الكابلات البحرية... سلاح خفي جيوستراتيجي واقتصادي

أهميتها تماثل أنابيب النفط والغاز فإذا ما تعطلت وصل تأثيرها إلى مختلف دول العالم

دايف موراي
دايف موراي

الكابلات البحرية... سلاح خفي جيوستراتيجي واقتصادي

تعد الكابلات البحرية جزءا أساسيا من البنية التحتية الرقمية في العالم، وهي المسؤول الأول عن حركة الإنترنت والاتصالات والذكاء الاصطناعي عبر شبكة عنكبوتية تغطي مختلف أصقاع الأرض. ألياف ضوئية تمتد مئات آلاف الأميال تربط القارات الكبرى بعضها ببعض، زرعت في أعماق البحار والمحيطات لتنقل موردا عالميا حيويا: البيانات أو تيرابيتات من المعلومات "الداتا".

يثير توقف حركة الشحن البحري أو الجوي لأسباب لوجستية أو أمنية قلقا عالميا واضطرابا في الأسواق والانتاج من توقف الإمدادات وتعطل التجارة. كذلك، هناك مخاوف دائمة من تعرض الكابلات البحرية لأي ضرر أو تلف من غير قصد من طريق سفن الشحن أو الحيوانات البحرية الكبيرة كالحيتان، أو عن قصد من طريق هجمات إرهابية متعمدة لإتلافها مع ما يتسبب ذلك من انقطاع ارتباط شرق الكرة الأرضية بغربها، وما يعنيه ذلك من شلل اقتصادي في أعمال الشركات والمصارف والأسواق المالية، وكل البشر الذين صارت حياتهم تقوم على التواصل وتبادل البيانات والرسائل، وترتبط بحواسيب وهواتف متنقلة.

يمر نحو 95 في المئة من حجم الإنترنت في العالم عبر هذه الكابلات التي تمتد على 800 ألف ميل بحري تقريبا في سوق حجمه 14 مليار دولار، وتمر من خلالها تعاملات مالية تقدر بـ10 تريليونات دولار يوميا.

التهديد بتخريب كابلات الانترنت يضاعف أهمية البحر الأحمر الجيوسياسية، فإضافة إلى كونه معبرا رئيسا للتجارة البحرية العالمية، تمر أيضا في قاعه العشرات من الكابلات البحرية الأساسية

إذا نظرنا إلى خريطة انتشار الكابلات البحرية، يمكننا حينئذ أن ندرك جيدا أهميتها، فهي تربط القاصي بالداني، وعند حدوث أي تلف فيها، تتعطل حركة نقل البيانات والاتصالات، فتتعطل معها حركة الإمداد ونظام الملاحة وما ينجم عن ذلك من أزمات إقتصادية وأمنية. لكل كابل من هذه الكابلات أهمية تختلف باختلاف أماكن وجودها، حيث حرصت شركات الاتصالات على استحداث طريق بديل على الدوام في حال تضرر أي كابل إنترنت لنقل البيانات. إلا أن الواقع ليس مماثلا دائما، فهناك كابلات إنترنت ليس لها بديل ولها أهمية كبيرة نظرا إلى موقعها الاستراتيجي، لذا، يقف العالم حائرا مشلولا عند تعرضها لأي تلف، إلى حين صيانتها.

ديانا استيفانيا روبيو

يظن الكثيرون أن خدمة الإنترنت اللاسلكي، المعروفة بالـ"واي فاي" (WI-FI) تأتي من طريق الأقمار الاصطناعية أو من طريق الحوسبة السحابية (Cloud Computing)، لكن المفارقة أن خدمات الإنترنت تزودها الكابلات البحرية. وقد اتجهت شركات الاتصالات الكبرى وعمالقة التكنولوجيا مثل "أمازون" و"غوغل" إلى مد كابلات بحرية خاصة بها لتتمكن من تزويد عملائها الخدمة دون انقطاع. ومع اعتمادنا المتزايد على خدمات الإنترنت في حياتنا اليومية، تتطور هذه الشبكة العنكبوتية لتصبح حمايتها أمرا حيويا.

