أوروبا في البحر الأحمر... انقسامات وتوترات

قرار بروكسل أظهر أهمية تقليل الاعتماد على واشنطن من الناحية العسكرية

بيب بواتلا
بيب بواتلا

أوروبا في البحر الأحمر... انقسامات وتوترات

من شأن إنشاء قوة بحرية متخصصة من قبل الاتحاد الأوروبي لحماية البحر الأحمر، أن يعزز أمن هذا الممر البحري الحيوي، ولكنه في الآن نفسه يسلط الضوء على الانقسامات الكبيرة بين القادة الأوروبيين بشأن النهج الأكثر فعالية لمواجهة التهديد الذي يشكله "الحوثيون" في اليمن. فمنذ أن بدأ هؤلاء المتمردون الذين تدعمهم إيران في استهداف السفن في البحر الأحمر كإجراء انتقامي ضد الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة، تولت الولايات المتحدة إلى حد كبير المسؤولية الأساسية عن تأمين الطرق البحرية الدولية في المنطقة، بدعم من مجموعة قتالية من حاملات الطائرات.

بدورها استهدفت المملكة المتحدة "الحوثيين" في اليمن، ولكن عملياتها اقتصرت على الغارات الجوية من قاعدة للقوات الجوية الملكية في قبرص، بسبب عدم قدرة سفنها الحربية الإقليمية على الانخراط في هجمات برية.

وكان لا بد من تأجيل مقترحات الحكومة البريطانية لدعم العمليات العسكرية الأميركية في المنطقة من خلال نشر حاملة الطائرات "الملكة إليزابيث" الجديدة التي يبلغ وزنها 65 ألف طن بعد أن تم الكشف عن أن السفينة تعاني من مشاكل في عمود المروحة، مما يجعلها غير قادرة على العمل بفعالية في منطقة حرب نشطة.

وفيما خلا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فإن الدولة الغربية الأخرى الوحيدة التي شاركت حتى الآن في عمل عسكري ضد "الحوثيين" هي فرنسا، التي شاركت إحدى فرقاطاتها في إسقاط عدد من طائرات "الحوثيين" دون طيار في يناير/كانون الثاني.

"الدرع" الأوروبي

آثرت القوى الأوروبية الكبرى الأخرى حتى الآن الامتناع عن التورط في مواجهة عسكرية مع "الحوثيين"، خشية أن يؤدي ذلك إلى تصعيد كبير في التوترات في المنطقة. وقد اختاروا بدلا من ذلك دعم الجهود الدبلوماسية لترتيب وقف إطلاق النار في غزة، حيث ادعى "الحوثيون" أنهم سيوقفون هجماتهم في البحر الأحمر إذا تم تنفيذ مثل هذا الاتفاق.

ويؤيد الزعماء الأوروبيون إنشاء مهمة بحرية للاتحاد الأوروبي لضمان المرور الآمن للسفن عبر مضيق باب المندب، وهو نقطة دخول بالغة الأهمية إلى قناة السويس وأحد أكثر الطرق التجارية التي تجري من خلالها تجارة العالم. وفي 19 فبراير/شباط، صدق وزراء الاتحاد الأوروبي على تشكيل هذه المهمة، المعروفة باسم عملية "أسبيدس"– أي الدرع باليونانية، في إطار القوة البحرية للاتحاد الأوروبي، للمساهمة في الجهود الدولية الرامية إلى تأمين الشحن في البحر الأحمر.

ومن بين الدول التي تعرض تقديم أصول بحرية لهذه المهمة فرنسا واليونان وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا، حيث تنطلق المهمة من لاريسا في وسط اليونان، المقر الرئيس للقوات الجوية اليونانية، والذي يخدم أيضا كمقر لـ"حلف شمال الأطلسي".

وسيكون من بين مهام العملية تحقيق التوازن بين الأساليب المختلفة للدول الأوروبية، التي تفضل عموما اتباع نهج أكثر دفاعية مقارنة بالنهج الذي تتبناه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وكان المسؤولون الأوروبيون واضحين، عند إضفاء الطابع الرسمي على إنشاء القوة البحرية الجديدة، في أنها لن تشارك في أي ضربات عسكرية وستعمل فقط في البحر.

