بعد السيارات الكهربائية... جاء دور "المصانع الكهربائية"

حصة الحرارة المولدة بالكهرباء المستخدمة في الصناعة من 4% في سنة 2022 إلى نحو 11% في 2028

Shutterstock
Shutterstock
مصنع كيميائي، يشغل خط إنتاج المطاط الصناعي واللدائن الحرارية وخطوط أنابيب الفولاذ

بعد السيارات الكهربائية... جاء دور "المصانع الكهربائية"

تعمل "باسف" (BASF) في إنتاج الجزيئات، وتنتج الكثير منها بوصفها أكبر شركة للمواد الكيميائية في العالم، وتدير عمليات في أكثر من 90 دولة. وعندما تحتوي هذه الجزيئات على ذرات كربون (وكثير منها كذلك لأنها مورد متعدد الاستخدامات بشكل مثير للإعجاب)، فإنها تأتي عادة من الوقود الأحفوري. وعندما يتطلب تصنيعها درجات حرارة مرتفعة، وغالباً ما تكون الحال كذلك أيضا، تأتي الحرارة من حرق الوقود الأحفوري. إلى وقت قريب، كان مصنع "باسف" الضخم في لودفيغسهافن بألمانيا يستأثر بـ 4 في المئة من إجمالي استهلاك الغاز الطبيعي في البلاد.

الاعتقاد السائد هو أن شركة كبيرة كهذه لا يمكنها فعلاً أن تأمل في إحداث خفض كبير لعدد جزيئات ثاني أكسيد الكربون التي تنتجها في أثناء عملها. بل إن خفض الانبعاثات الكربونية يتأتى بدلا من ذلك من جمع تلك الجزيئات والتخلص منها تحت الأرض، وهي عملية تسمى احتجاز الكربون وتخزينه. ويشير الاعتقاد السائد نفسه إلى أن البديل الأخضر الواضح لحرق جزيئات الغاز لإنتاج الحرارة، إذا قررت "باسف" (BASF) التوقف عن حرقها، سيكون حرق جزيئات الهيدروجين بدلاً منها. لكن لا بد من تصنيع تلك الجزيئات أيضا في عملية تستهلك الطاقة بكثافة.

لذا فإن تصريح رئيس شركة "باسف" مارتن برودرمولر، بأن "إزالة الكربون من الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة لا يمكن تحقيقها إلا بتحولها الى الكهرباء"، نزل على مسامع الكثيرين بوصفه ضرباً من الخيال. فالكهرباء مناسبة للمنازل والمصابيح وربما للسيارات أيضا، لكن ليس للصناعات الثقيلة التي تقوم على حرق كميات هائلة من الوقود الأحفوري. مع ذلك لا يقتصر هذا الرأي على برودرمولر وحده.

تستهلك الصناعة ثلث الطاقة العالمية الإجمالية، ويمثل توليد الحرارة ثلاثة أرباع هذا الاستهلاك. وتنتج نسبة مذهلة من هذه الحرارة تبلغ 90 في المئة بحرق الوقود الأحفوري

وكالة الطاقة الدولية

انضمت "باسف" (BASF) إلى اتحاد يضم شركة الكيماويات السعودية "سابك"، والشركة الهندسية الأوروبية "ليند"، لتطوير فرن كهربائي قادر على توليد حرارة شديدة بالقدر الكافي للتفاعلات الكيميائية التي تشكل أساس أعمالها. وهذه الشركات ليست الوحيدة التي تقبلت فكرة تحول الصناعة الى الكهرباء (electrification of industry) أخيراً. ففي 8 فبراير/شباط، أعلنت "ريو تينتو" و"بي إتش بي"، وهما شركتا تعدين عملاقتان، مبادرة مشتركة لبناء أول مصهر كهربائي لاستخراج خام الحديد في أوستراليا. وتقوم "فورتيسكيو"، وهي شركة عملاقة أخرى في مجال التعدين، بإدخال حفارات وشاحنات تعدين تعمل بأكملها بالكهرباء، في حين كشفت مجموعة "روكا" الإسبانية أخيراً عن أول فرن نفقي صناعي للسيراميك يعمل بالكهرباء. وتقدم هذه الابتكارات مسارا جديدا لإبطاء الاحترار العالمي، وقد يتبين في كثير من الحالات أنه أسرع وأسهل من النهج القائم على احتجاز الكربون وتخزين الهيدروجين.

