كيف ستكون الحرب النووية في زمننا؟

كتابان يعالجان مسألة الأسلحة النووية والإبادة العالمية التي يمكن أن تحدثها

AL MAJALLA
AL MAJALLA

كيف ستكون الحرب النووية في زمننا؟

امتلكت الولايات المتحدة الأميركية عام 1960نحو 18,000سلاح نووي، وقد وضعت وقتها خططا تفصيلية تبين كيفية استخدامها. ولو أن تلك الخطط وجدت سبيلها للتنفيذ، لكان 275 مليون شخص في الاتحاد السوفياتي قد قتلوا في الساعة الأولى من الحرب. وكان من الممكن أن يلحق بهم 325 مليونا آخرين بسبب التداعيات الإشعاعية خلال الأشهر الستة المقبلة. وحتى لو ظلت الصين خارج هذه الحرب المحتملة، فإن تداعياتها كانت ستقتل ربما 300 مليون من مواطنيها.

كتب جون روبيل، مسؤول الدفاع الأميركي الذي كان حاضرا أحد اجتماعات التخطيط النووي تلك: "خطر ببالي مؤتمر وانسي"، في إشارة إلى اجتماع النازيين في ضاحية من ضواحي برلين في يناير/ كانون الثاني 1942، وأعدوا فيه خطط الإبادة المنهجية لليهود الأوروبيين، "شعرت كأني كنت أشهد غوصا مماثلا إلى قلب الظلام العميق".

الحرب النووية: سيناريو، آني جاكوبسن

تروي آني جاكوبسن، الصحافية ومؤلفة كتب عدة في الشؤون العسكرية، في كتابها "الحرب النووية: سيناريو"، الصادر عن منشورات "داتن" (2024)، قصة روبل كمقدمة لروايتها الواقعية عن هجوم نووي افتراضي تشنه كوريا الشمالية على أميركا وما يلي ذلك من دوامة تدمر العالم. ويتميز كتابها بأنه منهجي ومليء بالحيوية في آن واحد، ومبني على أسس فنية، وفي بعض الأحيان يثير الصدمة.

تنقل جاكوبسن لنا حقيقة الحرب النووية بتفاصيل مروعة في بعض الأحيان

تقول فيه إن الأقمار الصناعية الأميركية التي تلتقط عملية إطلاق الصواريخ الكورية الشمالية، تحتوي على أجهزة استشعار "قوية للغاية حتى ليمكنها رؤية عود كبريت مشتعل يقع على بعد 200 ميل". وتستطيع الرادارات أن تعرف أن الصاروخ يتجه نحو أميركا في غضون 15 ثانية. ويلزمه أزيد قليلا من نصف ساعة حتى يصل إليها. وحالما يعلم الرئيس بالأمر، يكون أمامه ست دقائق ليتخذ قراره.

وتوضح جاكوبسن بهدوء وبرود السرعة التي يمكن بها إبادة دول بأكملها. فيمكن لغواصة روسية قبالة الساحل الغربي لأميركا، أن تطلق كامل حمولتها من الصواريخ على جميع الولايات الخمسين في وقت واحد خلال 80 ثانية. وحتى لو كانت هناك غواصة أميركية خلفها مباشرة، فلن تتمكن من إطلاق أي طوربيد في ذلك الوقت، كما بين أحد الخبراء. ويقال إن هذه الحقيقة صدمت قائد البحرية الأميركي عندما كشفت له في عام 1981. فالصواريخ التي تُطلق من مكان قريب من الساحل الأميركي تستغرق ما يزيد قليلا على سبع دقائق لتصل إلى هدفها.

gettyimages
الكاتبة آني جاكوبسن

تندرج "الحرب النووية" في تقليد طويل من الأعمال الفنية والأدبية والسينمائية التي تحذر من تأثيرها المدمر على مستقبل البشرية (الديستوبيا النووية). وقد ازدهر هذا النوع من الأفلام في ثمانينات القرن الماضي مع سلسلة من الأفلام - "اليوم التالي"، و"خيوط"، و"لعبة الحرب" (الذي أنتج قبل 20 عاما، ولكن نظر إليه في ذلك الوقت على أنه أشد عنفا وترويعا من أن يعرض). وتنعكس في كل هذه الأعمال المخاوف المعاصرة من خروج سباق التسلح عن نطاق السيطرة، وذلك في أثناء الحرب الباردة.

