العرب بين خيارين

العرب بين خيارين

أحداث غزة الأخيرة أعادت العرب إلى النظر في خيارين لا يزالان على المنضدة منذ زمن لم يعد قريبا. الخيار الأول: هو الاندفاع وراء الأصوليات المنتشرة بطول منطقتنا وعرضها؛ أصوليات لا يجمعها جامع، أصوليات متناحرة في ما بينها، كل فريق يسعى بكل شراسة لكي يقبض على السلطة، ولا يملك فصيل منها القدرة على حسم الأمور، بل جميعها ألعوبة في أيدي القوى العظمى وأجهزة مخابراتها، تسوقهم ذات اليمين وذات اليسار لكي تبقى منطقتنا كسيحة، تئن من الجهل والتخلف والفقر. هذا هو مشروعهم، صناعة الموت.

الخيار الثاني: هو صناعة الحياة والاندماج في خط الحداثة والمدنية والمطالبة بالحقوق بطريقة مدنية. هناك عشرات الفصائل الأصولية تتقاتل الآن في سوريا، وعشرات الفصائل في العراق في حالة تنافس، ومثل ذلك في فلسطين. لبنان كان الأول في تجريب حرب الإخوة والقتل على الهوية، هذا مسلم وهذا مسيحي، ولن ننسى الصراع بين السنّة والشيعة. كل هذه الفصائل والميليشيات تحوّل الدولة إلى رجل مريض مقعد، وهكذا تتعطل عجلة الحياة، ولا يجد الناس حاجاتهم الأساسية.

هذان الخياران ليسا بجديدين، فهما على المنضدة منذ عقود، ومع ذلك، لم نحسم أمورنا بعد. خيار السير وراء الأصوليات المتنامية واضح كل الوضوح، إنه يعدنا وعدا صريحا بخراب البيوت ودمار الأوطان، فمشروع الأصوليات مشروع تفكيك وليس مشروع بناء، لأنه مشروع حرب دائمة بحيث لا يبقى لدينا دولة واحدة، بل مزيد من التشرذم ومزيد من الاقتتال، ما بقي رجل يملك طموحات سياسية ويجد عددا من الأتباع ممن يحملون السلاح.

 هذه الأصوليات فاقدة للبوصلة، فبدلا من الاكتفاء بمحاربة العدو الغازي، صوبت بنادقها إلى كل الدول العربية

نحن أمام خيار الدولة وخيار الميليشيا، والميليشيات قد تؤدي دورا جيدا في زمن الحرب، لكن لا تصلح لزمن السلم ولا تُحسن التفاوض ولا تملك مشروعا يحوي احتياجات الناس، حاجات الأمن والغذاء وفرص العمل والحياة الكريمة. هذه الأصوليات المتنامية منذ هزيمة 67 إلى يومنا هذا قد استنفدت فرصتها وزيادة ولم تصنع شيئا يذكر تجاه كارثة العرب التي ارتبطت بقيام إسرائيل. هذه الأصوليات فاقدة للبوصلة، فبدلا من الاكتفاء بمحاربة العدو الغازي، صوّبت بنادقها إلى كل الدول العربية، وصرّح بعضهم بأن فلسطين بالنسبة اليه ليست سوى عود يستخدمه لتخليل أسنانه بعد الطعام. هذه لم تكن مجرد زلة لسان، بل هذا معلن في طرح كل الإسلاميين، مثلما هو موجود في كتاب الخميني، "الحكومة الإسلامية"، حيث يصرّح بأنه لا يعترف بأي دولة عربية، وفي كقدمها دول الخليج العربي الغنية بالبترول.

الخيار الثاني لا يملك طريقا مفروشا بالورود، بل هناك الكثير مما يتعين القيام به، وأولها إنهاء معاناة الفلسطينيين وإغلاق ملف القضية الفلسطينية. كان من الممكن أن تُحل المشكلة بدولة واحدة علمانية، لكن إسرائيل العنصرية لن تقبل بهذا الحل. لم يبق إلا حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وهذا خيار هو الآخر ليس مرج زهور، بل هو بحاجة للكثير من العمل العربي المشترك لممارسة الضغط والمناورة وكسب الرأي العالمي.

مهما وجدنا في الخيار الثاني من عيوب، هي في الواقع عيوب يمكن إصلاحها، أما الخيار الأول فلا يمكن إصلاح عيوبه بحال، لأنه يؤمن بحرب دائمة ضد العالم وهذه معركة لم ينتصر فيها أحد في كل التاريخ البشري، فالغلبة العسكرية، حتى وإن تحققت لأمة على غيرها من الأمم، إلا أن هذا الانتصار لا بد أن يتحول إلى هزيمة، وأن يقع الغازي فريسة سهلة بين أيدي الراغبين في الانتقام.

font change
مقالات ذات صلة