مرتضى كزار: الأدب العربي المترجم حظوظه غير كبيرة

روايته الأخيرة تسرد قصة "التبشير" الأميركي في العراق

MaryAnne_Aberion
MaryAnne_Aberion
مرتضى كزار

مرتضى كزار: الأدب العربي المترجم حظوظه غير كبيرة

مرتضى كزار روائي وسينمائي، ورسام كاريكاتر عراقي. حجز خلال سنوات قليلة لأسمه مكانا بارزا في المشهد الروائي العراقي، بصوته الخاصّ، ومقاربته موضوعات حسّاسة وشائكة، مستخدما عدّة غنية تتوكأ على قراءات معمّقة وتحضير صبور، وعناية واضحة باللغة.

كتب كزار خمس روايات بالعربية ورواية واحدة بالإنكليزية. له في السينما "رب اغفر لنديمة" الذي شارك في مهرجان دبي للسينما عام 2014 وفيلم "الكعب الذي رأى". كتب في القصة القصيرة والسيناريو وله نشاط بارز في فن رسوم التحريك. ولد كزار عام 1982 وحصل على بكالوريوس هندسة من جامعة بغداد. عمل مهندسا لعشرة أعوام في حقول النفط بالبصرة جنوب العراق، مساهما في الأشراف على دراسات وبحوث في صناعة النفط. يقيم كزار حاليا في سياتل بالولايات المتحدة وقد أسّس فيها مهرجانا للسينما العربيّة، يحاضر سنويا في معهد "هيوغو هاوس" بواشنطن في مادة الكتابة الإبداعيّة ضمن برنامج الكتابة الإبداعية بجامعة "آيوا". صدرت أخيرا روايته السادسة، "هذا النهر يعرف اسمي"، عن "دار الساقي" اللبنانية، عنها وعن فن الرواية والسينما وحضور الأدب العربي في أميركا كان لـ"المجلة" هذا الحوار مع الكاتب.

  • في روايتك الجديدة "هذا النهر يعرف اسمي"، تُقارب صفحة من تاريخ العراق الحديث، لا أظنها بحثت سابقا روائيا، ألا وهي التبشير المسيحي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. نحن هنا أمام مواجهة خاصة بين الديانة المسيحية الرافدينية والمسيحية الجديدة القادمة عبر البحار؟ كيف اخترت هذا الموضوع ولماذا؟

كنت مرّة أتصفح عددا من مجلة "الإرسالية الأميركية في بلاد العرب" داخل مكتبة جامعة شيكاغو، وهي دورية خاصة بأخبار المرسلين وأحوالهم ومشاريعهم الخيرية والديبلوماسية في البصرة، حيث مقر البعثة القادمة من نيويورك، ولفت نظري هامش قصير في الصفحة الأخيرة للمجلة، يقول إن سيدة واشنطنية من أصل هولندي أبحرت من مدينة سياتل - حيث أعيش- إلى البصرة -حيث عشت وولدت- لتلتحق بأخواتها وآبائها من المرسلين في خليج البصرة، وكان ذلك الحدث في أحد أيام العام ١٨٩٦ الميلادي.

تتمتع المسيحية العراقية الأرثوذكسية ببناء روحاني متناغم مع محيطها، وصمدت بوضوح أمام الإرساليات التي استثمرت "قيمها" الجديدة الجاهزة

 قبل ذلك، كان لديَّ شغف خاص بالليثولوجيا الإبراهيمية وما حولها، اهتمام أخذ بالنمو منذ سنوات دون أن يجد له مخرجا أو تمثلا في عمل سردي أو سينمائي، وشعرت أن الفرصة صارت مؤاتية للتخلص من أعباء تلك الأفكار والخواطر والهوامش والحكايات، وكان ذلك الخبر عن تلك السيدة المجهولة هو الشرارة التي حفزتني. الشعور نفسه حدث حينما ضقت ذرعا بقراءاتي عن تاريخ الفرات الأوسط والكهنوت الإمامي في حوزات النجف وكربلاء والحلة، لأجد لها منفذا مريحا في كتابة رواية "السيد أصغر أكبر". المرحلة اللاحقة في الكتابة هي التخلص من ذلك كله، من الوثيقة والخبر والمجلة والتأريخ، والانتقال من العالم الذي قرأت عنه إلى عالم أكتبه، وتتبع ظلال الوثيقة والأحداث الحقيقية، وإنشاء عالم متخيل ينتمي إلى عالم الأدب، لا إلى التاريخ والأكاديميا.

