، في أي حال، بروايات نال أصحابها نوبل من قبيل "مئة عام من العزلة" لماركيز، مثلا، أو "حفلة التيس" ليوسا، أو "ثلج" لأورهان باموق.

AFP
مجموعة كتب جون فوس

دعم كريم

من الواضح أن ترجمة هذه الرواية أنجزت على عجل، ولغايات تجارية لا إبداعية، ذلك أن ثمة إشارة عابرة للناشر، لا ينبغي التغاضي عنها، تقول إن "نشر هذا الكتاب جاء بـدعم كريم من نورلا NORLA، اختصارا لـ"الأدب النروجي في الخارج" (Norwegian Literature Abroad)، وهي هيئة ممولة من وزارة الثقافة النروجية، تأسست عام 1978 وتعمل على ترجمة الأدب النروجي وتصديره من خلال تمويل ترجمة الكتب من النروج إلى لغات أخرى. ولا شك في أن هذا "الدعم الكريم" هو الذي شجع "دار الكرمة" على إصدار هذه الرواية، لا سيما أن الكثير من دور النشر العربية تشكو من المصاعب المالية، وقلة الموارد في ضوء تراجع الكتاب الورقي. تاليا، فإن أي دعم تتلقاه دور النشر من أي مؤسسة سيشكل حافزا للنشر، من دون مراعاة لتوفير الشروط المطلوبة لإصدار الكتاب في شكله الأمثل، ابتداء من نوعية الورق وتصميم الغلاف وصولا إلى الحرص على الترجمة الاحترافية التي تتطلب، بدورها، شروطا يجب أن تتحقق في المترجم. هذه المتطلبات لم تتوفر لرواية جون فوس، التي حظيت بالكثير من القراءات النقدية المادحة في لغات أخرى، لكن النص العربي جاء ركيكا، خاليا من اية ومضة إبداعية، الى درجة يغدو معها هذا السؤال وجيها: هل يستحق صاحب هذا النص، حقا، نوبل الآداب؟

font change

مقالات ذات صلة