الحرير وسحر الشيوعية في سيرة أنطون تابت اللبنانية

كتاب يروي "لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي"

Agence Roger Viollet, Paris
Agence Roger Viollet, Paris
فندق السان جورج في منطقة الزيتونة في بيروت، أواخر الثلاثينات

الحرير وسحر الشيوعية في سيرة أنطون تابت اللبنانية

عندما انصرف المهندس جاد تابت، وهو نقيب المهندسين في لبنان ما بين العامين 2017- 2021، إلى كتابة سيرة والده أنطون تابت (1905- 1964)، كان لبنان يغرق في خرابه الثاني الكبير، المقيم والعميم والمستمر في خروجه إلى علانية حياة اللبنانيين اليومية العامة، منذ العام 2019 على الأقل. وفي نهاية العام الماضي (2023)، نشر تابت الابن، لدى "دار رياض الريس" البيروتية، تلك السيرة في كتاب عنوانه "لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي - رحلات في الثقافة والهندسة والسياسة مع أنطون تابت ورفاقه".

خرائب النهضة والحداثة

وكان تابت الأب مهندسا بارزا ونقيبا للمهندسين في لبنان ونائبا للنقيب مرات كثيرة في خمسينات القرن العشرين وبدايات ستيناته، إلى جانب حضوره الفاعل في نهضة لبنان المعمارية، الاجتماعية والثقافية والسياسية، إبان الانتداب الفرنسي عليه (1920- 1947)، وبعد استقلاله عنه، وحتى نهاية عهد فؤاد شهاب الرئاسي (1958- 1964). وقد يكون نجله جاد ثأثر بوالده في بعض ميوله: حينما اختار دراسة الهندسة المعمارية في الجامعة الأميركية في بيروت، التي تخرج منها سنة 1969. وحينما مال إلى الأفكار والرؤية "اليسارية" الاجتماعية، الحاضرة في تظرته إلى دور الهندسة المعمارية والثقافة وإدارة الدولة في إرساء "الصالح العام".

ومن اقتفائه أثر طفولته وذكرياته في خرائب مدينة بحمدون التي دمرتها حروب لبنان (1975- 1990)، يبدأ جاد تابت رواية سيرة والده، بعدما كانت البلدة الجبلية القريبة من بيروت درة ازدهار لبنان في الاصطياف والسياحة (1950- 1975). وهي كانت موطن آل تابت منذ منتصف القرن السادس عشر، ومنها وفيها بدأ صعودهم وارتقاؤهم الاجتماعي في عهد متصرفية جبل لبنان (1864- 1914). وذلك حين ارتقت أجيال من عائلتهم العاميّة المارونية، إلى أهل مهن وصنائع محدثة، ومن ثم إلى متعلمين تعليما محدثا في مدارس وجامعات الإرساليات الأوروبية والأميركية، وأصحاب أعمال ومهن حرة حديثة. وكانت هذه كلها عِمادَ تشكُّل الفئات المتوسطة والبورجوازية في لبنان.

هذا بعض ما يكتبه جاد تابت، فيما هو يحدق في بقايا ذاك المنزل الذي بناه جده أيام نظام حكم المتصرفية

هذا ما يحاول تابت الابن، كاتب سيرة والده، أن يقتفي بعض علاماته وملامحه الدارسة في عمران بحمدون "الهجين الذي دبّ فيه الإهمال والخراب، حتى قبل أن يمر عليه الزمن". عمران شُيّدت بعض بناياته الجديدة "بعجلة بعد الحرب" الأهلية المدمرة، لكنها "تبدو كأنما وُضِعت هنا بالصدفة من دون أي نظام، وكل واحدة منها تغني على ليلاها مقاطع ترنيمة مفككة". وهذا بعض ما يكتبه جاد تابت، فيما هو يحدق في بقايا ذاك المنزل الذي بناه جده أيام نظام حكم المتصرفية في جبل لبنان (1860 – 1914). جاد، المهندس البيروتي، من جيل عائلة تابت الثالث أو الرابع، بعدما ارتقت اجتماعيا وانفكت أو خفتت قوة روابطها العائلية بفعل التعليم والأعمال المحدثة والهجرات، وتحولت مصائر أبنائها وخياراتهم إلى مصائر وخيارات شبه فردية في لبنان والمغتربات اللبنانية.