تهديدات إرهابية حوثية بشلّ العالم

تابع العالم باهتمام بالغ الأخبار المتداولة أن جماعة الحوثي في اليمن تستهدف إتلاف الكابلات البحرية الموجودة في البحر الأحمر لتعطيل الإنترنت بين قارتي آسيا وأوروبا في خطوة هدفها "الدفاع عن حقوق الفلسطينيين في قطاع غزة ووقف إطلاق النار". أرفقت الجماعة هذه التهديدات بنشر خرائط لهذه الكابلات على موقع "تيلغرام".

إقرأ أيضا: الوجود البحري الأميركي... المرونة لمواجهة التحديات

تضاعف هذه القضية أهمية مضيق باب المندب الجيوسياسية، فإضافة إلى كونه معبرا بحريا رئيسا لنحو 12 في المئة من حجم التجارة البحرية العالمية، تمر أيضا في قاع البحر الأحمر العشرات من الكابلات البحرية الأساسية التي تربط قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا بعضها ببعض. لكن ما مدى قدرة جماعة الحوثي على القيام بعمليات مماثلة في أعماق البحر الأحمر، خصوصا أن الأمر لا يتطلب الحصول على غواصات تمكنها من بلوغ الأعماق التي تقدر ببضعة مئات من الأمتار، وما هو حجم الضرر الذي يترتب على تلف الكابلات الرئيسية هناك؟

صناعة الكابلات ودور الشركات

ليست عمليات مد كابلات الإتصالات البحرية بالأمر الجديد، إذ جرى ربط المملكة المتحدة وفرنسا بكابل تحت البحر للاتصالات في عام 1850، وضع بواسطة غواصة تابعة لشركة بريطانية. عمل هذا الكابل لفترة قصيرة، إلا أنه شكل نواة للفكرة التي سهلت انتشار نقل البيانات وربط القارات. ثم تقدمت هذه الفكرة لربط المحيط الأطلسي بهذا النوع من الكابلات عام 1958.

حاليا، ومع تطور التكنولوجيا، يتم وضع هذه الكابلات بواسطة سفن مخصصة لهذا الغرض تسمى "السفن الممددة للكابلات" (Cable Layers Ships).  تحمل هذه السفن على سطحها آلاف الأميال من الكابلات المخصصة لنقل البيانات بسرعة فائقة، وتضع الكابلات في مسارات آمنة بعيدا من مسارات سفن الصيد أو مواقع سقوط مراسي السفن أو أي أخطار محتملة من شأنها الإضرار بسلامة الكابلات. ثم يغوص الفنيون إلى أماكن سقوط الكابلات في البحر للتأكد من وجودها في المكان السليم. ويقدر امتداد شبكة الكابلات البحرية حاليا بنحو 800 ألف ميل بحري، أي ما يفوق ثلاثة أضعاف المسافة بين كوكب الأرض والقمر.

ديانا استيفانيا روبيو

تصمم الكابلات البحرية المستخدمة حاليا لنقل كمية هائلة من البيانات إلى أبعد مسافة ممكنة، حيث يحتوي الكابل على طبقات متعددة كثيفة للغاية من الحديد والبلاستيك والسيليكون لعزل الطبقة الداخلية وحمايتها من أي عوامل خارجية، إذ تتكون الطبقة الداخلية من ألياف ضوئية رقيقة تسمح بنقل مليارات من أجزاء المعلومات في الثانية الواحدة. لزيادة سرعة نقل البيانات من خلال الألياف الضوئية، تم تطبيق نظرية انعكاس شعاع الضوء في مثل هذه الكابلات (total internet reflection). ترتكز هذه النظرية على نقل شعاعيات الضوء من جسم إلى آخر، فعندما ينتقل شعاع الليزر من نهاية كابل إلى آخر، ينعكس بالسرعة نفسها، وتتم هذه العملية آلاف المرات بين الكابلات المتصلة ليصار في النهاية إلى مضاعفة حجم البيانات المنقولة في الثانية الواحدة ملايين المرات.