AFP
المقر الرئيس لشركة الكيماويات الألمانية BASF، في لودفيغسهافن، غرب ألمانيا، 24 فبراير 2023

تستمر الانبعاثات الصناعية في النمو

وفقا لوكالة الطاقة الدولية، تستهلك الصناعة ثلث إجمالي الطاقة العالمية، ويمثل توليد الحرارة ثلاثة أرباع هذا الاستهلاك. وتنتج نسبة مذهلة من هذه الحرارة تبلغ 90 في المئة بحرق الوقود الأحفوري. ذلك كله يجعل الصناعة مصدرا أكبر لانبعاثات غازات الدفيئة من توليد الكهرباء أو النقل. الأهم من ذلك، أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة من توليد الكهرباء قد بلغت ذروتها على ما يبدو، وأن الانبعاثات الناتجة من النقل ربما تتوقّف عن النمو أيضا إذا استمر انتشار المركبات الكهربائية، لكن من المتوقع أن تستمر الانبعاثات الصناعية في النمو إلى أجل غير مسمى.  

أدركت الحكومات في الاقتصادات المتقدمة أن من المستحيل أن يتفق ذلك مع التزاماتها خفض الانبعاثات، لذا أغدقت الإعانات على الهيدروجين واحتجاز الكربون وتخزينه بوصفهما التقنيتين اللتين ستساعدان في إزالة الكربون من الصناعة على الأرجح. لكن كلتيهما خيّبتا الآمال حتى الآن. وفي غضون ذلك، استبعدت الكهربة (التحول إلى استخدام الكهرباء) منذ فترة طويلة لسببين: أولا، يقال إن من الصعب أو غير الاقتصادي على الأقل أن تنتج الكهرباء درجات الحرارة المرتفعة للغاية والبخار التي تتطلبها الصناعات الثقيلة. ثانيا، تحتاج الطرق القياسية لصنع الإسمنت والصلب إلى الكربون بوصفه أحد المدخلات، ويعني ذلك أن انبعاث ثاني أكسيد الكربون أمر لا مفر منه حتى إذا حلت الكهرباء النظيفة محل حرق الوقود الأحفوري.

مع ذلك، تتوقع شركة ماكنزي الاستشارية أن تأتي 44 في المئة من عمليات إزالة الكربون التي تتوقعها في أوروبا بحلول سنة 2050، إذا التزم الاتحاد الأوروبي أهداف تصفير صافي الانبعاثات، من التحول إلى استخدام الكهرباء، أي أكثر من ضعف حصة الهيدروجين واحتجاز الكربون وتخزينه مجتمعين. فلماذا يبدي الاتحاد الأوروبي تفاؤلا كبيرا في شأن تكنولوجيا غير معروفة سابقا؟

إقرأ أيضا: المغرب تضيء بريطانيا

فجأة، حظيت "الكهربة" - التحول الى الكهرباء - (Electrification) بفرصة ثانية لأسباب عدة، كما يقول جيفري ريسمان في كتابه الجديد، "صناعة خالية من الكربون". من الواضح للغاية أن الكهرباء الخضراء أصبحت أرخص كثيرا ومتاحة على نطاق أوسع بفضل التراجع الملحوظ في تكلفة طاقة الرياح والطاقة الشمسية. من العوامل الأخرى تزايد القلق من الاعتماد على الغاز الطبيعي، وذلك بسبب صدمة الأسعار العالمية التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا. فقد شهدت إمدادات الغاز إلى ألمانيا، على سبيل المثل، انخفاضا كبيرا، حتى أن الحكومة فكرت في تطبيق نظام الحصص على المستخدمين الصناعيين مثل شركة "باسف".

REUTERS
مصنع Tate and Lyle، لإنتاج السكر في لندن، 27 يناير 2021

لكن أفضل سبب لإعادة النظر هو الابتكار. فتسخين الأشياء بالكهرباء ليس صعباً للغاية، ما عليكم إلا التفكير في غلاية كهربائية. ويمكن توسيع نطاق هذه التقنيات: إذا أردت عشرة أضعاف كمية الماء المغلي، فاحصل على عشر غلايات أو غلاية أكبر حجما. لكن لم يكن هناك حتى عهد قريب إلا عدد قليل من الخيارات الكهربائية إذا كنت ترغب في الوصول إلى 1000 درجة مئوية بدلا من 100 درجة مئوية. وذلك آخذ في التغير الآن.

