الجذور "الماوية" لمعضلة شي الاقتصادية

الاستهلاك المحلي غير كاف

لكن شي بدد هذه الآمال بأن رسّخ استراتيجيا تقودها الدولة وتتميز بكثافة الاستثمار، عنوانها "خطة صُنع في الصين 2025" في الداخل و"مبادرة الحزام والطريق" في الخارج. وبدلاً من تحرير الأسواق، خنقت هذه الاستراتيجيا القطاع الخاص وأدت إلى تدفق خارجي صاف لرأس المال من البلاد في السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من تراجع النمو خلال ولايته، وصف الحزب الشيوعي الصيني الأمر بأنه نمو ذو جودة أفضل من شأنه تجنب المفاضلات مثل زيادة عدم المساواة والأضرار البيئية. لكن اليوم، وسط معدلات نمو لا تزال بطيئة، وأزمة بطالة بين الشباب، وأعباء ديون في قطاع العقارات تهدد بإطلاق انهيار مالي أوسع نطاقاً،يدعوالمعلقون مرة أخرى الزعيم الصيني إلى حل المشكلة الأساسية للاقتصاد الصيني: قاعدة المستهلكين المحليين غير الكافية.

مع ذلك، من غير المرجح أن تلقى هذه الدعوات آذاناً صاغية. لكن بالنسبة إلى شي، ليس تعزيز الاستهلاك المحلي مجرد إشراف على سياسة الاقتصاد الكلي؛ ذلك أن القيام بذلك يتعارض أيضاً مع رؤيته الأيديولوجية للاشتراكية الصينية. في حين يرى شي شرعية حكم الحزب الشيوعي الصيني ومكانة الصين في العالم مهددة بفعل نزاع أيديولوجي مع الولايات المتحدة، سيكون العلاج المتمثل بالاستهلاك المحلي أكثر إضراراً ببقاء رؤيته للصين من مرض الركود الاقتصادي.

عندما تحول الاتحاد السوفياتي والصين من حليفين إلى عدوين لدودين في ستينات القرن العشرين، كان أحد الخلافات الرئيسية بين الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف والزعيم الصيني ماو تسي تونغ يدور حول طبيعة الشيوعية. في خطته لعام 1961 لبناء الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، شدد شي، تحديدا، على الاستهلاك ومستويات المعيشة كمقياسين يمكن من خلالهما تعريف نجاح الشيوعية. وجادل بأن المواطن السوفياتي العادي سيعيش أفضل من نظيره الرأسمالي في ظل شروط الدولة الشيوعية الحقيقية. لكن ماو اعتقدبأن أي محاولة لمنافسة الرأسماليين في مجال مستويات المعيشة لم يكن محكوماً عليها بالفشل فحسب، بل كانت تعني أيضاً خسارة القضية الاشتراكية في غضون ذلك. لم يكن هدف الاشتراكية هو التفوق على الرأسمالية في الاستهلاك بل خلق"إنسان جديد"، لا يحركه الاستهلاك الفردي بل الصالح العام.

"توازن الرعب المالي"

بعد وفاة ماو عام 1976، تبنى الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ سياسة إصلاح وانفتاح. كان يعتقد بأن "المجتمع الشيوعي يقوم على الوفرة المادية" وشجع بشكل رائع على توسيع مشاريع القطاع الخاص، قائلاً إن "الثراء أمر مجيد". وواصل خليفتاه جيانغ زيمين وهو جينتاو هذا النهج، فحولا الصين إلى قوة تصدير هائلة، ولا سيما في أعقاب انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001.

في السنوات التي سبقت عام 2008، سيطر على العلاقات الأميركية الصينية حديث عن "توازن الرعب المالي" وبالتالي، حالة من الاعتماد الاقتصادي المتبادل – تعتمد الصين على المستهلكين الأميركيين وتعتمد الولايات المتحدة على بكين لشراء ديونها السيادية، في نظام أطلقعليه الباحثان نيال فيرغسون وموريتز شولاريك اسم "شيميريكا Chimerica". بعد الانهيار، وافق هو جينتاو على حزمة تحفيز هائلة موجهة نحو البنية التحتية المحلية، على أمل الحفاظ على زخم النمو الاقتصادي. انطوت هذه الخطوة على اعتراف ضمني بأن الاعتماد في شكل كبير كهذا على المستهلكين الأميركيين لدفع ثمن التصنيع في الصين – في مقابل لا شيء سوى الائتمان – كان غير متوازنوغير مستدام وبأن الطريقة الوحيدة لضمان النمو المستقبلي ستكون زيادة الاستهلاك في الداخل. 