أعلنت كل من "غوغل" و"أمازون" و"فايسبوك" و"مايكروسوفت" أنها وضعت خطة لامتلاك شبكة كابلات خاصة عوضا من استئجار كابلات مملوكة لأطراف أخرى

نظرا إلى فاعلية هذه الكابلات البحرية وسرعتها، اتجهت شركات التكنولوجيا العملاقة إلى إنشاء كابلات مخصصة لها بدلا من استخدام كابلات تابعة لشركات أخرى. وأصبح هذا المجال جاذبا للاستثمار بشكل كبير، حيث تمكن هذه الكابلات الشركات من بيع أحدث التكنولوجيات في العالم وتحقيق مكاسب هائلة، كما أن امتلاك هذه الكابلات يساهم في تحقيق عامل الأمان لعملاء تلك الشركات.

وقد أعلنت كل من "غوغل" و"أمازون" و"فايسبوك" و"مايكروسوفت" أنها وضعت خطة لامتلاك شبكة كابلات خاصة عوضا من استئجار كابلات مملوكة لأطراف أخرى. ومع الانتشار الكبير لاستخدام الحوسبة السحابية، وهي تكنولوجيا تمكن المستخدمين من الحصول على مساحات لتخزين بياناتهم في مقابل بضعة دولارات شهريا دون الحاجة إلى معدات أو تكنولوجيا عالية لكل مستخدم، أصبح الاعتماد على هذه الكابلات بالغ الأهمية لربط كل قواعد البيانات بعضها ببعض.

الأقمار الاصطناعية كبديل للكابلات

يمثل توصيل الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية فكرة واعدة ذات ميزات عديدة، منها تمكين ملايين المستخدمين في المناطق النائية من استقبال خدمات الإنترنت. مثل هذه الخدمات تقدمها شركة "سبيس أكس" المملوكة من رجل الأعمال إيلون ماسك، وتقوم فكرتها على بيع أجهزة لاستقبال الإنترنت من أقمار اصطناعية أطلقتها الشركة، وتدور في مسارات خاصة لتتيح خدماتها للعديد من المستخدمين غير القادرين على استخدام الإنترنت نظرا إلى عدم وجود أبراج لاسلكي في مناطق قريبة منهم. إلا أن هناك عوائق تحول دون تعويض الأقمار الاصطناعية للكابلات البحرية.

Shutterstock
كابل من الألياف الزجاجية الصناعية التي توضع في قاع البحار مثبت على بكرة معدنية

التكلفة هي أول تلك الأسباب، فتكلفة أقمار اصطناعية وتصنيعها وصيانتها وإطلاقها إلى الفضاء كبيرة جدا لدى مقارنتها بمد كابلات بحرية. وعلى الرغم من أن أسعار تلك الأقمار الاصطناعية آخذة في الهبوط نظرا إلى تطور التكنولوجيا، إلا أنها تبقى بعيدة عن المقارنة بالكابلات البحرية. ثانيا، عامل الفاعلية، فلكي تغطي شركة "سبيس أكس" كامل الكرة الأرضية، تحتاج الشركة إلى عدد هائل من الأقمار الاصطناعية لتدور في مدار الأرض، مع ما ينجم عن ذلك من ازدحام في المدار المنخفض للكرة الأرضية، وتداخل في البيانات وارتفاع فرضية تصادمها، مما يؤدي إلى صعوبة في استخدامها، أو على الأقل تغييرها. وعلى هذه الأقمار الاصطناعية أن توجد في مناطق محددة لكي توفر خدمة الإنترنت، واذا تحركت من مدارها، فيجري تواصل القمر الاصطناعي مع آخر قريب من المدار المطلوب لكي يضمن عملية التوصيل، وهو أمر تقني صعب للغاية لن يحدث في المستقبل القريب.

يتخلل عملية إطلاق أقمار اصطناعية، التعامل مع قوانين ومعاهدات دولية خاصة بالفضاء الدولي، فيما تحكم وضع كابلات بحرية وصيانتها اتفاقات واضحة وصريحة. وآخر تلك الأسباب هو عامل أمن المعلومات، حيث تتعرض البيانات التي ترسل عبر الأقمار الاصطناعية لاختراقات عدة تهدد أمنها أو انكشافها، بينما توفر الكابلات البحرية وسيلة أكثر أمانا من نقطة إلى نقطة ما يعزز أمن المعلومات.

