عن لحظات وداع أمهات غزة لأطفالهن القتلى

لحظات تجسّد جوهر الانكسار الانساني

Lina Jaradat
Lina Jaradat

عن لحظات وداع أمهات غزة لأطفالهن القتلى

ماذا في عناق، في احتضان؟

هو قطعا أكثر من لقاء جسدين، تحديدا لأن مثل هذا اللقاء لا يعود كافيا، مما يفيض من داخل غامض وسحيق، فالاحتضان أو العناق، في أول الأمر وآخره، لغةٌ عما تعجز عنه الكلمات.

إذا كانت المصافحة باليدين، أوحتى بالمرفقين، مثلما فعلت البشرية خلال جائحة كوفيد19، هي عتبة التواصل الجسدي، فالعناق ذروة من ذرى هذا التواصل.

يذوب الصوفي – عاشقا – في الوجد، مثلما يذوب العاشق، فلا يتبقى سوى الجسد معبرا إلى ما لا يقال، وما لا يقدر صوت على إبلاغه.

وداع من طرف واحد

أما الأصوات الآتية من غزة، فتأتي مخنوقة. رجال ونساء وأطفال فقدوا أصواتهم لأنهم فقدوا الكلمات، مثلما الصراخ، مثلما الدمع.

أراهم يودّعون قتلاهم بعناق من طرف واحد. هل المُعانَق، تلك الجثة الهامدة، الممزقة في كثير من الأحيان، في كثير من المواضع، تشعر بذلك العناق؟ هل تتبادله على نحو ما؟ هل يشعر المُعانَق بهذا العناق؟

العناق استقبال أحيانا، وكثيرا ما يكون وداعا، وفي الغالب لا هذا ولا ذاك. هو لحظة يراد لها أن تستمرّ ما أمكن، بين استقبال ووداع، بين مكوث ورحيل

العناق استقبال أحيانا، وكثيرا ما يكون وداعا، وفي الغالب لا هذا ولا ذاك. هو لحظة يراد لها أن تستمرّ ما أمكن، بين استقبال ووداع، بين مكوث ورحيل.

اللغة العربية خصّت البشر من الجنسين بالعناق، أما الاحتضان فربطته غالبا بالأمومة، بالعلاقة الصميمة بين الأم ووليدها. الاحتضان أن تعيد جزءا منك إليك، أن تحتويه بالكامل، أن تضمه بين جناحيك. وأبعد من ذلك، أن يصبح قلباكما على أقرب مسافة ممكنة.

الاحتضان نبض، ورائحة، وأنفاس. تواصل يصبح وصلا واتصالا.

REUTERS
أم فلسطينية تودع طفليها التوأم اللذين ولدا في الحرب الأخيرة وقتلا جراء غارة اسرائيلية، وروت هذه الأم معاناتها لانجابهما بعد عشر سنوات من عمليات التلقيح المتكررة

هذه أمّ تحضن طفلها قبل أن يؤوي إلى نوم سيصحو منه صباح اليوم التالي. فكيف باحتضانها له وهي تعرف أنه لن يصحو، ولن يكون صباح آخر. لا يحدث أن تحتضن أمّ طفلين ذاهبين إلى النوم في لحظة واحدة، في نوم أبديّ  واحد. فقط في غزة، ثمة دفء ما ينبعث من أنفاس لم تعد موجودة، أو ثمة دفء لا بدّ أن يكون موجودا، إذ كيف لنا أن نتخيّل حضنا باردا، بلا أنفاس حارّة. أحضان الأمهات الفلسطينيات في غزة هي جوهر الانكسار الإنساني أمام الإبادة، فالأمّ أو الأب إذ يحتضنان طفلا ميتا، لا يحتضنان جثة، بل كأنهما يحاولان المستحيل، بثّ حرارة في الجسد الراحل، أو كأنه لم يرحل في المقام الأول. نرى في الوجوه، خصوصا في العيون، أقصى درجات الثكل. نحتضن تجسيدا للحماية وترسيخا لها، تلك الحماية التي أخفقت بأفعال قتل لا يتصوّرها عقل.