تراهن بعض الشركات على أن ما يصلح في المنزل يمكن أن يصلح في المصنع أيضا، وأن مضخات حرارية قادرة على انتاج البخار من دون أي حرق

طريق الكهرباء

للوصول إلى درجات حرارة تبلغ 200 درجة مئوية، فإن التكنولوجيا التي تجتذب معظم الاهتمام ليست الغلاية الكهربائية بل المضخة الحرارية الصناعية. المضخات الحرارية، مثلها مثل البرادات، تنقل الحرارة من مكان إلى آخر. في البراد، تزال الحرارة من الداخل (مما يحافظ على برودة المحتويات) وتلقى في الخارج (مما يجعل المطبخ أكثر دفئا بقليل). المضخات الحرارية، التي يشيع استخدامها بشكل متزايد للتدفئة المنزلية، تأخذ الحرارة من الخارج وتنقلها إلى الداخل. وبما أن كمية الطاقة اللازمة لنقل الحرارة بهذه الطريقة أقل من الكمية اللازمة لتسخين الأشياء مباشرة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى توفير كبير في الطاقة. والأسعار آخذة في الانخفاض مع تحسن التكنولوجيا وتزايد المبيعات.

تراهن بعض الشركات على أن ما يصلح في المنزل يمكن أن يصلح في المصنع أيضا. ومن هذه الشركات "أتموس زيرو"، وهي شركة ناشئة تهدف إلى تقليل الانبعاثات في شركة "نيو بلجيوم برونغ"، وهي شركة أميركية لصناعة البيرة. تقوم شركة "أتموس زيرو" بتركيب مضخة حرارية ستحل قريبا محل إحدى الغلايات التي تعمل بالغاز في مصنع البيرة البلجيكي، "نيو بلجيوم برويوري" في فورت كولنز في ولاية كولورادو.

AFP
دخان يتصاعد من مدخنة في مصنع الأسمدة Timac Agro، في سان مالو غرب فرنسا، 11 يوليو 2023

وعلى غرار معظم الشركات الصناعية في السنوات الـ 150 الماضية، يحرق المصنع "نيو بلجيوم" الوقود الأحفوري لإنتاج البخار، الذي يسخن بعد ذلك في حالته المكونات اللازمة لصنع البيرة. وستسمح المضخة الحرارية الخاصة بشركة "أتموس زيرو" بإنتاج هذا البخار من دون أي حرق. وبما أن الكهرباء المستخدمة لتشغيل المضخة ستكون متجددة في المستقبل، فإن ذلك يزيل معظم انبعاثات غازات الدفيئة من هذه العملية. وهي أكثر كفاءة أيضا، إذ تستهلك طاقة أقل على العموم. ولأن المضخة الحرارية تنقل الدفء إلى الماء، كما هي الحال في الغلاية التقليدية تماما، يمكن إدخال التجهيزات إلى مصنع "نيو بلجيوم" الحالي من دون الحاجة إلى إصلاح كامل.

تسمح هذه المضخات الحرارية باستخدام الكهرباء في مجموعة واسعة من العمليات الصناعية التي تتطلب حرارة تقل عن 200 درجة مئوية، لتحل محل الوقود الأحفوري في المجففات والمقطرات والأفران والغلايات. ويمكن أن يكون استخدام الكهرباء لتشغيل مضخة حرارية أكثر كفاءة بمرات عدة من استخدام الغاز الطبيعي لتسخين غلاية. في المقابل، استخدام الهيدروجين أقل كفاءة، لأن صنع الهيدروجين بفصل جزيئات الماء بالتحليل المائي الذي يستمد الطاقة من الكهرباء الخضراء، ينطوي على خسارة ما لا يقل عن 20 في المئة من الطاقة التي بدأت بها، مع أنه خالٍ من الانبعاثات.