ماذا يحدث عند قطع الكابلات البحرية؟

تعتبر الكابلات البحرية، في أهميتها، مثل أنابيب النفط والغاز، فإذا ما تعرضت إلى عطب ما، وصل تأثير هذا العطب إلى العديد من الدول. لفهم النتائج السلبية المترتبة على انقطاع هذه الكابلات، لا بد من أن نعرف أعدادها وأحجامها ومواقعها، حيث قامت شركة استشارات الاتصالات الأميركية "تيليجيوغرافي" (TeleGeography) بوضع خريطة تفاعلية لكل الكابلات الممدودة في كل أنحاء العالم، حيث يوجد 420 كابلا منتشرة في العالم، أطولها هو كابل (SEA-ME-WE 3) الذي يربط جنوب شرق آسيا مع غرب أوروبا عبر البحر الأحمر ويبلغ طوله نحو 39 ألف كيلومتر. في وقت يجري بناء أطول كابل بحري بمسافة 45 ألف كيلومتر ليربط نحو 33 دولة في ثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويسمى "أفريكا 2". كذلك، وبالنظر إلى الخريطة، يتضح أن أكبر تجمع للكابلات يكون في أعماق المحيط الأطلسي لربط أوروبا بأميركا الشمالية، وكذلك في أعماق المحيط الهندي لربط أميريكا بآسيا وأوستراليا.

Shutterstock
كابل اتصالات بحري

في علم البيانات، هناك "نقطة الفشل الوحيدة" (Single Point of Failure)، ويعني أن البيانات تتدفق من خلال كابلات معينة وتتركز في مكان ضيق يجمع العديد من الكابلات الأخرى. فأي تدمير يطال كابلا واحدا يؤدي إلى تدمير باقي الكابلات، وبالتالي، يكون التأثير سلبيا جدا على العديد من الدول. وكما تزدحم منطقة البحر الأحمر بالسفن التجارية وتقصر عبرها مسافة الملاحة البحرية وصولا إلى قناة السويس كنقطة اختناق بحرية، كذلك، تشكل القناة نقطة عبور لكابلات عدة ومهمة، وتعتبر أضعف موقع للكابلات البحرية في العالم. ويعبر القناة 16 كابلا رئيسا تسهل مرور نحو 17 في المئة من حجم الإنترنت في العالم. ونظرا إلى طبيعة المنطقة الجغرافية، تضطر معظم الشركات إلى تمرير الكابلات فوق مستوى البحر لمسافة تصل إلى نحو 100 ميل، مما يعرضها للخطر، خصوصا مع عدم وجود مسار بديل يصلها بالبحر المتوسط. الجدير بالذكر، أنه كان يوجد مسار بديل يربط آسيا بأوروبا من طريق سوريا، ولكن تم تدميره عند بداية الحرب السورية، مما جعل مصر ومنطقة قناة السويس في غاية الخطورة لسهولة تعرض الكابلات فيها للتلف.

في السابع من يونيو/حزيران 2022، تعرض كابل رئيس يصل آسيا بأفريقيا وأوروبا، يعرف بـThe Asia-Africa-Europe-1" (AAE1 للقطع، مما أثر على حركة الإنترنت في سبع دول حول العالم. حيث يربط هذا الكابل هونغ كونغ بفرنسا ويبلغ طوله 15500 ميل بحري، ويمر بمصر من طريق قناة السويس. وعلى الرغم من أن انقطاع الإنترنت لم يدم طويلا، لكن هذه الحادثة أعادت إلى الواجهة الاهتمام بمشكلة قطع الكابلات وأثرها على العالم. وأعلن مرصد لحركة الإنترنت تسجيله انقطاع الخدمة في أثيوبيا والصومال وتنزانيا وباكستان وجيبوتي والمملكة العربية السعودية، وأفاد بأن أثيوبيا والصومال كانتا من أكثر الدول تأثرا حيث سجل المرصد انقطاعا في الخدمة بنسبة 90 في المئة و80 في المئة على التوالي.