كنت أيضا أحاول تأمل لحظة الدخول القديمة للأميركيين الى العراق منذ القرن التاسع عشر وما قبله وقراءتها بعد مرور عشرين عاما على الغزو الأميركي في القرن الحادي والعشرين. يحكي المبشرون عن مواقفهم مع السكان المحليين والعشائر وصعوبات الدعوة إلى البروتستانتية بين مسلمي البصرة والخليج، وتكتنز عباراتهم برؤية استشراقية ولغة محافظة تصف الناس وتدرس بعناية أسباب فشل مساعي الآباء المبشرين في نشر رسالتهم مقارنةً بمدن أخرى، ولفت نظري طبعا كيف أن الجغرافيا الواحدة بين الأطياف العراقية جعلتها متقاربة عقائديا في الجوهر، فالمسيحية العراقية الأرثوذكسية مثلا تتمتع ببناء روحاني متناغم مع محيطها، وصمدت بوضوح أمام الإرساليات التي استثمرت "قيمها" الجديدة الجاهزة للتسويق من وراء البحار تحت لافتات تقدمية.

رؤية التاريخ

  • إلى جانب التبشير، تحضر الأهوار بسحرها وعوالمها الغنيّة، والخط العربي برمزيّته، وانهيار الدولة العثمانية، وتشكّل الدولة العراقية. ماذا ينتظر القارئ من هذه الخلطة المثيرة؟

لا أدري. ربما جولة في جماليات مفقودة، وقد يلاحظ فضولي الشخصي في فهم تلك المرحلة، كيف كانت البصرة في تلك الأيام وكيف كان يبدو العراق قبل الشكل المعاصر لفكرة الدولة. إنها محاولة لرؤية الحوادث التاريخية كما جرت في زمنها وليس كما نراها ونحن نستخدم أحكام الزمن الحاضر وأخلاقياته وأنظمته. فاختلاف نوع السلطات الدينية والعشائرية والاستعمارية يقود إلى رؤية مختلفة. أردت أيضا استخدام اللغة بأشكالها مع الحواجز التي ترافقها خلال التواصل بين شخصيات آتية من ثقافات متباينة تماما، والخط العربي كون وحده، وكان يعيش غريبا كما اليوم، واستعادته في الفنون السردية قد تساهم في الالتفات إلى جماليات غير مستثمرة، بقصد أو بغيره، فهو يحمل جينات فنيّة غنية ترتبط بعلاقتنا بالفن وبالذاكرة التي شكلت طريقة تلقّينا الفنون الأخرى.

المهم ألا تتحول الجوائز إلى معيار، فأخطر شيء أن يصبح معيار الجودة الأدبية معيارا غير أدبي

  • ترشحت أخيرا إلى القائمة الطويلة لجائزة PEN America الرفيعة عن روايتك السيرية "أنا في سياتل، أين أنت الآن" وهي أول رواية مترجمة تصدر لك في أميركا. كيف تلقيت الخبر وماذا يعني لك أن تكون ضمن قوائم واحدة من أهم ثلاث جوائز أدبية في أميركا؟

 لا اعتقد أن هذا قد يعني شيئا، الكتابة والكاتب هما الكتابة والكاتب قبل الجوائز والترشيحات وإلى غير ذلك من أمور وظيفتها إشهار الكتاب وصاحبه. الكتابة تعيش أولا بعيدا من ذلك كله، هناك آلاف الكتب الجيدة تصدر كل عام، آلاف القصص والكتابات الحاذقة شكلا ومضمونا، لكن سياسات عالم النشر ومؤسسات الجوائز قد تساهم في حجبها أو التحكم بقيمتها سلبا وإيجابا، فتذوي وتختفي. لكن القارئ الخاص، ذلك النوع الذي يلتفت الى تلك السياسات العربية والعالمية، لن يؤثر فيه ذلك، ففي النهاية الكتب تعيش أطول من كتّابها، وتحتاج زمنا، هذا الزمن بلا شك، أكثر من عام الصدور. لكن طبعا، لا ننكر الأثر الإشهاري لهذه الأمور، ونحن قرّاء في آخر المطاف، قد ننتقي لذائقتنا القرائية شيئا من تلك القوائم والترشيحات، وقد يساعدنا ذلك في الوصول إلى أدب جيد يغذّي فضولنا ويؤدّي مفعوله الثقافي والامتاعي، لا ننكر ذلك على ندرته. المهم أيضا ألا تتحول الجوائز إلى معيار، فأخطر شيء أن يصبح معيار الجودة الأدبية معيار غير أدبي، مع أن العالم يمضي على رسله، ولن يصغي إلى صوت كهذا.