تستخدم بعض المضخات الحرارية الصناعية في أوروبا واليابان، بفضل الإعانات والارتفاع النسبي لأسعار الغاز مقارنة بأسعار الكهرباء. تبيع شركة "كوب ستيل"، وهي شركة صناعية يابانية كبيرة، مضخات حرارية تجارية قادرة على إنتاج بخار عالي الضغط عند درجة حرارة 165 درجة مئوية بكفاءة عالية. كما أن شركة "هيتن"، وهي شركة نروجية ناشئة تتباهى باستثمارات من الذراع الاستثمارية لشركة النفط البريطانية العملاقة "شل"، طورت مضخة حرارية متينة ومنخفضة الصيانة يمكنها تسخير الحرارة الصناعية المهدورة للوصول إلى درجات حرارة تبلغ 200 درجة مئوية. وذلك يجعلها جذابة للصناعات التي تحتاج إلى حرارة متوسطة من الأدوية إلى المنسوجات.

وتحرز "كهربة" الصناعات التي تحتاج إلى حرارة منخفضة نسبيا، تقدما في البلدان النامية أيضا في آسيا، على الرغم من وفرة الفحم الرخيص في المنطقة، ونقص إعانات، وهو ما يصعب المنافسة على المضخات الحرارية وأمثالها. وتشير تقديرات مؤسسة الأبحاث "إر إم آي" إلى أن الصناعات الخفيفة الصينية استأثرت بنحو أربعة أخماس الزيادة المتحققة في "كهربة" الصناعة على مستوى العالم منذ سنة 2014. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن ترتفع حصة الحرارة المولدة بالكهرباء المستخدمة في الصناعة من 4 في المئة في سنة 2022 إلى ما يقرب من 11 في المئة في سنة 2028. وستستأثر الصين بما يقرب من نصف هذا النمو، رافعة استخدام الكهرباء المتجددة لتوليد الحرارة الصناعية بأكثر من خمسة أضعاف.

ستصبح المضخات الحرارية، بمرور الوقت، قادرة على الوصول إلى درجات حرارة تبلغ 500 درجة مئوية

هارالد باور من شركة "وود ماكنزي" للأبحاث

في الولايات المتحدة، تتقدم حلول الكهرباء مع أن الغاز الطبيعي رخيص نسبيا. وقد توصلت دراسة نشرها في يناير/كانون الثاني الماضي "ائتلاف الحرارة المتجدّدة"، وهو اتحاد صناعي، إلى أن تشغيل مضخة حرارية لا يكلف أكثر من تشغيل غلاية تعمل بالغاز عند محاولة الوصول إلى درجات حرارة تقل عن 130 درجة مئوية. وذلك يجعل المضخات الحرارية قادرة على المنافسة في 29 في المئة من الطلب الصناعي على الحرارة، من دون أي دعم أو تحسينات تكنولوجية. ويتوقع الائتلاف أن تصبح المضخات الحرارية التي تولد درجات حرارة تصل إلى 200 درجة مئوية، قادرة على المنافسة في سنة 2030. ويتوقع هارالد باور من شركة ماكنزي أن تصبح المضخات الحرارية، بمرور الوقت، قادرة على الوصول إلى درجات حرارة تبلغ 500 درجة مئوية.

AFP
تدوير رأس قذيفة مدفعية عيار 155ملم، في مصنع BAE Systems factory، في واشنطن، 8 نوفمبر 2023

لكن درجات الحرارة المرتفعة تتطلب تكنولوجيا مختلفة في الوقت الحاضر. ويقول جون أودونيل، رئيس شركة "روندو إنرجي"، وهي شركة ناشئة تطور التخزين الحراري، "أنت تنظر هنا إلى مستقبل البنية التحتية للطاقة الصناعية". لا يبدو المستقبل رائعا للوهلة الأولى: التطور الذي يثير حماسته هو صندوق معدني كبير.

يحتوي الصندوق على الطوب في الغالب. وتستخدم أسلاك الكهرباء لتسخين الطوب، مثلما تفعل محمصة الخبز، إلى درجات حرارة تزيد على 1000 درجة مئوية. ويستطيع الطوب، بمساعدة عزل فعال للغاية، الاحتفاظ بالحرارة أياما عدة بأقل قدر من الخسائر. ويمكن تحرير الحرارة، عند الحاجة إليها، بمقادير خاضعة للتحكم عند درجات حرارة متغيرة. وتنقل الحرارة بنفخ الهواء عبر قنوات موجودة في الطوب.

