بيان الألف يهوديّ وخيانة إرث آينشتاين وحنة أرندت

من دير ياسين إلى حرب غزة

AFP
AFP
جوناثان جليزر يتسلم جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عن فيلم "منطقة الاهتمام"، محاطا بالمنتج البريطاني جيمس ويلسون (يسار) وليونارد بلافاتنيك، مارس 2024

بيان الألف يهوديّ وخيانة إرث آينشتاين وحنة أرندت

لم يقف المخرج البريطاني اليهودي جوناثان غليزر، في كلمة فوزه في أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن رائعته "منطقة الاهتمام"، ليشجب هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مثلما كان يتوقع البعض منه، بل آثر الوقوف على أصل المشكلة التي أدّت وتؤدّي، بحسب قوله، إلى سقوط ضحايا مدنيين من الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء، وهي الاحتلال الإسرائيلي، كما اختار ألا يغمض عينيه عن المأساة المروعة في غزّة، رافضا استغلال، بل كما قال اختطاف، الهولوكوست (موضوع فيلمه الفائز) واليهوديّة ذريعة لارتكاب إبادة جديدة على يد الإسرائيليين أنفسهم هذه المرة.

"مثل يهوديّ"

موقف غليزر هذا يبدو أنه كان صادما في وضوحه الأخلاقي والسياسي، لكثير من مؤيدي إسرائيل ومن أنصار ما ترتكبه حكومة نتنياهو، ممن شعروا أنه أمر ملحّ وجوهري، أن يخرجوا ببيان مضاد، أريد له أن يبدو ضخما و"تمثيليا" للصوت اليهودي، على اعتبار أن غليزر وأمثاله من مناهضي الحرب والاحتلال، ليسوا يهودا حقيقيين أو مخلصين، بل هم "مدّعو يهودية"، وفق ما يدلّ عليه مصطلح جديد صاغه بعضهم وهو As a Jew أو "مثل يهودي" ليكون وارثا جديدا متوافقا مع راهن الأحداث، لمصطلح "اليهودي كاره ذاته"، فأيّ صوت يرتفع فوق صوت الإبادة في هذا التوقيت الحساس، هو صوت خائن في الحدّ الأدنى، وليس يهوديا في الحدّ الأقصى، أي أنه خارج على الملّة، إذا ما استخدمنا لغة التكفيريين الإسلامويين. بل إن بعضهم ذهب إلى أن يعيد تقييم فيلم "منطقة الاهتمام"، بعد مراجعات إيجابية سابقة، ليعتبره على ضوء تصريحات غليزر الأخيرة، فيلما ملتبسا، لا يخدم القضية التي ينبغي لأيّ فيلم عن الهولوكوست خدمتها، وهو أن يصبّ في خدمة صورة اليهود عن أنفسهم بوصفهم ضحايا أبديين، بل إنهم هم الضحايا مع ألـ التعريف، وكلّ من عداهم مجرّد ضحايا عاديين وأقلّ شأنا، وفي نهاية المطاف في خدمة صورة إسرائيل بوصفها ملاذا أبديا لأولئك الضحايا الأبديين.

مشاركة في المجهود الحربي

بيان الألف عامل يهودي في مجالات إبداعية وفنية (والذي واجهه قبل أيام قليلة بيان آخر يدافع عن غليزر)، ليس مجرّد تصويب للاتجاه من قبل داعميه والمبادرين إليه، لكنه في حدّ ذاته مشاركة في المجهود الحربي لنتنياهو وحكومته المتطرّفة. وإذ يغض الطرف في طبيعة الحال عن حرب الإبادة التي تشنّها هذه الحكومة دون هوادة منذ ستة أشهر سقط خلالها ما لا يقل عن 33 ألف قتيل فلسطيني، ودمّرت مدن فلسطينية بأكملها، فإنه يحاول امتصاص أو حجب الصورة الحقيقية لآلاف اليهود حول العالم (منهم للأسف قلة نادرة في إسرائيل نفسها)، ممن رفعوا عقيرتهم شجبا لهذه الحرب، وإدانة لما أدانه غليزر، أي الاحتلال الإسرائيلي، ودعوة إلى "تحرير فلسطين"، أي ببساطة: إنهاء الاحتلال.