(مجموعة جاد وسامي تابت)
بيت خالد تابت، أول بيت ذي طراز حديث بني في بحمدون

يعود جاد تابت إلى بحمدون زائرا متجولا في خرائبها، فيستعيد شذرات من سيرة عائلته، حين كان جده لوالده جريس تابت حدادا متواضعا في القرية الجبلية، وربما ورث هذه الحرفة عن والده. وذلك أثناء نهضة مجتمع جبل لبنان الحديثة بفعل صناعة الحرير وتجارته المزامنتين لتوسيع التعليم الإرسالي الغربي. وهذا ما أدى إلى تحوّل ذاك المجتمع التقليدي في نمط حياته الاقتصادية والاجتماعية، إلى نمط آخر من الإنتاج والاجتماع، وبلغ عدد معامل الحرير فيه 180 معملا سنة 1912. وكان "أكبر مجمع لصناعة الحرير في جبل لبنان (قد) أقيم في بلدة القرّية" المتاخمة لبحمدون. وذلك في بداية القرن العشرين، حينما انتقل الحدّاد البحمدوني جريس تابت إلى العمل فيه مشرفا على صيانة آلاته.

حرير وتعليم

أرملة دومينيك غيران وأولادها - وكان زوجها الراحل تاجر حرير في مدينة ليون الفرنسية - هم من اشتروا معمل الحرير في القرّية وطوروه. شركة الأرملة وأولادها كانت تمتلك مصرفا للشركة في ميلانو وتورنتو وموسكو ونيويورك. وهذا يذكّر بعائلة سرسق اللبنانية الأصل التي توزّعت أعمالها وثروتها الدولية منذ نهاية القرن التاسع عشر بين بيروت والقاهرة واسطنبول والبندقية.

أما أبناء الحدّاد العامي جريس تابت، المنتقل إلى العمل في مصنع الأرملة غيران، فالتحق ثلاثة منهم بالعمل فيه "وأرسلتهم إدارته إلى ليون ليكسبوا مبادئ التجارة والمحاسبة". هذا فيما التحق ثلاثة آخرون منهم، أصغرهم أنطون وشقيقتاه، "بالمدرسة الابتدائية التي كانت أنشأتها راهبات المحبة" الإرسالية في بلدة القرّية.

قبل أن تشتري شركة غيران معمل الحرير في القرّية، كان قد أنشأه سنة 1810 رجلا أعمال فرنسيان، وسجّلاه باسم خالد تابت البحمدوني، لأن السلطات العثمانية كانت تمنع تسجيل ممتلكاتٍ في أرجاء أمبراطوريتها بأسماء أجانب. وهكذا أصبح خالد تابت "شريكا" في المعمل، "واكتسب لقب بك من السلطنة العثمانية، وبنى في بحمدون أول بيت حديث الطراز (...) كُسيت أرضه بالبلاط الإيطالي". وقد تكون القرابة بين البيك الجديد وجريس تابت الحدّاد العامي، أدت إلى تشغيل الأخير ميكانيكي آلات في معمل الحرير، وإلى ارتقائه الاجتماعي. ومن ملامح ذاك الارتقاء، إلى تعليم أبنائه وعملهم المحدثين، تطويره منزل العائلة الذي يقف حفيده جاد تابت أمام خرائبه يتذكر بحزن ذاك الماضي المندثر في خرائب بحمدون، حيث "يتراءى في ذهني كل شيء كالسراب"، يكتب الحفيد في سيرة والده.

(مجموعة جاد وسامي تابت)
أنطون تابت

بعد تجواله في خرائب بحمدون وكتابته الفصول الأولى من سيرة عائلته، و330 صفحة روى فيها فصولا من نهضة لبنان الحديثة ومساهمة والده فيها، يختتم جاد تابت كتابه بجولته في خرائب وسط مدينة بيروت في منتصف تسعينات القرن العشرين. فيكتب أن والدته ماري تابت "لم تعد تتحمل العيش" في منزل الأسرة البيروتي، لأنه يذكّرها "بغياب شريك حياتها، فتنازلت عن إيجاره لصديقتها جانين ربيز التي حوّلته إلى مركز ثقافي أسمته دار الفن والأدب (...) في بيروت بداية السبعينات".