تقل تكلفة صناعة بطاريات "روندو" الحرارية عن صناعة البطاريات الكهربائية التي تتطلب الكوبالت أو الليثيوم. وتكون شدة الحرارة المخزنة كافية لتشغيل كثير من الصناعات الثقيلة. وكما هي الحال مع المضخات الحرارية التي تنتجها "أتموس زيرو"، يمكن إدخالها في المصانع القائمة من دون إعادة تصميم كاملة. وبما أن كل بطارية تتميز بكفاءة عالية، فإنها يمكن أن تستهلك الكهرباء لتسخين الطوب عندما تكون أسعار الطاقة متدنية ولكن يمكنها توزيع الحرارة في أي وقت.

إقرأ أيضا: "أرامكو" والإنتاج المستدام

يثير الصندوق كثيرا من الحماسة. وقد جمعت "روندو" أخيراً تمويلاً بقيمة 60 مليون دولار من أذرع رأس المال الاستثماري لشركات عملاقة مثل "مايكروسوفت"، وشركة النفط الوطنية السعودية "أرامكو"، و"ريو تينتو". وتضم بين داعميها العديد من النجوم البارزين في مجال الاستثمار التكنولوجي. وفي أعقاب حديث تيد الذي حظي بمشاهدة واسعة النطاق ومحاضرة ألقاها أخيراً أمام الكبار في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، ضحك السيد أودونيل في سره، فقد أصبح يُعرف باسم "رجل الطوب".

تسعى العديد من الشركات الناشئة وراء ابتكارات جذرية في صناعة الصلب، وتوصلت شركة "إلكترا"، التي تحظى بدعم من "أمازون" و"بي إتش بي" وغيرها، إلى طريقة لإنتاج الحديد النقي في فرن خالٍ من النار

يخطط جون أودونيل للقيام بتوسع كبير في العالم. وبمساعدة مجموعة "سيام" للأسمنت في تايلاند، وهي مستثمرة تتمتع بخبرة كبيرة في صناعة الطوب، تأمل "روندو" في صنع ما يكفي من الصناديق كل عام لتخزين 90 غيغاواط/ساعة من الكهرباء - أي ضعف قدرة مصنع "تسلا" للبطاريات "غيغافاكتوري" في نيفادا.

تقوم شركات أخرى بتطوير أشكال مختلفة من هذه "الصخور في الصندوق". فتستخدم شركة "برنميلر"، وهي شركة إسرائيلية يمولها جزئيا بنك الاستثمار الأوروبي، صخورا بركانية بمثابة وسط للتخزين. وتستخدم شركة "أنتورا"، وهي شركة ناشئة في كاليفورنيا، مكعبات كبيرة من الكربون الصلب لتخزين حرارة تصل إلى 1800 درجة مئوية.

وتستخدم "فورث باور" في بوسطن القصدير المنصهر الذي يتدفق عبر منظومة من طوب الغرافيت (وأنابيب الغرافيت) لتوفير التخزين عند 2400 درجة مئوية. ولأن القصدير يتوهج عند درجات الحرارة الشديدة الارتفاع، فإن وجود خلايا كهرضوئية خاصة داخل النظام يعني إمكان سحب الطاقة على شكل كهرباء بالإضافة إلى الحرارة. وفي المناطق التي تشهد أسعارا متغيرة للطاقة المتغيرة، يمكن تحقيق الربح بتخزين الحرارة عندما يكون سعر الطاقة منخفضاً وتوزيع الكهرباء عندما يرتفع السعر.

إن أصعب العمليات الصناعية التي يمكن تحولها الى الكهرباء هي تلك التي تحتاج إلى حرارة شديدة على مدار الساعة، لا سيما إذا لم تكن تستخدم الوقود الأحفوري لتوليد الحرارة فحسب، وإنما أيضا لتوفير نوع من المواد الكيميائية الضرورية - مثل الكربون المستخدم في صناعة الصلب. وتلك هي النهاية التجريبية القصوى لطَيف كهربة الصناعة، لكنها قد تكون الأكثر فائدة أيضا، لأن الصلب والمواد الكيميائية والإسمنت تستأثر معا بأكثر من نصف الحرارة الصناعية، ومن ثم تستأثر بنسبة مماثلة من الانبعاثات الصناعية لغازات الدفيئة.