مرتضى كزار

من تجربتي الصغيرة، مع قائمة جائزة من هذا النوع، لم ألاحظ صراحة أنها تحكمت بقيمة الكتاب، ولعل ما حدث هو العكس في الفئة التي ترشحت إليها، ربما لأني آت من ثقافة جديدة، غير مفتتحة، وصوتي غير متكرر.

الأدب العربي في أميركا

  • امضيتَ، حتى الآن، ثماني سنوات في سياتل. بعد هذا الشوط كله، كيف ترى حقيقة وضع الكتابة العربية في أميركا وحضور الأدب العربي فيها؟ كيف يتلقى المواطن الأميركي الأدب العربي؟

بالنسبة إلى الأدب المترجم من العربية، حظوظه ليست كبيرة، فرصته في أن يجد قارئه مثلما الأدب المكتوب بلغة القارئ أضعف، ولذلك أسباب ثقافية وتاريخية، منها أن الترجمات إلى لغات مهيمنة مثل الإنكليزية تحتاج إلى مقدمات وتوضيحات وشروح تجعل سياق النص مفهوما بالنسبة إلى القارئ الذي سيتعامل مع فضاء مختلف عنه تماما، اجتماعيا وسياسيا وجغرافيا، وكل هذا سيؤثر في خفة النص الأدبي ويفقده طاقته، فضلا عن اللغة نفسها فهي لا تحب الشراكة، ولا تقوى على عكس النص كما هو، وتنشغل أكثر بنقل المضمون والتعبير وتفشل في العموم بنقل مؤدّاه العاطفي أو الأخلاقي بدقة. لذلك تفضل مؤسسات الترجمة أن تتعامل مع نصوص "عالمية"، وعالمية لا تعني هنا انتشار النص عالميا في أكثر من لغة، بل النص الذي يستطيع أن يعبر إلى اللغات الأخرى بسلامة دون عوائق ثقافية تحتاج إلى شرح ومقدمة، وهذا نادر الحدوث، وإذا قصد الكاتب من البداية كتابة نص معولم من الأصل والبداية، فهذه المجازفة قد تكلفه حرارة القص والوفاء للغته ومجتمعه، الذي جرده من خصوصيته. واحد من التعليقات المتكررة التي أسمعها من قراء أميركيين للأدب المترجم، أنه يقودهم إلى معرفة أشياء عن عوالم لا يعرفونها. فتخيل، أن تتحول مهمة الكتابة عندك إلى دليل سياحي، فالأدب المترجم، كما يبدو، لا يمتلك رفاهية أن ينظر إليه كأدب، له معنى ومضمون في الأقل.

إلى جانب ذلك، تقول النماذج الماثلة بيننا، المكتوبة بالإنكليزية من كتّاب عرب أو يكتبون قصصا عربية بالإنكليزية، إنّ حظوظها أكبر، ولا تخاطر في اعتبارها كتيّبا تعريفيا بشعب ما.

  • تكتب قصصا باللغة الإنكليزية بشكل مباشر الى جانب تأليفك الرواية باللغة العربية: ما الفروقات التي لاحظتها بين أن تكتب أدبك بالعربية وأن تكتبه بالإنكليزية مباشرة؟

اللغة لغة في النهاية، وهي غير كامنة في المعاجم والقواميس والترجمة في أسفل الشاشة، لاحظت أن الكتابة لا تخرج من اللسان وليس هناك زر نضغطه لتحويلها من العربية إلى الإنكليزية، بل هناك تجربة وحياة واسعة، والعربية التي نفكر بها ونأكل أحيانا، هي بيت الوجود أيضا، وتنطبق عليها مقولة هايدغر هذه، لكنها بيت تستطيع الهروب منه، ثم العودة متى شئت، لتكتشف أنه ليس في مكانه، ببساطة لأنك أخذته معك.

 ما لاحظته في الكتابة بلغتي الثانية، هو أن المخاوف كانت وهما، وأن الغراب، مكذوب عليه، لن يضيّع المشيتين كما قيل لنا في حكايته المعروفة.