   ينطوي سرد جاد تابت سيرة والده "الرسمية" على أمانة دؤوبة لنظرته، وربما لنظرة والده "اليسارية" إلى "باريس وسويسرا الشرق"

لكن السنتين الأوليين من حروب لبنان وخرابه الأول الكبير (1975- 1990) صدّعت ذاك "البيت البيروتي القديم" الذي كانت تسكنه أسرة أنطون تابت. و"قيل إن (مالكه) أوعز إلى مسلحين إشعال النار فيه"، كي يحرّر منه الأرض المشيد عليها، "لإقامة مشروع تجاري كبير" في مكانه. و"بعد إطلاق ورشة" إعادة إعمار وسط بيروت في منتصف التسعينات، زار جاد تابت محلة الناصرة، حيث كان منزل أسرته، فإذا "شجرات البلح (قد) قُطعت، وغطت الأعشاب البرية ركام الحجارة المحطمة، ولم يبق من غرف البيت سوى جدار حجري واحد نبتت عليه شجرة ياسمين". وينهي الكاتب، زائر الركام، سيرة أكثر من 50 سنة من نهوض لبنان بالعبارة التالية: "إنه الحائط الذي كان يستند إليه سرير والدي، ينتصب وحيدا وسط الخراب".

لبنان "سويسرا الشرق"

بين جولته في خرائب بحمدون، وجولته الأخرى في خرائب بيروت، يروي جاد تابت سيرة والده، كواحدٍ ممن "بلغوا سن الشباب بعد الحرب العالمية الأولى، وشهدوا انقلاب العالم الذي كانوا يعيشون فيه رأسا على عقب: باتت بيروت عاصمة الدولة (اللبنانية) الجديدة، تؤدي دورا (متناميا...) ومركز أعمال يصل دولتي لبنان وسوريا بالعالم. فاختفت تدريجيا المدينة العثمانية، وتقلصت أنماط الحياة التقليدية فيها، وشهد المجتمع اللبناني تحولات كبرى (في) أنماط السلوك والممارسات الاستهلاكية (وفي) تطوير النشاطات السياحية والترفيهية وافتتاح المقاهي والمطاعم والمسارح ودور السينما. ولم تكن السلطات الفرنسية بعيدة عن هذه التحولات، إذ عملت على تشجيع انتشار أساليب الحياة الغربية، وعمدت إلى تنظيم أماكن الترفيه والإشراف عليها، وأطلقت شعار تحويل بيروت إلى باريس الشرق"، وتحويل لبنان "سويسرا الشرق".

غلاف الكتاب

ينطوي سرد جاد تابت سيرة والده "الرسمية" على أمانة دؤوبة لنظرته، وربما لنظرة والده "اليسارية" إلى "باريس وسويسرا الشرق"، أي بيروت ولبنان في طورهما الحديث والمعاصر. والنظرة "اليسارية" المقيمة على حالها منذ نشأتها، يمكن اختصارها بأنها تردّ العالم ومجتمعاته وتاريخه إلى صراع طبقي مستمر بين معسكرين: معسكر أهل الضعف والمغلوبين، ومعسكر أهل القوة والغلبة. وليس من حادثة ولا من تحولات ومصائر عامة، جزئية أو تفصيلية، إلا وتندرج في هذا الصراع الكبير والعريض، صنيعة هيمنة المعسكر الرأسمالي والاستعماري الغربي، منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى (1914- 1918). وما حدث ويحدث في الديار اللبنانية والعربية مذذاك وحتى اليوم، يستحيل فهمه وتفسيره إلا بردّه إلى تلك الهيمنة المشؤومة.

فوفق هذه النظرة "اليسارية"، يعدّ دخول لبنان في العالم الحديث - منذ ازدهار صناعة الحرير والاستثمارات الفرنسية فيها بجبل لبنان وبيروت، ووفادة البعثات التبشيرية الدينية والتعليمية الغربية إليهما، وخصوصا بعد الحروب الأهلية - الطائفية في مجتمع جبل لبنان (1840- 1860) – السبب الرئيس في رسم دور لبنان ومصيره المشؤومين. وحتى إعادة إعمار وسط بيروت ولبنان في تسعينات القرن العشرين ما بعد حروبه الأهلية - الإقليمية (1975- 1990)، لم تكن غايتها سوى إعادة إلحاقه بالمعسكر الرأسمالي الغربي المهيمن في شكله الجديد: النيوليبيرالية. أما ما عدا ذلك فتفاصيل صغيرة ونافلة، تندرج كلها في تلك الغاية مهما تنوعت أشكالها وألوانها.

