قضية المناخ: دقت ساعة تنفيذ القرارات الشجاعة

ينتظر من أميركا والصين التفاهم والاستعداد لدفع ضريبة عقود من التقدم الصناعي

EPA
EPA
الحرائق في غابة في ديستومو، وسط اليونان، 22 أغسطس/آب 2023.

قضية المناخ: دقت ساعة تنفيذ القرارات الشجاعة

خلال سبع سنوات استضافت منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط ثلاث قمم مناخية، مما يدل على انخراط عربي كبير في جهود مكافحة التغيرات المناخية والانتقال التدريجي نحو الحياد الكربوني، على الرغم من أن المنطقة لا تشكل نسبا مرتفعة في تلوث الهواء والتسبب في الاحتباس الحراري إذا ما قورنت بالقارات الأخرى. وربما ليس مصادفة أن الإمارات العربية المتحدة ومصر والمغرب والأردن وقطر تعتبر من الدول الرائدة في إنتاج الطاقات المتجددة وزيادة الاعتماد على البدائل الشمسية والريحية في إنتاج الكهرباء النظيفة.

عدم التزام الكبار

في مقابل الانخراط العربي والأفريقي لم تعقد أي قمة للأطراف حول المناخ "COP" تحت رعاية الأمم المتحدة في الدول الأكثر تلويثا للبيئة وهي الولايات المتحدة الأميركية والصين، وذلك لأسباب مختلفة منها ضغط اللوبيات الداخلية في أميركا، وحرص بكين على الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة لتحفيز الاقتصاد، طوال فترة الانتقال (Transition). بينما تُعتبر ألمانيا والدول الاسكندينافية الأكثر انخراطا ضمن الدول الغربية والمتقدمة في جهود مكافحة التغيرات المناخية. بل كانت هذه الدول حاضرة في كل قمم المناخ، منذ مؤتمر ريو دي جانيرو في البرازيل عام 1992 الذي وافقت فيه 178 دولة على الاعتناء بالبيئة لأجل التقدم، وحماية الأحياء الطبيعية والنباتات والموارد المائية والمحيطات. وهو ما يعرف بمعاهدة ريو (RIO) حول التنمية المستدامة.

AFP
امرأة تمشي بدراجتها عبر شارع غمرته الأمطار الغزيرة من إعصار سانبا في ماومينغ، في مقاطعة غوانغدونغ جنوب الصين في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وقد استضافت برلين أول قمة خصصت للمناخ عام 1995 تلتها جنيف عام 1996، ثم كويتو في اليابان عام 1997. ومنذ البداية ظهر تشكيك في الخلاصات العلمية حول الاحتباس الحراري، وكان سببا لجعل دول متقدمة أو صاعدة تتخاذل في التزاماتها المناخية، ووضعت معدلات النمو وفرص العمل أولوية على المناخ. وكان الرئيس السابق دونالد ترامب من أكبر المشككين في جدوى مواجهة التغيرات المناخية وأسبابها، بل تراجعت واشنطن عن التزاماتها البيئية طوال 4 سنوات، وهي الفترة ذاتها لغيابها عن منظمة اليونسكو للثقافة والعلوم.

كان الرئيس دونالد ترامب من أكبر المشككين في جدوى مواجهة التغيرات المناخية وأسبابها، بل تراجعت واشنطن عن التزاماتها البيئية طوال 4 سنوات

الصندوق وكلفة الانتقال

هناك إجماع دولي على أن اتفاق باريس خلال قمة الأطراف حول المناخ "21 COP" عام 2015، الذي وقعته نحو 195 دولة، هو المرجعية الأممية التي تعمل مختلف المنظمات والهيئات والشركات والحكومة على تفعيل مضامينها، تحت طائلة العقوبات. حيث تعهد الأطراف كلهم العمل والتزام تقليص حجم انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، بما يساعد على حصر زيادة الاحترار المناخي في حدود 1,5 درجة منذ الثورة الصناعية. على ألا تتجاوز في كل الحالات القصوى سقف 2 في المئة، في نهاية القرن الحالي، والسعي للوصول إلى "الحياد الكربوني" في عام 2050. كما اتفق على إنشاء صندوق لمواجهة التغيرات المناخية لتجميع 100 مليار دولار سنويا ابتداء من 2020، لدعم الدول النامية والفقيرة في مجال تكلفة الانتقال الكربوني، أو ما يعرف بالتأقلم والتكيف مع التغيرات المناخية.

AFP
موقع التخييم في دوكا بالنرويج، وقد غمرته المياه بعد أن فاض نهر دوكا على ضفتيه في 9 أغسطس 2023.