كان لهذا الحادث أثر كبير على مزودي خدمات الحوسبة السحابية مثل "غوغل" و"أمازون " و"مايكروسوفت"، حيث أعلنت "غوغل" أن للحادث تداعيات كبيرة على توصيل البنى التحتية للحوسبة السحابية كتكنولوجيا السحابة الخاصة الافتراضية (Virtual Private Cloud)، وأيضا على خدمة التوصيل السحابية. كما أعلنت "غوغل" فقدانا للبيانات تم رصده لعملاء الشركة في الشرق الأوسط. أما "أمازون" و"مايكروسوفت"، فقد تأثرتا بتدهور حاد في الشبكة الأساسية. أرجع محللون تضرر غالبية مزودي الخدمات السحابية إلى اعتمادهم على البنى التحتية نفسها والكابل نفسه لتقديم خدماتهم في الشرق الأوسط، مما دفع العديد من الشركات في ما بعد إلى تخصيص مبالغ مالية كبيرة لامتلاك كابلات بحرية خاصة، تسمح لها بالتحكم فيها على نحو كامل وتحويل الخدمة من كابل إلى آخر عند حدوث أي عطل، وهو ما يسمى بالطرق البديلة.

تخزن الولايات المتحدة الأميركية بياناتها محليا بينما تعتمد أوستراليا ونيوزيلندا على الإنترنت السحابي، وتخزن كمية كبيرة من بياناتها خارجيا

قد لا يتوفر إمكان تحويل الخدمة إلى الكابل الأقرب من ذلك المتضرر لاستيعاب حركة الإنترنت الزائدة، مما يؤدي إلى تعطيل أو إبطاء خدمة الإنترنت. يذكر، أن تكلفة إصلاح كابل إنترنت واحد قد تصل إلى أكثر من مليوني دولار، تتحملها الشركة المشغلة لهذا الكابل، وتعتبر خسائر مباشرة. الأهم من ذلك، أن كل ساعة تمر خلال انقطاع الخدمة، تكلف الاقتصاد العالمي نحو 1,5 مليون دولار خسائر مباشرة.

مميزات اقتصادية وتكنولوجية

تنقل الكابلات البحرية نحو 95 في المئة من حجم البيانات بين القارات بسرعة وأمان، مما يجعلها عنصرا مهما جدا في الاقتصاد العالمي. دفع ذلك بعضو في البنك الفيديرالي الأميركي إلى القول إنه إذا توقفت شبكة الكابلات البحرية عن العمل فسيتوقف الاقتصاد العالمي كليا.

ديانا استيفانيا روبيو

لهذه الكابلات ميزتان؛ الأولى، قدرتها على إرسال كميات هائلة من البيانات في وقت واحد، والثانية، تكلفتها الرخيصة. حيث تساهم الكابلات بدرجة كبيرة في التجارة العالمية وتمكن أصحاب الأعمال من الترويج لأعمالهم وتسهل عمليات البيع والشراء وفتح أسواق عالمية من طريق التجارة الالكترونية بعيدا من تحديات المسافات. كما أن التنوع في خدمات الحوسبة السحابية مكّن شركات الاتصالات من تقديم خدمات للمستهلك دون الحاجة لامتلاك حواسيب بقدرات خاصة باهظة الثمن. فمع ازدهار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، زاد اعتماد العالم على هذه الكابلات، حيث أتاح للمستخدمين القدرة على التحكم من بعد بمنازلهم عبر أجهزتهم وإصدار أوامر صوتية لكاميرات المراقبة الليلية والأدوات الكهربائية الذكية.

إضافة إلى ذلك، أظهرت تقارير أن وجود خدمات إنترنت بشكل قوي ومستقر، يحفز التعاون وجذب الاستثمارات بين الدول، مما يساهم في دفع الاقتصاد العالمي واستقراره. فوجود بنية تحتية حديثة للاتصالات لا تقل أهمية عن توافر الطرق ومواد خام وعمال أكفياء لجذب استثمارات أجنبية، تساهم بدورها في توفير فرص العمل وتحقيق استقرار اقتصادي أكثر استدامة.