هناك اختلافات حادة بين أوروبا وأميركا في التعامل مع التحدي الأمني الذي يمثله "الحوثيون"

وستعمل العملية، التي تركز على الدفاع، على تعزيز الوعي بالوضع البحري ومرافقة السفن وحمايتها من الهجمات المحتملة متعددة الأوجه في البحر، كما ذكر مقر الاتحاد الأوروبي بعد موافقة وزراء خارجية الكتلة على المهمة، وسلطت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، في حديثها للصحافيين في بروكسل، الضوء على التأثير الاقتصادي العالمي، مشيرة إلى أن "السفن الأوروبية ليست وحدها التي تتعرض للخطر من الهجمات الصاروخية الحوثية في البحر الأحمر، وإنما قطاع الشحن الدولي".
وقالت إنه بصرف النظر عن حماية السفن الأوروبية، فإن المهمة تبين كيف يقف "المجتمع الدولي معا في مواجهة الهجمات الإرهابية على حرية الممرات البحرية".
وسيكون اعتماد قوة الاتحاد الأوروبي الجديدة على المهام العسكرية الحالية للاتحاد الأوروبي في المنطقة. وستضع العملية عدة سفن حربية من القوات البحرية للدول الأعضاء تعمل تحت إمرة الاتحاد الأوروبي. وتمتلك فرنسا وإيطاليا بالفعل سفنا حربية في المنطقة، فيما أمرت ألمانيا الفرقاطة "هيسن" بالإبحار من ميناء فيلهلمسهافن على بحر الشمال للمشاركة في المهمة بعد موافقة البرلمان الألماني. وعرضت بلجيكا أيضا المساهمة بفرقاطة في المهمة.

تحدٍ بحري وانقسام أوروبي

ولكن في حين أن تشكيل قوة الاتحاد الأوروبي إضافة مرحب بها للجهود العالمية لتحسين الأمن في المنطقة، فإنه كشف في الوقت عينه عن اختلافات حادة في الطريقة التي يعتزم الأوروبيون التعامل بها مع التحدي الأمني الذي يمثله "الحوثيون" والنهج الذي تتبعه حاليا المهمة الأميركية البريطانية القائمة، والتي تحمل الاسم الرمزي عملية "حارس الازدهار".
وفي حين شن الجيشان الأميركي والبريطاني سلسلة من الضربات ضد أهداف "الحوثيين" المتمركزة في الأراضي اليمنية، فإن الأوروبيين يريدون الاكتفاء بمهام دفاعية لن تتضمن شن هجمات ضد أهداف برية، على الرغم من سعيهم لحماية الشحن.
وكان جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، واضحا تماما عند تحديد الخطط الأولية للقوة أوائل فبراير، فإن مهمة الاتحاد الأوروبي لحماية السفن التجارية من هجمات المتمردين "الحوثيين" المدعومين من إيران في البحر الأحمر ستكون "دفاعية بحتة" وأنها لن تقوم "بأي نوع من العمليات الهجومية".

أدى الخلاف المتزايد بين الاتحاد الأوروبي وأميركا بشأن أزمة غزة إلى توتر في التحالف عبر الأطلسي

وفي حديثه قبيل اجتماع وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي في بروكسل، أوضح بوريل أن هدف المهمة هو حماية السفن واعتراض الهجمات دون المشاركة في الضربات العسكرية ضد "الحوثيين". وتستجيب هذه المبادرة لمخاوف قادة الأعمال الأوروبيين بشأن التأثير التجاري لتغيير مسار السفن بعيدا عن البحر الأحمر، وهي خطوة فرضتها تهديدات "الحوثيين"، مما يزيد التكاليف ويؤثر على الاقتصادات الأوروبية.

بيب بواتلا

وعلى الرغم من الموقف الدفاعي للمهمة، أقر بوريل بإحجام قادة الاتحاد الأوروبي عن دعم هذه العملية المحدودة، مع تردد بعض الدول في المشاركة. وتنبع هذه المبادرة جزئيا من رغبة الزعماء الأوروبيين في عدم الخضوع لقيادة الولايات المتحدة، ومخاوفهم بشأن تصعيد الأعمال العسكرية، وخاصة في ضوء عدم ارتياح الاتحاد الأوروبي إزاء الهجوم العسكري الإسرائيلي في غزة.
وفي حين كان موقف الزعماء الأوروبيين، في أعقاب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول مباشرة، هو الدعم المطلق لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فإنهم بدأوا يعربون عن قلقهم المتزايد إزاء حجم الرد الإسرائيلي، الذي ورد أنه قد أودى حتى الآن بحياة نحو 30 ألف فلسطيني. وقد تحولت جهود زعماء الاتحاد الأوروبي بدلا من ذلك إلى تركيز جهودهم على ترتيب وقف دائم لإطلاق النار في الصراع في غزة. ومن وجهة نظرهم، فإن المشاركة في العمل العسكري ضد "الحوثيين" لن تؤدي إلا إلى زيادة تعقيد جهودهم لوقف إطلاق النار.