أيّ صوت يرتفع فوق صوت الإبادة في هذا التوقيت الحساس، هو صوت خائن في الحدّ الأدنى، وليس يهوديا في الحدّ الأقصى

إن ما أزعج ويزعج إسرائيل وأنصارها في كلام غليزر هو كونه يهوديا في المقام الأول، ومجرّد شجبه الاحتلال وتعيينه إياه بوصفه أصل المشكلة، يجعله مرتدا ومارقا، وهو بالضبط ما تمارسه جماعات أخرى لا تدّعي الديمقراطية ولا تمثيل قيم الحداثة والتقدّم وحقوق الإنسان، والمفارقة أنه وفي حين أن إسرائيل قدّمت هويتها الدينية والعرقية على أيّ هوية أخرى، وفتحت حدودها لكلّ يهودي في أرجاء المعمورة، وإن كان يحمل جنسية أو حتى جنسيات عدة أخرى، ليصبح إسرائيليا بالولادة، بل وشرّعت الحدود لتدفق هؤلاء من كلّ مكان للمشاركة في حربها المقدسة ضدّ غزة وأهلها، في نسخة "جهادية" يهودية لطالما كانت قائمة في أصل المشروع الصهيوني، وإن ظهرت اليوم بصورة أوضح، في حين يصبح هذا كله ممكنا، وربما لهذا السبب عينه، يصبح أيّ صوت منشق عن "الجماعة" وعن إجماعها، خيانة عظمى وجب التصدّي لها ومحاسبة مرتكبها.

AFP
شاب إسرائيلي يقوم بإطفاء النار في موقف للسيارات التابع لمبنى سكني في عسقلان، في أعقاب هجوم صاروخي من قطاع غزة على جنوب إسرائيل، في 7 أكتوبر 2023

أفاق أولئك بعد خطاب غليزر التاريخي (وهو تاريخي أولا لأنه في الولايات المتحدة الأميركية وفي محفلها الفني الأهم، وثانيا لأن عدد مشاهديه بلغ زهاء 20 مليون شخص، وثالثا لأنه الخطاب الوحيد خلال الحفل الذي أشار إلى حرب غزة)، على فيلمه. فصاروا يرون فجأة في تصويره لشخصية القائد النازي رودولف هاس، تقليلا من فظاعة الهولوكوست، فهو بحسبهم يؤدّي دوره الإباديّ بدافع الضجر والبيروقراطية الوظيفية، وليس بدافع الشرّ المتأصّل في النازية، وهي دعوى يعرف كلّ من شاهد الفيلم أنها باطلة، فهاس وجميع النازيين في الفيلم يبدون جزءا لا يتجزأ من الآلة الحربية والأخلاقية للنازية، وتكفي مشاهد بناء الأفران الضخمة، أو اجتماعات الإعداد لجلب مئات آلاف اليهود إلى "أوشفيتز" لدحض هذه التهمة.

إشارة تحذيرية

لم يفت أيّ مشاهد موضوعي حصيف أن يرى جوهر الفيلم؛ إنه ليس مجرد فيلم للتاريخ، يمكن وضعه جنبا إلى جنب آلاف الأفلام والكتب التي تصوّر فظاعة الهولوكوست وينتهي الأمر، بل هو إشارة تحذير واضحة من صنّاع الفيلم وفي مقدمهم غليزر، من أن تتكرّر السمة التي جعلت الهولوكوست ممكنا في المقام الأول، وهي لا مبالاة العالم بها، وغضّ الطرف عن مداها ووحشيتها، خلال وقت حدوثها، وإذ أشار غليزر إلى حرب غزة وإلى الاحتلال الإسرائيلي في هذا السياق، فقد أكّد هذه الرسالة تحديدا، وهو ما رأته آلة الحرب الدعائية الإسرائيلية هجوما مباشرا يستهدفها، وكما قال الناقد ديفيد كليون (صحيفة "ذي نايشن، 24 مارس/آذار) محقا، أصبح ما يراه أولئك في تصوير شخصية هاس، صورتهم هم: إنها صورة من يدعم دون مساءلة ولا تفكير، حرب الإبادة، وبالتالي فإنه يشارك عمليا في هذه الحرب. الموقف الأخلاقي هنا لا ينفصل عن حمل السلاح وإطلاق الرصاص، إن لم يكن أشدّ وقعا.