تسعى العديد من الشركات الناشئة التي تحظى بتمويل جيد وراء ابتكارات جذرية في نواح من صناعة الصلب، وهي واحدة من الصناعات الأكثر تلويثا في العالم. فقد توصلت شركة "إلكترا"، التي تحظى بدعم من "أمازون" و"بي إتش بي" وغيرها، إلى طريقة لإنتاج الحديد النقي في فرن خالٍ من النار. وتلمع صورة لأرنولد شوارزنيغر في فيلم "تيرمنيتور" - الذي لقي نهايته في مصهر مصنع للصلب - أمام الباحثين في مختبر الشركة بكولورادو وهم يصهرون خام الحديد في كوكتيل كيميائي ويصعقونه بالكهرباء. تنتج تقنية "الاستخلاص الكهربائي" هذه صفائح نقية من الحديد من دون استخدام أي فحم أو وقود أحفوري، ومن ثم لا تكاد تنبعث منها غازات الدفيئة. وتسابق الشركة منافسين، بما في ذلك شركة الصلب السويدية، التي تعتزم التسويق التجاري للصلب الأخضر في سنة 2026.

يتوقع استثمار 130 مليار دولار في أفران القوس الكهربائية في السنوات المقبلة. وسيسمح ذلك بارتفاع إنتاج الصلب المنخفض الانبعاثات، الذي يستأثر حاليا بـ 28% من الإنتاج العالمي، إلى 50% في حلول سنة 2050

شركة "وود ماكنزي" للأبحاث

ثمة طريقة خضعت لمزيد من التجربة والاختبار لتقليل انبعاثات الكربون الناتجة من صناعة الصلب باستبدال أفران القوس الكهربائية بأفران الصهر بالسفع. وتستخدم هذه الأفران عادة الكهرباء لصهر الخردة المعدنية وإعادة تدويرها، بدلاً من صنع الفولاذ من الصفر باستخدام خام الحديد وفحم الكوك. وهذا أمر منطقي للغاية في الأماكن التي تفرض أسعارا مرتفعة على الكربون، ويتوافر فيها كثير من الخردة، وتتمتع بطلب مستقر نسبيا على الصلب – أي الدول الغنية بعبارة أخرى. في يناير/كانون الثاني الماضي، أعلنت شركة "تاتا ستيل" أنها ستغلق أفران الصهر بالسفع وتتحول إلى الصناعة القائمة على الكهرباء للصلب في بريطانيا. وتتوقع شركة "وود ماكنزي" للأبحاث استثمار 130 مليار دولار في أفران القوس الكهربائية في السنوات المقبلة. وسيسمح ذلك بارتفاع إنتاج الصلب المنخفض الانبعاثات، الذي يستأثر حاليا بـ 28 في المئة من الإنتاج العالمي، إلى 50 في المئة في حلول سنة 2050.

الإسمنت صناعة أخرى يصعب إزالة الكربون منها، إذ تأتي انبعاثاته، مثله مثل صناعة الصلب، من التفاعلات الكيميائية المعنية، بالإضافة إلى حرق الوقود الأحفوري لتوليد الحرارة. وقد توصلت شركة "سبلايم سيتمز" إلى طريقة للحصول على المواد الكيميائية اللازمة من دون انبعاثات عند درجة حرارة الغرفة، باستخدام التحليل الكهربائي - وهي عملية تحفّز فيها التفاعلات الكيميائية بتمرير تيار كهربائي خلال محلول. وتوضح ليا إليس، المؤسسة المشاركة للشركة، "إننا نقوم أساسا باستبدال الفرن". وضخ المستثمرون، بما في ذلك شركة "سيام" للإسمنت، 40 مليون دولار في العام الماضي.