أيام غادرة

والفلسطيني اعتاد أنواع العناق كافة، من كثرة الوداعات والاستقبالات، ومن كثرة الأيام الغادرة. ستجد صديقين التقيا بالأمس فحسب، يتعانقان ويتبادلان القبل في لقاء اليوم. تحسّبا ربما، إذ لا أحد يعرف إن كان هذا سيكون عناقا أخيرا. كان ياسر عرفات كثير العناق والقبل، وكان موضع تندّر. لا أحد يعرف مثله معنى الوداع، بما في ذلك وداع الأمهات لأطفالهن، فكأنهن استودعنه تلك اللحظة، رسالة سرية إلى العالم، حول حبّ يظلّ مقصوفا، يظلّ ناقصا كلما اكتمل، ومكتملا كلما نقص.

علا عطا الله، كاتبة وصحافية فلسطينية شابة، لم نلتق يوما إلا في الكتابة. حين وصلني خبر مقتلها مع عائلتها في قصف إسرائيلي للبيت الذي لاذوا فيه، لم أستطع إلا تخيّل تلك اللحظات الأخيرة. هل اقترب أفراد العائلة بعضهم من بعض خلال تلك اللحظات المرعبة، هل تلاصقوا، هل تعانقوا؟ لن نعرف الجواب أبدا، فربما ما زالت جثث العائلة تحت الركام. لا بدّ من أن نؤمن إذن بعناق الأرواح والقلوب، في مكان آخر، في زمان آخر.

اختفت الأسماء والحكايات، واختفت المدينة، وبقيت الأجساد المتحجّرة في احتضاناتها الطويلة

تحت القصف يعانق الكبار الصغار، لتسكين مخاوفهم، لحمايتهم، وربما لمساعدتهم على نوم يبدو بعيد المنال. الأطفال كثيرا ما يحتاجون إلى هذا العناق. الأشباح والوحوش التي ترتسم في مخيلاتهم الصغيرة الكبيرة، ليست في نهاية المطاف إلا أن يكونوا وحيدين في الليل. ليس من طفل يحبّ أن ينام وحيدا. هذا الفصام الأصعب بعد انسلاخ الطفل عن جسد أمه، عن رحمها، عن حضنها، انفصام عن النهار، عن الضوء، عن الكلام، عن اللعب، تسليم واستسلام للنوم الذي هو "موت قصير" بحسب المعري.

أجساد مخذولة

بين متحجرات بومبي الإيطالية الكثيرة، نجد كثيرا من أشكال العناق، بين أفراد أسرة واحدة، بين فردين، بين صديقين، بين عاشقين. اختفت الأسماء والحكايات، واختفت المدينة، وبقيت الأجساد المتحجّرة في احتضاناتها الطويلة. كأن تلك العناقات الأخيرة رسالة آتية من أعماق السنين، وثمة من لم يجدوا حضنا يعانقونه، فعانقوا أنفسهم ومضوا وحيدين إلى الغياب. كأن العناق يدفع الموت أو يبعده، أو على الأقل يساعدنا، أو لعله يوهمنا بأننا لا نذهب وحدنا إلى "ذلك الجوار المخيف"، على وصف بسام حجار وهو يحاول المستحيل بالكلمات: أن يجعل للروح مكانا متعيّنا، وأن يناشد في آن واحد الصورة الظاهرة في المرآة، والصور المتوارية خلفها.

Lina Jaradat

في غزة ما يفيض عن ذلك كله. تلك الأجساد المتروكة المخذولة، في أحلك ليل بشريّ، لا يتاح لها غالبا مثل هذه العناقات. أمام آلة القتل المشرعة على كلّ وقت ومكان، ينشغل الناس بمساعي النجاة أكثر مما بلحظات وداع محتمل. أذكر أما فلسطينية قالت إنها ظلت تحتضن طفلها طوال الوقت، وتمنعه من مفارقة حضنها خشية أن يضيع، "غبت عنه لحظة فاختفى". لم يعد الطفل إلى حضن أمه، لمجرد ذهابه لحظات إلى حجرة أخرى. تفكر الأم ماذا لو لم أشرد عنه تلك الهنيهات القليلة؟ في شهادات ناجين من القصف يقول أحدهم: "كنا نائمين بأمان حين قصف البيت". كلمة "بأمان" تبدو بعيدة عن الواقع، ومثلها كلمة النوم، لكنّ قوة ما في الحياة تدفع دوما إلى التصديق أو التوهم بأن الأسوأ لن يحدث. في غزة، الأسوأ يحدث طوال الوقت.