آينشتاين وأرندت ومجزرة دير ياسين

موقف جوناثان غليزر، ومثله كثر من المثقفين اليهود حول العالم، ليس جديدا، بل إنه وارث عقود مما يمكن تسميته بالحسّ  الأخلاقي العالي تجاه كلّ ما يحاكي الهولوكوست أو يهدّد بتكرار الإبادة، ليس ضدّ اليهود فحسب بل ضدّ أيّ  مجموعة بشرية. وفي حين يبدو موقف غليزر "شجاعا" و"استثنائيا" في زمننا هذا، فإنه كذلك بالفعل بسبب اتساع نطاق الموقف المتخاذل من الإبادة التي ترتكب مباشرة على الهواء في حق الفلسطينيين، بل مشاركة دول بدعم حكومة إسرائيل بالمواقف السياسية والسلاح وبحصار الفلسطينيين وتجويعهم. بالنسبة إلى هؤلاء جميعا، فإن ما حدث للإسرائيليين في 7 أكتوبر/تشرين الأول، هو من الفظاعة إلى حدّ أنه يجب أن يخرس تماما أيّ صوت معترض على ما فعلته وتفعله إسرائيل انتقاما و"دفاعا عن النفس"، وهو ما عبّر عنه نائب أميركي بصلافة تامة حين سئل عن الإبادة في حق الفلسطينيين، فقال دون تردّد: "نعم، أنا مع إسرائيل، ومع كلّ ما تفعله إسرائيل"، وهو ما فعلته أيضا ممثلة إسرائيل في مجلس حقوق الإنسان بالأمس حين اعتبرت موقف المجلس الذي يعتبر أن ما تفعله إسرائيل في غزة يرقى إلى جرائم الحرب، "وصمة عار" على جبين هذا المجلس الذي في زعمها المضلّل غضّ الطرف عن فظاعات 7 أكتوبر. 

 مجرّد شجب غليزر الاحتلال وتعيينه إياه بوصفه أصل المشكلة، يجعله مرتدا ومارقا

هذا ليس شعور غليزر وأمثاله من المثقفين اليهود. إسرائيل لا تمتلك رخصة أخلاقية لارتكاب إبادة في حق شعب آخر، فقط لأنها تعرّضت لهجوم قاتل في 7 أكتوبر. كان قد سقط في الهولوكوست زهاء 6 ملايين يهودي، حين انبرى صفوة المثقفين والعلماء اليهود، لإدانة مجزرة دير ياسين. لم يعتبر هؤلاء أن الستة ملايين ضحية يمنحون إسرائيل التي كانت وليدة جديدة في ذلك الحين، حقّ قتل بضع عشرات من الفلسطينيين في المجزرة الشهيرة.

الرسالة التي نشرت في صحيفة "نيويورك تايمز" في 4 مارس 1948 على خلفية مجزرة دير ياسين

ففي رسالة إلى صحيفة "نيويورك تايمز" نشرت في 4 مارس/آذار 1948، وقعها 28 من كبار الأكاديميين والمثقفين اليهود، من بينهم ألبرت آينشتاين وحنة أرندت، نجد اتهاما صريحا يوجّه إلى مرتكبي مجزرة دير ياسين بوصفهم نازيين وفاشيين. نقرأ في فقرات الرسالة كلاما صادما بمعايير التأييد الأعمى لإسرائيل اليوم، بحيث يبدو كلام غليزر عن حرب غزة في زمننا، ملطّفا. يقول موقعو الرسالة التي احتلت صفحة كاملة في الصحيفة بعنوان "حزب فلسطين الجديدة: زيارة مناحيم بيغن ومناقشة أهداف الحركة السياسية": "بين أكثر الظواهر السياسية إثارة للاضطراب في زمننا هو ظهور 'حزب الحرية' في إسرائيل الوليدة حديثا، وهو حزب وثيق الصلة في تنظيمه ومناهجه وفلسفته السياسية وقابليته الاجتماعية، بالحزبين النازي والفاشي. وقد تشكّل هذا الحزب من أتباع منظمة إرغون تسفاي ليومي، الإرهابية، اليمينية الشوفينية في فلسطين".