AFP
صورة لمصنع Timac Agro من الأعلى، 7 يوليو 2020. بينما شرع السكان المحليون وجمعيات بإجراءت قانونية ضد المصنع بسبب التلوث والأضرار البيئية في الحي الناجمة عن انبعاثاته

الصناعة العملاقة الثالثة المنتجة للكربون الأسود (السخام) هي المواد الكيميائية. ينطوي أحد الأشكال الجذرية للتحول الى الكهرباء على إدخال السلائف الكيميائية في دوّار فائق السرعة، تزيد سرعته على 20 ألف دورة في الدقيقة. وتقود شركة "كولبروك" الفنلندية هذا النوع من "المفاعلات الديناميكية الدوّارة". وهي تحظى بدعم من شركة "براسكيم" البرازيلية، و"سيمكس" المكسيكية، و"سابك" السعودية. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت أنها استخدمت هذه التقنية لتكسير (تحليل) النافتا، وهي عملية شائعة في هذه الصناعة.

تنظر بعض شركات المواد الكيميائية أيضا في الطاقة النووية بمثابة مصدر للكهرباء والحرارة. وتعتزم شركة "داو" الأميركية بناء أربعة مفاعلات معيارية صغيرة من إنتاج شركة "إكس إنرجي" الناشئة في مصنع بولاية تكساس. وستحل هذه محل الغلايات التي تعمل بالغاز وتوفر حاليا الكهرباء والبخار.

البخار زود الثورة الصناعية الأولى بالطاقة، وسيزود البخار الخالي من الكربون الثورة الصناعية التالية

أديسون ستارك، الرئيس التنفيذي لشركة "أتموس زيرو"

آفاق التحول الى الكهرباء

ستستغرق عملية تحول الصناعة الى الكهرباء وقتا طويلا حتى لو نجحت هذه التقنيات كما هو معلن. ويعتقد فريدريك غودميل، من شركة "شنايدر إلكتريك" الفرنسية الكبيرة لصناعة المعدات الصناعية، أن التقنيات الحالية يمكنها من الناحية النظرية توفير الكهرباء لنحو 30 إلى 50 في المئة من الصناعات الثقيلة. لكنه يعتقد من الناحية العملية أن 10 في المئة منها فحسب أصبحت "مكهربة" الآن. ويرجع ذلك إلى أن رؤساء المصانع يقاومون التحول، حتى عندما تكون المعدات الكهربائية الجديدة قادرة على المنافسة على المدى الطويل مع المعدات القائمة حاليا، لأنه ينطوي على تكاليف أولية مرتفعة، وانقطاعات مثيرة للفوضى، والتدريب على المعدات الجديدة، وما إلى ذلك.

إن تسعير الكربون أو غيره من الحوافز لخفض الانبعاثات تساعد بطبيعة الحال، وكذلك التقنيات التي تقلل التعطيل. وقد أوضح أديسون ستارك، الرئيس التنفيذي لشركة "أتموس زيرو"، أن شركته تعد صراحة للتغلب على اعتراضات المديرين بتصميم غلايتها الكهربائية بحيث يمكن إدخالها في المصانع القائمة بسهولة ومن ثم تقليل متاعب التركيب. وصرح بأن "البخار زود الثورة الصناعية الأولى الطاقة، وسيزود البخار الخالي من الكربون الثورة الصناعية التالية".

من المؤشرات إلى أن الكهرباء قد تفي بوعدها الاهتمام الذي تبديه شركات النفط والغاز، التي تهدف التكنولوجيا إلى الحلول محل منتجاتها. وتسعى "إكوينور"، وهي شركة النفط المملوكة للدولة في النروج، منذ فترة طويلة، لتحويل منصاتها البحرية الى الكهرباء لتقليل الانبعاثات المرتبطة بضخ النفط. وتطلق عملياتها البحرية الأكثر كفاءة أقل من كيلوغرام واحد من ثاني أكسيد الكربون لكل برميل من النفط المنتج (أو ما يعادله من الغاز) مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 15 كيلوغراما للبرميل. يذكر أن شركات النفط التي تنقب في الحوض البرمي في أميركا، تحت ضغط الهيئات التنظيمية لحملها على خفض الانبعاثات، تنفق المليارات لإحلال بدائل كهربائية محل المعدات التقليدية المعرضة لتسرب غاز الميثان (أحد غازات الدفيئة). وستكون آفاق  التحول الى الكهرباء جيدة على الرغم من أعدائها الطبيعيين إذا تمكنوا من إدراك قيمتها.

font change

مقالات ذات صلة