انحسر هذا النوع الأفلام في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين: أصبحت الأسلحة النووية أدوات من الماضي. إلا أن غزو روسيا لأوكرانيا - الدولة التي ورثت الصواريخ النووية عن الاتحاد السوفياتي عام 1991، ولكنها تخلت عنها في وقت لاحق - أعادها مباشرة إلى طليعة الجغرافيا السياسية والثقافة. ولننظر هنا إلى النجاح الذي حققه كريستوفر نولان في فيلمه الذي يعرض السيرة الذاتية لروبرت أوبنهايمر، أبي القنبلة الذرية، والإحياء التجاري لكتاب "بروميثيوس الأميركي"، وهو الكتاب الذي بني الفيلم عليه.

يتمتع كتاب جاكوبسن بجودة سينمائية أيضا. ففي روايتها، ينقل الرئيس على متن طائرة مروجية هاربا إلى مخبأ جبلي. ويلاحقه الجنرالات بطلباتهم للرد للانتقامي بسرعة. يقول الجنرال جون هيتن، القائد السابق للقوات النووية الأميركية: "إذا أطلق شخص ما سلاحا نوويا ضدنا، فسنرد عليه بسلاح نووي". وأخبر وليام بيري، وزير دفاع بيل كلينتون، جاكوبسن أنه "لحظة اكتشافنا أن صاروخا قادما إلينا فإننا نستعد للإطلاق... ولا ننتظر". وسيكون هدفنا "قطع رأس" كوريا الشمالية - تدمير مركز القيادة والتحكم فيها - قبل أن تتمكن من إطلاق المزيد من الصواريخ.

gettyimages
سحابة "الفطر" أو "عيش الغراب" بعد انفجار القنبلة الذرية الفرنسية خلال اختبار نووي فوق جزيرة مرجانية موروروا، المعروفة أيضًا باسم أوبوني، عام1971

تنقل جاكوبسن لنا حقيقة الحرب النووية بتفاصيل مروعة في بعض الأحيان. ففي السيناريو الذي تتخيله، يدمر صاروخ كوري شمالي محطة الطاقة النووية في شمال لوس أنجليس، فينتشر الوقود المُنضّب في الغبار المتساقط. ويترك الضحايا الذين تعرضوا لوميض الأشعة السينية "في حالة مرعبة حيث الأوتار الممزقة المدماة والعظام المكشوفة". قنبلة أخرى تدمر العاصمة واشنطن. وتثير العواصف النارية رياحا كالأعاصير تبلغ درجة حرارتها 660 درجة مئوية، فيشوى الناس أحياء في أحشاء مبنى الكابيتول والبيت الأبيض.

تفوح من هذه الكتابة التي توثق تفاصيل نهاية العالم، رائحة مقالة "هيروشيما"، وهي مقالة مؤثرة كتبها جون هيرسي ونشرت في مجلة "نيويوركر" عام 1946.

الأمر الذي لا جدال فيه، والذي تراجع في الفهم العام على مدى السنوات الثلاثين الماضية، هو ما تخلفه الأسلحة النووية من تأثيرات ستغير العالم

القصة لا تتعلق فقط بالاستخدام النووي، بل بحرب نووية أيضا. وتبني جاكوبسن سردها على سلسلة معقدة من سوء الفهم المأسوي. فعلى الصواريخ الأميركية المتجهة إلى كوريا الشمالية أن تحلق فوق روسيا بحكم الجغرافيا. ولا يستطيع القادة الأميركيون أن يتصلوا هاتفيا بالرئيس الروسي. وتخطئ أقمار الإنذار المبكر الروسية ذات الجودة المتدنية، التي يعرف عنها أنها تخلط بين الغيوم وأعمدة الدخان، ترصد عن طريق الخطأ مئات الصواريخ المقبلة. فيهاجم الكرملين أميركا، والأخيرة ترد. وقد حددت 100"نقطة تصويب" - مصطلح للأهداف - في منطقة موسكو الكبرى وحدها.

يمكن للمرء أن يعترض على بعض التفاصيل في سيناريو جاكوبسن. فمن الصعب أن نفهم لمَ قد تخاطر كوريا الشمالية بالانتحار فجأة ودون أي مبرر. ولعل أميركا تنتهج سياسة "الإطلاق عند التحذير"، ولكن كما لاحظ ديك تشيني، وزير الدفاع ونائب الرئيس الأسبق، قائلا: "من الناحية الواقعية، لن يفعل معظم الرؤساء ذلك". وهل سينهي الزعماء الروس العالم حقا بسبب بيانات من أجهزة استشعار معيبة؟".

gettyimages
لافتة تحمل علامة تحذير من الإشعاع النووي

لكن الأمر الذي لا جدال فيه، والذي تراجع في الفهم العام على مدى السنوات الثلاثين الماضية، هو ما تخلفه الأسلحة النووية من تأثيرات ستغير العالم. فحقن كميات كبيرة من السخام في الغلاف الجوي سينتج منه انخفاض في أشعة الشمس بنسبة 70% مدة عشر سنوات. كما ستنخفض كمية الأمطار بنسبة 50%. وكتبت جاكوبسن: "بعد 10آلاف عام من الزراعة والحصاد، سيعود البشر إلى حالة الصيد وجمع الثمار".