توتر عبر الأطلسي 

أدى الخلاف المتزايد بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن أزمة غزة إلى توتر في التحالف عبر الأطلسي. وقد برز هذا التوتر عندما رد بوريل، منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، على تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن بأن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة "تجاوزت الحدود"، وحث بوريل الولايات المتحدة على خفض إمدادات الأسلحة إلى إسرائيل، مما يشير إلى اختلاف كبير في وجهات نظر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن الصراع. 
وقال بوريل، فيما يرقى إلى هجوم مباشر على دعم إدارة بايدن لإسرائيل: "إذا كنت تعتقد أن عددا كبيرا جدا من الأشخاص يُقتلون، فربما يتعين عليك تقديم أسلحة أقل من أجل منع قتل هذا العدد الكبير من الأشخاص".
ومن المرجح أن ينعكس التوتر بين أوروبا والولايات المتحدة بشأن غزة في أساليبهما المختلفة لتوفير الأمن في البحر الأحمر، حيث تتخذ الولايات المتحدة نهجا أكثر عدوانية يتمثل في مهاجمة أهداف "الحوثيين" في البر الرئيس بينما يقصر الاتحاد الأوروبي عملياته على حماية الشحن البحري.

بينما تنفي إيران سيطرتها على "الحوثيين"، فقد حثت وكلاءها على الضغط على واشنطن وحلفائها

ويدعي "الحوثيون" أنهم يشنون هجماتهم فقط ضد الملاحة الدولية في البحر الأحمر لدعم "حماس"، وأشاروا إلى أنهم سينهون الهجمات بمجرد تنفيذ وقف إطلاق النار في غزة.
إن الجهود التي يبذلها قادة الاتحاد الأوروبي لإنشاء قوة بحرية قادرة على العمل بشكل مستقل عن الإجراءات العسكرية الأكثر أهمية التي اتخذتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضد "الحوثيين" تعكس طموح الاتحاد الأوروبي لتطوير آليات الدفاع الخاصة به.
لقد أطلق الاتحاد الأوروبي في الماضي مهام بحرية لمواجهة تهديد القراصنة الصوماليين ومكافحة تهريب المهاجرين غير الشرعيين في البحر المتوسط، ولكن فعالية قوة خاصة بالاتحاد الأوروبي في تعزيز أمن ممرات الشحن الدولية من تهديدات "الحوثيين" في البحر الأحمر تتوقف إلى حد كبير على نجاح الجهود العالمية لتأمين وقف إطلاق النار في غزة وعلى موثوقية "الحوثيين" لوقف أعمالهم العدائية إذا تم التوصل إلى مثل هذا الاتفاق.
ولكن هنالك نقطة جديرة بالاهتمام، فبينما ينعم "الحوثيون" بدعم إيران، فإن قيادة "الحوثيين" لديها أيضا أجندتها السياسية الخاصة، وهي تعمل في أحيان كثيرة باستقلال عن حلفائها في طهران، وفي هذا السياق ذكرت تقارير مؤخرا أن أحد الدوافع الرئيسة التي دفعت "الحوثيين" إلى اتخاذ قرار بشن هجمات ضد الشحن في البحر الأحمر هو الحاجة إلى التذكير بقضيتهم في وقت يتراجع فيه الدعم المقدم لهم في اليمن.
وبينما تنفي إيران سيطرتها المباشرة على "الحوثيين"، فقد حثت وكلاءها الإقليميين على مواصلة الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها، بهدف الحد من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وهي استراتيجية قد تستمر لفترة طويلة حتى بعد تنفيذ أي وقف لإطلاق النار في قطاع غزة.

font change

مقالات ذات صلة