الشيوعية والسوريالية

ربما كانت هذه النظرة إلى العالم على قدر وافر من الوجاهة لدى أنطون تابت وبعض من أبناء جيله الذي عاش تمرده الشبابي "المعولم"، بعد الحرب العالمية الأولى، وانتصار الثورة البلشفية في روسيا (1917) وقيام الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشيوعي والاشتراكي المناوئ للمعسكر الرأسمالي والليبيرالي الغربي. وربما ظلت تلك النظرة حاضرة وفاعلة حتى "ربيع براغ" الذي سحلته الدبابات السوفياتية الروسية سنة 1968، بعد سحلها "ربيع وارسو" أيضا.

 عالم ما بين الحربين العالميتين، حتى عقد الستينات، اجتمع وتمازج وطغى فيه سحران عالميان شبابيان وثقافيان لا راد لهما للتمرد 

وكان الروائي التشيكي البراغي ميلان كونديرا (1929- 2023)، الذي صار فرنسيا باريسيا بعد فراره من بلاده ومدينته براغ سنة 1975، قد كرّس نتاجه الروائي كله تقريبا للكشف عن حقائق تلك النظرة "اليسارية". وجاء كشفه ذاك تهكميا ساخرا في مأسويته العبثية، في معظم رواياته. وذلك بعدما أسكرته في شبابه البراغي "شيوعية اليسار العالمي أو المعولم"، وأسكرت سواه من الأجيال الشابة والشعراء والمثقفين في العالم كله تقريبا طوال 50 سنة، بل أذهلتهم عن أنفسهم ووجودهم، وصوّرت لهم العالم وحوادثه تصويرا حلميا بسيطا، كما في أحلام يقظة سعيدة آسرة كأنها الحقيقة الوحيدة المطلقة. هذا فيما هي تطلق طاقاتهم كلها وتعبئهم تعبئة سحرية شاملة للانخراط في ما سماه كونديرا "مسيرة غنائية الشباب العالمية الكبرى". وهي مسيرة لم ينج منها فيلسوف الوجودية الفرنسي جان بول سارتر، ولا شعراء فرنسا الكبار أمثال بول إيلوار ولويس أراغون، وسواهما من اقطاب السوريالية وفي طليعتهم أندره بروتون.

(مجموعة جاد وسامي تابت)
وفد جمعية الصداقة اللبنانية السوفياتية أمام تمثال الإمبراطورة كاترين الثانية في ليننغراد

والحق أن عالم ما بين الحربين العالميتين، حتى عقد الستينات، اجتمع وتمازج وطغى فيه سحران عالميان شبابيان وثقافيان لا راد لهما للتمرد الشبابي والثقافي: سحر التمرد اليساري والشيوعي، وسحر التمرد الفني السوريالي. لكن ذاك التمرد الكبير كانت أوروبا مهده ومنطلق إشعاعه في أرجاء العالم، فيما كانت أوروبا تعيش بعد الحرب العالمية الأولى توسعها الاستعماري وتهوضها القومي الكاسحين.

ريادة جامعتي الإرساليات

في مطلع العشرينات التقى أنطون تابت الفتى والطالب بمدرسة الرهبان اليسوعيين في حي الجميزة البيروتي، زميله أنطون موراني "الشغوف بالأدب والشعر الفرنسيين" ومؤسس نادٍ مدرسي لأمثاله بغية "اكتشاف التيارات الحديثة في الأدب والفن". وتعرّف تابت وموراني بشاب يكبرهما بسنوات يدعى نعمة إدة، فأمنوا للنادي مقرا لـ"قراءة القصائد وإعداد المسرحيات". وفي جامعة القديس يوسف اليسوعية التي صار الثلاثة طلابا فيها، التقوا طالب الحقوق جورج شحادة. ونسجا على منوال رواية الفرنسي ألكسندر دوما "الفرسان الثلاثة"، سمى الأربعة أنفسهم "مجموعة الفرسان"، كناية عن شغفهم بالثقافة الفرنكوفونية وآدابها في جامعةٍ كانت رائدة هذه الثقافة في المشرق منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وهذا في موازاة ومنافسة الجامعة الأميركية في رأس بيروت، الإنجيلية أو البروتستانتية، والأنكلوساكسونية الثقافة واللغة. وكانت الجامعتان معقل الحداثة والتحديث في المشرق، ورائدتي نهضة بيروت الثقافية والاجتماعية، إلى جانب اقتصاد الحرير الذي ربطها مع جبل لبنان بالأسواق التجارية والمالية الأوروبية، والفرنسية منها على وجه الخصوص.