مع ذلك، شكّل تصحيح المسار مهمة صعبة لبكين. على الرغم من تنبي الصين الرسمي للاشتراكية،أُفرغ قطاع الدولة الذي وفر للمواطنين ميزات وتقديمات مهمة مثل الرعاية الصحية والتعليم والمعاشات التقاعدية، خلال سنوات الإصلاح والانفتاح في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، بينما ركزت الدولة جهودها في مجال النمو على إنتاج الصادرات. وبدلاً من الإنفاق على البضائع الاستهلاكية، كان لزاماً على الأسر الصينية أن تدخر من أجل الرعاية الصحية، والتعليم، والتقاعد، وغير ذلك من الضروريات. ولم تبذل الصين جهداً يُذكَر لإعادة بناء شبكة الأمان الاجتماعي في أعقاب الأزمة المالية عام 2008؛ على هذا لم تتحقق قطعملية إعادة التوازن التي روجت لها.

عندما تولى شي السلطة، كان كثر يأملون في أن يعمق إصلاحات السوق داخل الصين لتزويد الاقتصاد دفعة الاستهلاك التي كان يحتاج إليها. في جلسة حضرها أعضاء الحزب جميعاً عام 2013، أعلنالمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني أن الدولة في حاجة إلى التراجع وإلى اعتماد دور "تنظيمي" أكبر لإتاحة هامش أكبر للسوق لكي ينمو. وبدا أن شي يشاطر هذه الرؤية؛ في أول خطاب له كرئيس، قال: "يستحق الصينيون جميعاً فرصاً متساوية للتمتع بحياة مزدهرة، ورؤية أحلامهم تتحقق، والاستفادة معاً من تنمية البلاد".

لكن بدا أيضاً أن شي يشاطر ماو شكوكه في أخطار إطلاق العنان للقطاع الخاص وركز جهوده بدلاً من ذلك على مزيد من السيطرة المركزية على المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية الخاصة بالصين.

درس الاتحاد السوفياتي

وكثيراً ما عكست أولويات شي في هذه الجهود هاجساً بتجنب الانهيار على النمط السوفياتي. درس الحزب الشيوعي الصيني سقوط الاتحاد السوفياتي بعناية لتجنب نتيجة كهذه لنفسه. في تسعينات القرن العشرين، أولى تحليله للانهيار السوفياتي قدراً كبيراً من الاهتمام إلى مشاكل الاقتصاد المخطط وفشله في توفير احتياجات السكان في شكل كاف، مما جعل تبني إصلاحات السوق نهجاً منطقياً للحفاظ على الاستقرار السياسي. لكن في عهد شي، تعكس تشخيصات انهيار الاتحاد السوفياتي أولويات مختلفة، إذ تصبحأضيق من أي وقت مضى وتركز على عامل واحد قبل كل شيء: الأيديولوجيا. ووفق علماء الاشتراكية الصينيين الحاليين، انهار الاتحاد السوفياتي لأن حزبه الحاكم فقد الثقة في الماركسية اللينينية، وأصبح متهاوناً وفاسداً، وبالتالي فقد الاتصال بالناس، الذين لم يعودوا هم أيضا يؤمنون بأيديولوجيا الحزب. وتفاقم هذا الخوف الداخلي بسبب الأحداث العالمية المعاصرة. في أعقاب الربيع العربي والثورات الملونة التي تلت المرحلة السوفياتية، اعتقدت كل من موسكووبكينأن الغرب كان يستخدم الديموقراطية لتقويض أعدائه، ووضعهم على رأس القائمة. وانتشر قلق من وقوع تخريب سياسي وأيديولوجي – وخوف خاص من جانب شي من أنه قد يصبح ميخائيل غورباتشيف الصين.