التجريب

  • أعتقد أنك كاتب تجريبي على نحو خاص، وسردك يخوض محاولات شاقة، ويلعب في مناطق خارج القواعد الرائجة، لنقل إنك ابن ضال لتكريسات الإعلام الثقافي ومسلماته في ما يخص الرواية اليوم؟ ماذا كلفك ذلك؟

كلفني أن أكون صبورا فوق العادة، أعمالي تأخذ وقتا طويلا لكي تجد طريقها، وقد منحني ذلك الوقت الكافي للتعلم والانشغال بمعرفة النوع الروائي الذي أعمل عليه، لقد بدأت النشر مبكرا وساهم ذلك في تشكل رؤيتي للكتابة كممارسة طفولية للبالغين، كتبت ونشرت طفلا، وهذه غواية لا أنصح بها لأنها ليست صحيّة، لكنني عرفت أن الأدب يمكن أن يكون طريقة للعيش والتأمل وبلوغ المعاني. 

تدبرت الرواية أمرها مع السينما ومنصات الأفلام والمسلسلات، وقد تأخذ الشعر معها تحت المطر، مثلما أخذها تحت إبطه في السابق إلى السينما

  • الرواية التاريخية من ملاعبك المفضلة منذ "السيد أصغر أكبر" التي تبعتها محاولات عراقية عديدة، كيف تنظر إلى ما قدمه الروائيون العراقيون في هذه الفئة حتى الآن؟

رؤيتنا عن الرواية التاريخية أثرت في كيفية كتابتنا وتلقينا لها، حينما نقول تأريخية فنحن نتصور حدودا وضوابط وأسانيد ودقة تأريخية وأمانة في النقل كأننا نتعامل مع وثائق أو كأننا مؤرخون، أميل أكثر إلى تسميتها: تخييل تأريخي، ومن هذا المنطلق أرى أننا بحاجة إلى المزيد من التخييل في كتابة التأريخ، وهذه وظيفة مضادة لكتابة التأريخ بشكله الأكاديمي، في الواقع أرى أن ما قدمه الأدب العراقي لا يزال قليلا في هذا المجال.

 استخدم التأريخ كظل في تجربتي، أستند عليه ولا أستند، يمكنك إرجاع حوادث كثيرة في الرواية التي ذكرتها إلى وقائع وحوادث موثقة، لكنها بالنسبة إلى الحكاية، ليست كل ما حدث، كتابة الرواية التاريخية تشبه التأليف في الماضي، وهو موضوع لا يؤشر لصعوبة أو سهولة ما مثلما يرى البعض، هو بالأحرى ممارسة جريئة في الغالب، وما ينقصنا هو التجرؤ على تصفح تاريخنا بدم بارد.

  • الروايات تتراكم بالمئات، كل يوم هناك ثلاث روايات تنجز في العالم العربي، ألا ترى معي أن تضخم الإنتاج الروائي على حساب الجودة والنوعية سينتهي بالرواية الى المصير الذي انتهى إليه الشعر؟

صحيح، لكن هناك نتاجات نوعية موجودة على طول الخط، نادرة وشحيحة لكنها تجد من يطلبها ومن يستطيع أن يراها، مع ذلك، لا أتوقع أن تصاب الرواية من ناحية النشر والانتشار ما أصاب الشعر، كان النشر الإلكتروني مؤرقا لمستقبل الرواية والكتاب بشكل عام، لكن الحال اليوم تقول غير ذلك، لا يزال الكتاب يتحرك بقوة بنسخه الورقية والصوتية والرقمية، ولعله ازدهر أكثر. الشعر يشعر بالخطر في عالمنا العربي ربما، لكن حاله غير ذلك في أماكن أخرى. ألاحظ كتب الشعر في المكتبات هنا وأسمع شعراء وألتقيهم، وهم حقيقيون وليسوا تجسيدا أو نسخا لكائنات منقرضة بواسطة الذكاء الاصطناعي، ربما خوفنا على الشعر من الانقراض يدفعنا إلى تعجيل إعلان موته.

تدبرت الرواية أمرها مع السينما ومنصات الأفلام والمسلسلات، وقد تأخذ الشعر معها تحت المطر، مثلما أخذها تحت إبطه في السابق إلى السينما. والإنسان الذي اربكته وسائل التواصل وحركة التسليع الدؤوبة لكل شيء، قد يرتد في أية لحظة، ويعود إلى تصنيع عالم أكثر بساطة، وروحانية، وعاطفة، فيعود الشعر كتحصيل حاصل.

font change

مقالات ذات صلة