وتنص خطة العمل من اجل المناخ ( plan d'action en faveur du Climat) على تقليص الاحترار المناخي من 25 الى 50 في المئة للوصول الى أهداف اتفاق باريس وحصر ارتفاع حرارة الأرض من 1,5 إلى 2 درجة. والتزمت الولايات المتحدة العمل على الوصول إلى الحياد الكربوني في أفق 2050 وتقديم مساعدات للتكنولوجيا النظيفة بنحو 2 تريليون دولار، من تمويلات حكومية على مدى عشر سنوات لبناء تجهيزات البنى التحتية الطاقية النظيفة ومنها الهيدروجين الأخضر. 

عالم يحترق

وكانت الكوارث الطبيعية المصاحبة للتغيرات المناخية مثل الجفاف والتصحر والأعاصير والفيضانات وحرائق الغابات، أقنعت العالم أن الاحتباس الحراري مُدمر للطبيعة التي خسرت جزءا كبيرا من احتياطها الطبيعي من الغابات (40 مليون هكتار في أفريقيا  وحدها) كما جفت مئات الأودية عبر العالم.

وأفادت وكالة "ناسا" الأميركية أن عام 2023 كان الأكثر حرارة منذ العام 1880، تاريخ بداية احتساب حرارة الأرض. وسجل المؤشر المناخي زيادة 1,18 درجة بين 1951 و1980 مع توقع أن ترتفع 1,9 درجة قبل عام 2050 مقارنة بمعدلاتها من 1976 إلى 2005 متجاوزة اتفاق باريس الذي يحصر الزيادة في 1,5 درجة إلى نهاية القرن الحالي، بحسب المنظمة العالمية للطقس.

وأفاد مرصد الصليب الأحمر النروجي أن دولا في الشرق الأوسط وأفريقيا ستكون أكثر تضررا من  التغيرات المناخية والإنتاج الغذائي بسبب الجفاف وشح المياه. بينما ستشهد المناطق الشمالية من الأرض في أوروبا وكندا ارتفاعا أسرع في درجة الحرارة قد يؤثر سلبا في الاقتصاد والإنتاجية. وهي الخلاصة نفسها التي توصلت إليها مجموعة "أليانس" للتأمينات التي تحدثت عن خسائر بنحو 600 مليار دولار في منطقة الاتحاد الأوروبي وحدها في النصف الأول من العام 2023.

كانت دورة مراكش سعت إلى إسماع صوت دول العالم الثالث وإثارة الانتباه إلى أهمية العدالة المناخية العالمية، في إطار الجهود المبذولة بعد اتفاق باريس

من مراكش إلى دبي

خلال مؤتمر "كوب 22" في مراكش الذي حضره 30 زعيما أفريقيا جدد الالتزام بمعاهدات "كوب 21" في باريس، بما فيها دعم الدول الفقيرة والنامية ومساعدتها على الانتقال والتأقلم والتحول التدريجي نحو الحياد الكاربوني في الإنتاج الزراعي والصناعي، من خلال إنشاء صندوق للمناخ بتكلفة 100 مليار دولار سنويا تدفعها الدول والشركات الملوثة تحت صيغة ضريبة الكربون.

لكن الدول المتقدمة لم تلتزم كلها هذه العهود، وتملص بعضها بعد جائحة كورونا، والإغلاق الاقتصادي الذي خفض الانبعاث الحراري للغازات نحو 7 في المئة عام 2020، لكنه عاد وارتفع خلال فترة الانتعاش الاقتصادي التي تلت الجائحة. وفي العام 2022 سجل تراجع واضح في الالتزام المناخي على الأقل في دول الاتحاد الأوروبي، بعد العقوبات على موسكو جراء غزوها لأوكرانيا ووقف تدفق الغاز والنفط الروسي بمقدار 55 مليار متر مكعب. بل عادت حليمة إلى عادتها القديمة وتم إحياء محطات الفحم الحجري والنووي لإنتاج الكهرباء الاحفوري حتى في الدول الأكثر التزاما مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا.

AFP
ممثلو الدول يلتقطون صورة في افتتاح قمة الأمم المتحدة للمناخ "COP 28" دبي في 1 ديسمبر/كانون الأول 2023.

وقال تقرير لبرنامج الأمم المتحدة لحماية البيئة، إن دولا مثل اوستراليا وكندا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أصدرت تراخيص جديدة لإنتاج الطاقة الاحفورية عام 2023، في تناقض صارخ مع اتفاق باريس. وقال بيار فريد لينغشتاين الخبير في الطاقة المساهم في التقرير "إن القدرات الجديدة للإنتاج سترفع درجة الحرارة العالمية فوق 2 درجة"، مستشهدا بالوعود الأميركية والصينية التي  تعلن نيتها الوصول إلى الحياد الكربوني عام 2050 أو 2060 لكنهما لا تعملان بما في الكفاية من اجل ذلك. 