أميركا وإسرائيل

وإذ يأتي هذا البيان اعتراضا على زيارة كان يقوم بها مؤسس ذلك الحزب وزعيمه في ذلك الحين مناحيم بيغن (مؤسس حزب الليكود لاحقا، وسادس رئيس حكومة لإسرائيل) إلى الولايات المتحدة الأميركية، فإنه لا يفوته التنبّه إلى الغرض السياسي لتلك الزيارة، بما يذكّر بما نشهده في أيامنا هذه من حراك سياسي مماثل: "الزيارة الحالية... تهدف بوضوح الى إعطاء الانطباع بالدعم الأميركي لهذا الحزب (الحرية) في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، وإلى توطيد الصلات السياسية مع العناصر الصهيونية المحافظة في الولايات المتحدة. وقد تبرّع العديد من الأميركيين المعروفين بأسمائهم للترحيب بهذه الزيارة. إنه لمن غير المفهوم أن يقوم أولئك الذين يناهضون الفاشية حول العالم، إن كانوا يعلمون بسجل بيغن وآرائه السياسية، بإضافة أسمائهم ودعمهم إلى الحركة التي يمثلها"، ليصل البيان إلى القول: "إن أفعال هذا الحزب تكشف حقيقته؛ من أفعاله الماضية يمكننا الحكم على ما يمكن توقعه منه مستقبلا".

AFP
مقبرة للفلسطينيين الذين قتلوا في "مذبحة دير ياسين" عام 1948

ويسوق البيان مثلا على ذلك مجزرة دير ياسين، ملخصا إياها على النحو الآتي: "في 9 أبريل/نيسان هاجمت عصابات إرهابية تلك القرية المسالمة، التي لم تكن هدفا عسكريا خلال القتال، وقتلت معظم سكانها البالغ عددهم 240 من الرجال والنساء والأطفال، وأبقت قلة منهم أسرى لعرضهم في شوارع القدس".

يبدو بيان الألف الموجّه ضدّ مخرج سينمائي واحد صورة عن حال التردّي الثقافي التي يتخبط بها مؤيدو إسرائيل

هذا البيان ليس مناهضا لإسرائيل لا من قريب ولا من بعيد، فهو يرى في مناحم بيغن وأمثاله، ضررا على إسرائيل نفسها، ويعيب على تنظيمه أنه لم يشارك في أيّ جهد "بنّاء" في إسرائيل، من قبيل بناء المستوطنات، لكنّ ما يعنينا هنا هو مسائل ثلاث: بداهة إدانة أولئك المثقفين لمجزرة دير ياسين، وتصنيف الإرغون حركة فاشية نازية، دون البحث في الحرب الجارية حينذاك ذريعة لتلك المجزرة أو لقيام تنظيمات إرهابية يهودية، والمسألة الثانية هي التنبّه إلى الاتجاهات الصهيونية الأميركية (التي تنحدر منها اتجاهات زمننا هذا)، والثالثة هي التنبّه إلى محورية الدور الأميركي، سياسة ونخبا سياسية وثقافية، في دعم إسرائيل، بل وفي رسم مسارها ومصيرها.

AFP
مناحيم بيغن (يمين)، قائد منظمة الإرغون، وهي جماعة يهودية متطرفة، التقطت هذه الصورة عام 1948 خلال مخاطبة بيغن لعناصر منظمته العسكرية

لعلّ البيان الآنف الذكر لم يمض إلى حدّ الحديث عن احتلال إسرائيلي لفلسطين، مثلما فعل غليزر في كلمته الأوسكارية، لكنه يتشارك معه في أنه لا ينطلق في موقفه هذا الرافض للإبادة من العداء لإسرائيل، بل وربما يشترك معه، مثل كثر من اليهود وغير اليهود حول العالم، في القلق على مصير إسرائيل نفسها على ضوء المجازر الحالية التي ترتكبها، وهو ما لخّصته مجلة "ذي إيكونومست" قبل أيام في غلاف لافت وقعت عليه بعنوان من كلمتين فقط: "إسرائيل وحيدة".

في هذا المعنى يبدو بيان الألف الموجّه ضدّ مخرج سينمائي واحد لم يفعل سوى الإعراب عن قناعة سياسية وأخلاقية، صورة عن حال التردّي الثقافي الذي يتخبط بها مؤيدو إسرائيل، إلى درجة أنهم باتوا يماهون بينها وبين أيّ نزعات سياسية تقودها، مهما بلغت تلك النزعات من التطرف والفاشية والتعطش للدماء.

font change

مقالات ذات صلة