أم تحتضن جثة رضيعيها. قالوا إنهما دميتان. أطلقوا حتى على الضحايا اسما ساخرا، "باليوود"، الذي يجمع بين كلمتي فلسطيني وهوليوود. الموت بوصفه حيلة إذن. 31 ألف قتيل، بينهم 12 ألف طفل على الأقلّ، هم مجرد دمى. الطفل "الحقيقي" يحمله أب إسرائيلي على أحد المعابر الإسرائيلية يشارك في حملات منع إدخال المساعدات إلى غزة. الأب في الفيديو المرصود لهذه الغاية يرفع طفله بذراعيه ويدور به في الهواء، كأنه يقول هذا الطفل حيّ يعيش لحظات سعيدة آمنة، على عكس أطفال غزة. براءة الطفولة بوصفها شماتة، أمر غير مسبوق في تاريخ الحروب، أو تاريخ القباحة.

  الأم هي البيت، البيت بوصفه حضنا أو الحضن بوصفه بيتا، ولذلك لا يكاد يخلو تعبير فني عن مأساة غزة، من أمّ وطفل أو أمّ وأطفال

جدّ فلسطيني يحتضن حفيدته، "هذه روح الروح" يقول، وهو عند هاملت شكسبير "قلب القلب"، تلك المضاعفة تشير إلى صميم ما لا تدركه اللغة بكلمة واحدة، وتمنح ملموسيّة لما يستحيل لمسه. الجدّ لا يعرف شكسبير ربما، ولا يتمتع ببلاغته، لكنه استطاع ببساطته وبراءته، بحرقة قلبه، وباحتضانه تلك الطفلة وبوصفها "روح الروح"، أن يحول الألم المطلق، إلى لحظة من النبل والسمو النادرين، ومن الدفء الأقصى. كان ذلك الاحتضان سبيل الجدّ الوحيد للتحديق في عين الفاجعة وذهوله أمامها في آن واحد. 

عناق عائلي

ماذا في عناق، في احتضان؟

Alamy 

في صورة محمد الدرة الأيقونية (30 سبتمبر 2000) يحتضن الطفل والده، يتشبث بجسده ويلوذ به. ما خلّد هذه الصورة كونها لخّصت عدة أشياء في آن واحد: القتل العلاني الذي يمارسه الاحتلال، عجز المدنيين أمام آلة القتل، لحظات الالتصاق/ الاحتضان الأخيرة بين أب وابنه. كانت تلك لحظة انفصال بقدر ما هي لحظة اتصال. في لوحته الشهيرة "عناق عائلي" (1909)، جسّد غوستاف كليمت (1862-1918) جوهر الحب العائلي: الأب والأم والطفل يصبحون جسدا واحدا متكتلا بعضه على بعض. لا موت يستطيع أن يفرق هؤلاء الثلاثة عن بعضهم.في "الأم والتوأم" (1895) أو "أم وأطفال" (1909) كما في معظم لوحات كليمت العائلية، مفارقة صارخة مع صورة الدرة، كما مع صورة الأم الفلسطينية التي تحتضن توأمها القتيل. كان كليمت قد خبر الفقد باكرا، فأراد باستمرار أن يعيد إنتاج لحظات الدفء المطلقة، كأن كلّ عناق هو لحظة ولادة والتحام جديدة، لا لحظة موت وانسلاخ.