إقرأ أيضا: خرق "قواعد الاشتباك الاقتصادي"

تساهم خدمات الإنترنت والاتصالات في الناتج المحلي لكل دولة بنسب مختلفة، وترتفع بالطبع عند انقطاع خدمات الانترنت، الخسائر الاقتصادية بحسب ارتفاع نسبة مساهمة هذه الخدمات في الاقتصادات الوطنية، وقد تكون الخسائر عظيمة. كذلك، تتفاوت نسب اعتماد الدول للإنترنت وطريقة حفظ بيانات سكانها وعملائها محليا أو خارجيا. على سبيل المثل، تخزن الولايات المتحدة الأميركية بياناتها محليا بينما تعتمد أوستراليا ونيوزيلندا على الإنترنت السحابي، وتخزن كمية كبيرة من بياناتها خارجيا. فكلما زاد اعتماد الدول على الإنترنت وحفظ بياناتها في قواعد بيانات خارجية، زادت نسبة الخسائر الاقتصادية عند قطع هذه الكابلات، التي تُيسر تريليونات الدولارات من المعاملات يوميا وتحمل كل شيء بدءا من رسائل الدردشة إلى معلومات الحكومة السرية.

كابلات للتجسس عبر البحار

يمكن استخدام كابلات الإنترنت والاتصالات في أغراض خاصة بالتجسس وجمع المعلومات إذا ما توافرت المعدات الخاصة للغوص إلى مواقع كابلات مهمة في قاع البحار والمحيطات. إذ يمكن للمتخصصين إحداث فتحة في جسم الكابل وتركيب أجهزة تنصت لجمع المعلومات الاستخبارية من اتصال هاتفي أو بريد إلكتروني أو معاملات مادية، أو أي بيانات يتم تمريرها داخل الألياف الضوئية للكابل المستهدف. بالطبع، إذا كانت البيانات المنقولة مشفرة، فهذا يصعب مهمة المجرمين الالكترونيين، ولكن هناك مجموعات قراصنة سيبرانيين مؤهلين لفك تشفير هذه البيانات لتتمكن في النهاية من الوصول إلى معلومات حساسة عسكرية أو اقتصادية أو شخصية، يتم ابتزاز أصحابها للحصول على أموال.

دايف موراي

 الأمثلة كثيرة لنوع كهذا من الهجمات، ففي عام 2015، أفادت مستشعرات أميركية بوجود غواصة بالقرب من كابلات بحرية، مما فتح الباب أمام مخاوف من التجسس على هذه الكابلات. ففي أعالي البحار، تمتلك الدول حقوقا سيادية تختلف عن تلك الموجودة ضمن حدود الدول الجغرافية. حيث لا يعتبر التجسس على كابلات بحرية في أعالي البحار خرقا لسيادة الدول، ولطالما تم اعتبار جمع معلومات استخبارية في وقت السلم من طريق الكابلات أمرا لا غبار عليه. ولكن وفقا لخبراء القانون الدولي، إذا ترتب على تلك الهجمات السيبرانية خرق لحقوق الإنسان، فيعد ذلك أمرا غير مقبول.

لم تعد الحروب تقليدية في البر والبحر والجو، فهناك جبهات أخرى جديدة للتنافس بين الدول. السلاح الأقوى اليوم هو سلاح البيانات، فكل الدول تسعى للحصول على بيانات ومعلومات أكثر وتأمين هذه البيانات قدر الإمكان ضد الهجمات السيبرانية وضد أي اختراق.

إقرأ أيضا: كيف يحصل أهالي غزة على الانترنت

أصبحت المعلومات سلاحا مهما جدا في ميزان النظام الدولي، فهي محرك للاقتصاد والتحالفات والجيوش. لهذا، لا تتوانى الدول المتقدمة عن محاولة إحكام سيطرتها على الكابلات البحرية وتكوين مسارات بديلة لأسباب مدنية وأخرى تختص بالسياسة الدولية والأمن في عالم يحركه القوي القابض على معلومات وافرة.

font change

مقالات ذات صلة