بناء على ذلك، يبدو أن شي يعتقد بأن إعادة تأكيد دور الحزب وحيوية الإيديولوجيا الاشتراكية تمثّل مهمة أكثر إلحاحاً مقارنةً بتعزيز إصلاحات السوق. بدأ حكمه بحملة ضخمة لمكافحة الفساد أبعدت المنافسين المحتملين والمسؤولين الذين برزوا تحت قيادة القادة السابقين الذين قد يكونون غير مخلصين لشي، الأمر الذي كان له أثر مخيف ليس فقط في الدولة، بل في قادة الأعمال الذين خشوا أن يطاولهم التطهير. واستهدفت هذه الحملة أيضاً تطهير الحزب الشيوعي الصيني واستعادة ثقة الشعب به. ومع مرور الوقت، رافقت الحملة محاولات متجددة لفرض التعليم الاشتراكي على السكان، ومكافحة "العدمية التاريخية"، وزيادة نفوذ الحزب في أنحاء المجتمع كله، بما في ذلك من خلال وضع خلايا حزبية داخل الشركات الخاصة للمساعدة في ضمان تواؤم قرارات القطاع الخاص مع أهداف الحزب الشيوعي الصيني.

تشجيع الشباب على "أكل المرارة"

على النقيض من دينغ، تبنى شي الاشتراكية الماوية في شكل واضح التي تنادي بالتضحية الشخصية من أجل الصالح العام، في عودة إلى الثورة الثقافية التي شهدتها الستينات والسبعينات من القرن العشرين. ومع تدهور الوضع الاقتصادي في الصين، تابع شي في شكل أكثر تأكيداً تطبيق هذا النهج. هو يشجعالشباب الصيني على "أكل المرارة" – في عبارة أخرى، التضحية والعمل الجاد من أجل مردود أقل.هو ينتقدالطباع وأخلاقيات العمل لدى شباب اليوم، التي أشاعت مفاهيم مثل "الاستلقاء" [رفض الضغوط التي تطالب المرء بمزيد من العمل والإنجاز]، ويرفض المنافسة الشديدة في مكان العمل لصالح أسلوب حياة بسيط. كذلك تطلق إدارة الرئيس شي حملة لإحياء الذكورة التقليدية من خلال محاولة إبعاد"الرجال المخنثين" من المجال العام، وتبني الزهد المحافظ العائد إلى الفترة الماوية. كذلك تسعى إدارته إلى الحدمن ألعاب الفيديو خوفاً من الأثر الضار الذي قد تحدثه في التكوين الأخلاقي لشباب الصين.

باختصار، ليست نسخة شي من الاشتراكية اشتراكية الوفرة. بدلاً من ذلك، يبدو أنها اشتراكية أخلاقية إلى حد كبير، مستمدةمن القيم الماوية التي اعتنقها شي في شبابه والتي يُعرَف بأنه متحيز لها – على رغم اضطهاد الحزب الشيوعي الصيني لوالده في عهد ماو. 

هذا التركيز على الأيديولوجيا لا يتعلق فقط بتخويف السكان للرضوخ إلى حكم الحزب الشيوعي الصيني. لا تكون سيطرة الحزب قابلة للاستمرار إلا إذا كانت الأيديولوجيا الاشتراكية نابضة بالحياة داخل الحزب والمجتمع في شكل عام، ويتعارض التركيز على الاستهلاك الشخصي مع تلك الحيوية. ونظراً إلى معتقدات شي في شأن الأخطار التي تواجهها الصين، من غير المرجح إلى حد كبير أن يكون شي على استعداد لإعادة التوازن إلى الاقتصاد الصيني بتعزيز الاستهلاك الشخصي، حتى ولو كان يعرف كيف يقوم بذلك. بالنسبة إلى شي، ستكون الخطوة مثل إحراق قرية على يدي شخص يحاول إنقاذها. من المرجح أن يلجأ بدلاً من ذلك إلى مزيج من سياسات العرض الهادئة وتعبئة الشباب العاطلين عن العمل في شكل متزايد من أجل قضية موجهة من الحزب، إلى جانب حملة سياسية على أشكال التعبير ستقوض أخلاقيات العمل ذاتها التي يزعم أنه يقدرها.

كذلك يرى شريكا شي الجيوسياسيان، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أن توسع القيم الغربية يشكل تهديداً أساسياً لنظاميهما. لكن في حين استفاد بوتين ورئيسي من السياسات المؤيدة للاستهلاك لشراء الدعم الشعبي، يمتنع شي عن تطبيق سياسات مماثلة. وباعتباره الوحيد بينهم الذي لا يزال ملتزماً الاشتراكية رسمياً، يبدو أن تفسير شي للقيم الغربية يتخذ شكلاً مادياً بالتأكيد. بالنسبة إليه، يُعتبَر تعزيز الاستهلاك استسلاماً أيديولوجياً للغرب من شأنه أن يكون أكثر خطورة على نظامه من الركود الاقتصادي.