العدّ التنازلي، سارة سكولز

غير أن البشر يواصلون نشر الأسلحة النووية وبناءها وصيانتها. في كتاب "العد التنازلي:المستقبل المظلم للأسلحة النووية" الصادر عن "بولد تايب بوكس" (2024)، تقدم سارة سكولز، وهي صحافية تعنى بالشؤون العلمية، معلومات تفصيلية عن حياة من يعملون في مجمع المختبرات النووية الأميركي الضخم، بما في ذلك مختبرات لوس ألاموس في نيو مكسيكو (حيث أشرف أوبنهايمر على اختراع وبناء أول قنبلة نووية)، ومختبرات سانديا القريبة، ومختبر لورانس ليفرمور الوطني في كاليفورنيا. وأكثر أجزاء كتابها جاذبية هي الأجزاء التي تستكشف فيها كيف يقيم هؤلاء العلماء، مثل أوبنهايمر، مصالحة بين عملهم ومبادئهم.

يبدو البعض شديدي الحماسة في شأن أهمية الردع النووي، فتراهم يخرجون رسومهم البيانية التي تظهر انخفاض عدد الوفيات الناجمة عن الحروب الكبرى بعد اختراع القنبلة النووية، وثمة في مقابل هؤلاء من له موقف ملتبس فتراه يعارض الأسلحة النووية بينما يصر على ضرورة ضمان إبقاء الأسلحة الموجودة آمنة وموثوقة. وهنالك جماعة ثالثة لديها صراع داخلي، فهؤلاء يريدون التركيز على التطبيقات المدنية لأبحاثهم. وبينهم ذلك العالم لوس ألاموس، الذي يعرب عن شعوره بالأهداف المشتركة مع دعاة نزع السلاح، ويشدد على أن هدف نزع السلاح في نهاية المطاف لا يعتبر مطلبا متطرفا.

تقدم سكولز في كتابها وجهات النظر المتنوعة لأولئك الذين يدافعون عن نزع السلاح النووي وأولئك الذين يرون أن الردع أمر حيوي

يكشف كتاب "العد التنازلي" عن تحول واضح بين الأجيال. قبل عام 1992، كانت الولايات المتحدة تحافظ على أسلحتها النووية في حالة جيدة من خلال إجراء تجارب تفجيرية. يقول روب نيلي، رئيس قسم المحاكاة والحوسبة في ليفرمور، مع مسحة ازدراء: "كان الناس يستقلون الطائرة في الصباح، وينزلون [إلى نيفادا] ويفجرون الأشياء في الصحراء. وما كانون ليشعروا بالثقة قبل أن يهزوا الأرض هزا". وفيما تصمم أميركا رأسا حربيا جديدا، W93، لأول مرة منذ عقود، فإن بعض العلماء من تلك الحقبة يشككون في إمكان القيام بذلك دون اختبار. في المقابل، يعتمد جيل نيلي على النمذجة الحاسوبية، بمساعدة أكبر أجهزة الكومبيوتر العملاقة في العالم وغيرها من المهارات التقنية، وهو يقول: "لدينا جيل جديد من المصممين القادمين"، مضيفا أنه في العالم الرقمي، "تكون المحاكاة الرقمية هي أرض الاختبار الجديدة".

gettyimages
سحابة "الفطر" أو "عيش الغراب" بعد انفجار القنبلة الذرية الفرنسية خلال اختبار نووي فوق جزيرة مرجانية موروروا، المعروفة أيضًا باسم أوبوني، عام1971

وتقدم سكولز في كتابها سردية متوازنة تجسّد وجهات النظر المتنوعة لأولئك الذين يدافعون عن نزع السلاح النووي وأولئك الذين يرون أن الردع أمر حيوي، خاصة في عالم تتوسع فيه القدرات النووية. ولا بأس من القول هنا إن ثمة قدرا كبيرا من عدم الارتياح في شأن العواقب التي قد تترتب على مثل هذه الاستراتيجيات والطبيعة الهشة للردع، حتى بين أنصار التحديث النووي. ويعبر براد روبرتس، المسؤول النووي السابق في البنتاغون ومؤلف كتاب "قضية الأسلحة النووية في القرن الحادي والعشرين"، عن ذلك بسخرية مريرة، حين يقول لسكولز: "تتغير مشاعري يوما بعد يوم: الإثنين والأربعاء والجمعة أشعر بشي، وأشعر بنقيضه أيام الثلاثاء والخميس والسبت. وبحلول يوم الأحد، أجد العزاء في مشروب".

font change

مقالات ذات صلة