إرهابيون بدوام جزئي

"ميوعة" أميركية في التعاطي مع سياسات إيران

إرهابيون بدوام جزئي

قبل ثلاثة أعوام أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن واشنطن سترفع جماعة الحوثي اليمنية من قائمتها للإرهاب، معللا القرار بأنه من باب حرص بلاده على أن لا تعرقل الإجراءات الأميركية التي اتخذتها إدارة ترمب لعمليات الإغاثة في اليمن. لتعود الإدارة الأميركية نفسها قبل أيام وتصنف جماعة الحوثي كمنظمة "إرهابية عالمية"، وليصرح وزير الخارجية بلينكن نفسه بأن "واشنطن تريد أن يجبر هذا التصنيف الحوثيين على الابتعاد عن إيران".

كما أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان أن واشنطن ستدرس رفع هذا التصنيف مجددا إذا أوقف "الحوثيون" هجماتهم في البحر الأحمر.

وإن كان القرار الأميركي الأخير قد جاء بعد نحو 30 اعتداء نفذتها ميليشيا الحوثي في البحر الأحمر، واستهدافها أحد أهم الممرات المائية في العالم، وما نتج عن ذلك من خسائر اقتصادية، ولحق ذلك ضربات جوية شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على مواقع تابعة للميليشيا الحوثية، إلا أنه يعكس أيضا نظرة الإدارة الأميركية للمنطقة.

بين فبراير/شباط 2021 ويناير/كانون الثاني 2024، شنت ميليشيات الحوثي عشرات العمليات الإرهابية، ضدّ اليمنيين وضد كل من السعودية والإمارات أيضا، قتلت مدنيين واستهدفت منشآت اقتصادية ونفطية، ومع ذلك لم تهدد الإدارة الأميركية أو تلوّح بإعادة إدراج هذه الميليشيا على لائحة الإرهاب.

واليوم تستهدف الميليشيات الإيرانية والميليشيات الموالية لطهران المصالح الأميركية في سوريا والعراق وليس في البحر الأحمر فحسب، وإن كانت إيران وميليشياتها تزعم أن ضرباتها هي للرد على العدوان الإسرائيلي على غزة، إلا أنها لم تستهدف إسرائيل بل تركزت أهدافها على مصالح أميركية وقبل ذلك على مواطنين ومصالح دول عربية، إن كان في العراق أو في سوريا.

في لحظة ما قررت إدارة بايدن رفع اسم "الحوثيين" من قوائم الإرهاب، فيما أثبتت اليوم أن موضوع التصنيف مرتبط حصرا بمصالحها

تأتي هذه الاستهدافات في سياق البازار الإيراني الذي تبرع فيه طهران لابتزاز الولايات المتحدة وترهيب دول المنطقة، وإن كانت سياسات طهران تلك ليست بالأمر الجديد، إلا أن الجديد هو هذه "الميوعة" الأميركية في التعاطي مع هذه السياسات والتي تندرج في معظمها تحت بند الاعتداءات وحتى الإرهاب.
في لحظة ما قررت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رفع اسم "الحوثيين" من قوائم الإرهاب تحت ذريعة حقوق الإنسان ودخول المساعدات إلى اليمن، فيما أثبتت اليوم أن موضوع التصنيف مرتبط حصرا بمصالحها؛ كانت يومها على مشارف العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران الذي انسحبت منه إدارة دونالد ترمب، واليوم هي على أبواب انتخابات رئاسية تريد أن تمسك العصا من المنتصف. وهو تصنيف قابل للسحب مجددا في أي لحظة، كما قال سوليفان، وهناك اعتداءات في أماكن أخرى بالكاد تلقى تنديدا من واشنطن.
وما ينطبق على ميليشيا الحوثي ينطبق على جميع الميليشيات الإرهابية الموالية لإيران، هل نرى مثلا اتفاقا برعاية أميركية بين لبنان وإسرائيل يلحقه رفع اسم "حزب الله" من قوائم الإرهاب؟ لمَ لا؟ تستطيع إدارة بايدن أن تتناسى ذريعة حقوق الإنسان إن اقتضى الأمر ذلك، فتنسى دماء آلاف الأميركيين واللبنانيين والسوريين، وقد يخبرنا بلينكن بأنهم يفعلون ذلك لمساعدة لبنان على النهوض من أزماته.
تستطيع إدارة بايدن أن ترفع العقوبات المفروضة على النظام السوري مقابل صفقة مع إيران، ألم يفعل ذلك باراك أوباما يوم قتل بشار الأسد نحو 1500 سوري في ليلة واحدة بالسلاح الكيماوي؟ ألم يخبرنا يومها أنه تغاضى عن الخط الأحمر مقابل سحب السلاح الكيماوي من النظام السوري؟ استخدم الأخير الكيماوي بعدها مئات المرات، لكن الاتفاق بين طهران وواشنطن كان قد تم.

حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة باتوا يشهدون أن لا ثوابت حقيقية في سياسات المنطقة أميركيا سوى ثابت وحيد وهو حماية أمن إسرائيل وتفوقها النوعي

لا تزال المنطقة تدفع ثمن سياسات باراك أوباما، وما رسمه أوباما لم يشذ عنه جو بايدن، فالإرهاب تحول إلى وجهة نظر، إرهاب إيران تحديدا، فلا أظن أن واشنطن سترفع تنظيم "القاعدة" عن قوائم الإرهاب إن أوقف استهداف المصالح الأميركية، ولكنها فعلت وتفعل مع الميليشيات الإيرانية، وإن كان الهدف العودة إلى الاتفاق النووي، وإن كانت دول المنطقة وتحديدا تلك الخاضعة لسيطرة الميليشيات الموالية لإيران تدفع الثمن في كل مرة، ولكن ألا يجوز القول إن سمعة الولايات المتحدة أيضا باتت موضع شك. 
ألا يعطي ذلك مبررا لكل من وجد حليفا آخر غير واشنطن، ولا سيما أن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة باتوا يشهدون أن لا ثوابت حقيقية في سياسات المنطقة أميركيا سوى ثابت وحيد وهو حماية أمن إسرائيل وتفوقها النوعي، بينما كل الأشياء الأخرى المتعلقة بأمن دول المنطقة ورفاه شعوبها قابلة للمساومة البرغماتية التي غرقت فيها الإدارات الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية إلى الحد الذي يجعل الجميع يتساءل عن حقيقة وجود "القيم الأميركية " التي يزعم رؤساء الولايات المتحدة أنهم يخوضون حروبا من أجل حمايتها.

font change