وقال زميله في معهد "اكزيتير" (EXETER) الخبير جون كريستنسن إن "الانبعاث العالمي لثاني أكسيد الكربون يقدر اليوم بنحو 40 مليار طن سنويا تساهم فيها الدول الكبرى والصناعية  أساسا، وهي في تزايد وليس في تناقص". وتحرص معظم الدول الموقعة اتفاق باريس على تبرير تحللها المرحلي أو الظرفي من بعض الالتزامات لدوافع اقتصادية. علما أنها ملتزمة خفض الغازات نحو 5 في المئة سنويا. وتعتبر تكلفة الانتقال الطاقي كبيرة بالنسبة الى غالبية دول العالم، خاصة تلك الفقيرة او المثقلة بالديون.

تكلفة التأخير

وكانت دورة مراكش سعت إلى إسماع صوت دول العالم الثالث وإثارة الانتباه إلى أهمية العدالة المناخية العالمية، في إطار الجهود المبذولة لبلورة المحاور المنصوص عليها في اتفاق باريس، بخفض احتواء الاحترار العالمي، والتكيف من التغييرات المناخية. إذ اعتبرت القمة أن القارة السوداء تتحمل وزر الثورة الصناعية على مدى عقود طويلة، مما يتسبب في ارتفاع الحرارة والتصحر وندرة المياه في قارة لا تساهم بسوى 3 في المئة من التلوث العالمي. ويعتبر التصحر وندرة المياه المسؤول الأول عن الهجرة السرية. وترفض دول الاتحاد الأوروبي ربط الهجرة بالتغيرات المناخية، أو إفساد الموارد الزراعية بالتلوث المعدني، والاستنزاف المفرط للطبيعة، وذلك تجنبا لأي تعويضات بيئية قد تصدر لاحقا.

يؤمل من الملوثين الكبار ولاسيما أميركا والصين التفاهم لإصلاح ما أفسده التقدم الصناعي مند عقدين والاستعداد لدفع فاتورة التغيرات المناخية

وكان الملك محمد السادس نبه خلال قمة "كوب 22" في مراكش إلى تناقض المصالح بين الدول بالإشارة إلى "أن الاختلاف كبير بين الدول والمناطق، في ما يخص الثقافة المرتبطة بالبيئة، والأسبقيات عند الدول المصنعة، التي يقال عنها متقدمة"، ولفت انه "إذا كان من الطبيعي أن يدافع كل طرف عن مصالحه، فإن تكلفة الانتظار والتقصير في مواجهة تغير المناخ وآثاره، ستكون لها انعكاسات خطيرة، تهدد الأمن والاستقرار، وتزيد في اتساع بؤر التوتر والأزمات عبر العالم".

وأيد الأمين التنفيذي للمعاهدة الإطار للأمم المتحدة حول التغيرات المناخية سيمون ستيل فكرة المغرب حول أخطار التأخير وتكلفته الاقتصادية والاجتماعية في معالجة التغيرات المناخية. وقال "إنه يتوفر للعالم ما نسبته 15 في المئة من الحظ فقط للحفاظ على درجة الحرارة دون 1,5 درجة، وتلك إشكالية خطيرة"، بحسب تصريحات نشرتها صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية.

AFP
منطقة غمرتها الفيضانات في بلدة باجو بعد هطول أمطار غزيرة في منطقة باجو في ميانمارفي 10 أكتوبر 2023.

رهان "كوب 28"

بعد ثماني سنوات على وعود لم تنفذ كاملة من اتفاقات باريس، يبدو الرهان كبيرا في قمة الإمارات، وأهمية "كوب 28" في جمع الأفرقاء المختلفين في الأهداف والمصالح والاستراتيجيات، لان المصلحة البشرية تدفعهم جميعا نحو تسريع وتيرة الانتقال ومعالجة الاختلال والتناقضات، في وقت يبدو العالم أكثر تشرذما وانقساما وتفككا مما كان عليه الوضع في قمة كوب21. 

كل تأخير في إنقاذ كوكب الأرض ستكون له تكلفة باهظة على الأجيال القادمة، وهو ما عكسته وقائع وكوارث السنة الجارية، ونبهت إليه شركات التأمين والتقارير العلمية، التي تكاد تجمع على أن دول الشمال ستعاني أكثر من دول الجنوب من التداعيات المرتبطة بالتغيرات المناخية. في كتابه "A Vision of the Human Picture in Space" الصادر في لندن 1995يقول كارل ساغان "إن كوكب الأرض هو العالم الوحيد المعروف حتى الآن كمأوى للحياة. ولا يوجد مكان آخر يمكن أن نهاجر إليه".

ويفترض أن قمة سان فرانسيسكو الأميركية الصينية قد مهدت لتفاهم "ضروري" بين الملوثين الكبار، لإصلاح ما أفسده التقدم الصناعي مند عقدين، وعليهما الاستعداد لدفع فاتورة التغيرات المناخية.

font change

مقالات ذات صلة