Alamy 
رسمة لصورة محمد الدرة الأيقونية

الصور الآتية اليوم من غزة تكرّر هاتين اللحظتين، الالتحام والانسلاخ، بلا توقف. في بعض لوحات فنانين أرادوا التعبير عن حجم كارثة غزة، جامعين بين دمار المكان وموت أهله، جعلوا الأبنية المهدّمة أما تحتضن أطفالها على امتداد غزة. منحوا بذلك الأم والمكان حياة بعد الموت، أو رغم الموت. الأم هي البيت، الحضن، ولذلك لا يكاد يخلو تعبير فني عن مأساة غزة، من أم وطفل أو أم وأطفال. في لوحة "غرنيكا" امرأتان يتجه وجهاهما نحو السماء في صرخة شوهاء؛ لا نعرف هل هما ضحيتان بين مئات الضحايا، أم أنهما شاهدتان تنوحان على الضحايا الآخرين؟ لعلهما تنوحان على مصير البشرية بأسرها، ولعل صرختاهما تحاولان، شأن بقية الأجساد الممزقة والوجوه الفاجعة في اللوحة، تجسيد السواد المطلق في قلب الحرب.

Alamy 
لوحة "غيرنيكا" للرسام الإسباني بابلو رويز بيكاسو

الجسد في الحرب يفقد كرامته. في نظر من يرتكب الإبادة، يفقد الميت والحيّ معا تلك الكرامة. لا يعود للجسد، ولا حتى للروح، قيمة تذكر: "حين ترى ملايين الموتى الفاقدين أفواههم/ يعبرون أحلامك في كتائب شاحبة/ لا تتلفّظ كغيرك من البشر بكلمات المواساة الرقيقة المواساة/ فلن تكون بحاجة إلى ذكراها"، يكتب الشاعر الأسكتلندي تشارلز سورلي (1895-1915) الذي قتل بعمر العشرين خلال الحرب العالمية الأولى، موازيا بين الجسد والروح، وبين الأموات والأحياء الذين ينتظرون موتهم، فالأخيرون لاحقون بالأولين، ولا معنى للذاكرة ولا لفكرة الخلود أمام وطأة الموت الجماعي. 

 لا أعرف من يمكنه الشفاء من مشهد أمّ تعانق جثة طفلها، أو مشهد طفل يعانق جثة أمه. لا أعرف إن كانت فظاعات كهذه قابلة للنسيان

أما أهل غزة، الأطفال والنساء على وجه الخصوص، فليسوا جنودا في حرب، إنهم أهداف صيد في حقل رماية شاسع. هكذا يراهم جنود الاحتلال، سواء حين يقصفونهم من الجوّ، أو عندما يعدمونهم وهم يرفعون الرايات البيض، أو وهم مختبئون في منازلهم أو في المشافي ومدارس وخيم النزوح. ذلك الشعور القاتل بالعري التام، ممزوجا بالرعب الأقصى، يحاول الفلسطينيون دفعه عنهم بأن يحتضن بعضهم بعضا. في أحيان كثيرة الاحتضان محاولة يائسة لدفع البرد، مثلما رأينا مع الجدّ الذي يحاول تدفئة حفيدته في مقطع فيديو شهير. وفي لحظات قليلة حتى الندرة، كان العناق احتفاء – حقا – بعائد، ابن أو أب اختفى منذ بداية الحرب وكان يُظنّ أنه ميت، حتى ظهر فجأة. في مثل هذه الحالات، كان الاحتضان ولادة حقيقية، لشخصين لا لشخص واحد، فالمحتضِن هنا هو نفسه المحتضَن.

هذه الحرب ستنتهي يوما مثلما انتهت جميع الحروب قبلها. ومثل جميع الحروب ستترك ندوبا عميقة لا يمحوها الزمن. الفارق في حرب غزة، كما في إبادات أخرى، أن الندوب ليست ما سيبقى مع الناجين وحدهم، فقد حفرت وستحفر عميقا في جسد البشرية برمتها.

لا أعرف من يمكنه الشفاء من مشهد أمّ تعانق جثة طفلها، أو مشهد طفل يعانق جثة أمه. لا أعرف إن كانت فظاعات كهذه قابلة للنسيان، ولا أعرف إن كان شيئا مما جرى ويجري قابلا للغفران.

font change

مقالات ذات صلة