وإذا كانت الجامعة الأميركية البيروتية قد خرّجت نخبا عربية تصدّرت المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي في بلدان عربية عدة، فإن الجامعة اليسوعية البيروتية، هي التي خرّجت النخب اللبنانية الحديثة، والمسيحية المارونية على وجه التخصيص. وإذا كانت كلية الحقوق اليسوعية قد خرّجت معظم من تصدّروا المشهد السياسي ومناصبه الجديدة في الدولة اللبنانية منذ بدايات الانتداب الفرنسي، فإن كلية الهندسة اليسوعية خرّجت 214 مهندسا بين العامين 1922 و1940، فالتحق - حسب جاد تابت - أكثر من نصفهم بالعمل في الإدارات الرسمية اللبنانية وفي البلديات.

(مجموعة جاد وسامي تابت)
غلاف العدد الأول لمجلة "الطريق" الصادرة في 20 يناير 1941

وربما لا يمكن فهم الدور الذي تصدرته مدينة بيروت ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر حتى نشوب الحروب الأهلية الملبننة سنة 1975، من دون تقصي الدور البارز الذي تصدّرته في المدينة وفي لبنان والمشرق العربي الجامعتان الأميركية واليسوعية. فالأولى كانت جنسيات طلابها تتجاوز الخمسين، معظمهم من الطلاب العرب واللبنانيين من أبناء الفئات الميسورة والنخبوية. أما الثانية – اليسوعية - فكان طلابها من أبناء الفئات نفسها، لكن معظمهم من اللبنانيين المسيحيين والموارنة: 54 في المئة منهم لبنانيون، و27 في المئة سوريون، و19 في المئة من الأجانب، معظمهم فرنسيون، حسب إحصاءات جاد تابت.

الفرسان الأربعة

كانت "مجموعة الفرسان الأربعة" - أنطون تابت، أنطون موراني، ونعمة إدة، ومن صار الشاعر الفرنكوفوني جورج شحادة - طلابا في الجامعة اليسوعية، ومن جيل بلغ شبابه بعد الحرب العالمية الأولى. وكانوا فرنكوفونيي الثقافة واللسان. وهم تمرّدوا على ثقافة الجيل اللبناني والفرنسي السابق عليهم، التقليدي في تذوقه الثقافي والأدبي وفي الفن التشكيلي، وفي نمط العيش والنظرة إلى الحياة والمجتمع والذات والمستقبل.

كرس جاد تابت الفصول الأساسية من كتاب سيرة والده، لاقتفاء بحثه عن "عمارة ذات بعد اجتماعي" تتلاءم مع مذهبه السياسي الحزبي

تيار التمرد هذا على التقليد، أي على عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى، كانت أصداؤه قد وصلت إلى بيروت وعواصم عربية أخرى، وخصوصا القاهرة والإسكندرية الكوزموبوليتين ما قبل الزمن الناصري (1952)، من أوروبا ومن الثقافة الفرنسية خصوصا. وهو تمرد على آداب وفنون وأفكار القرن التاسع عشر في الثقافة الفرنسية، وعلى نظرته الفنية والجمالية "الاستشراقية" والتزيينية "الإكزوتيكية إلى الطبيعة في الشرق ولبنان، وإلى الحضارات القديمة وآثارها و"أساطيرها" في فينيقيا وسوريا، ومنها أشعار لامارتين، و"الجبل الملهم"، أي جبل لبنان، في كتابات شارل قرم، وفي أشعار سعيد عقل لاحقا.

وهذا ما تمرد عليه "الفرسان الأربعة" متأثرين بالأفكار والأشعار السوريالية التي سرعان ما شهدت تحولات وسجالات بين أقطابها بتأثير تيار اللاوعي حسب الاكتشافات الفرويدية وتيار الفكر الماركسي اللذين هزّا الثقافة الأوروبية الحديثة. وذلك تحت عنوان رفض الثقافة البورجوازية ونظامها الاجتماعي، قيمها وأحكامها وذائقتها الفنية، باستدخال الأحلام والخيال لتحطيم السلطات الاجتماعية والثقافية التقليدية، ورفض الحرب. وقد تنامى هذا التمرد بقوة في الثقافة الأوروبية في زمن ما بين الحربين العالميتين، وما بعد الثانية منهما في الخمسينات. وفي ذاك الإطار حصل تقارب بين المذهب السوريالي وأعلامه في الشعر الفرنسي (لويس أراغون، بول إيلوار، وأندره بروتون) والحزب الشيوعي الفرنسي.

كان أنطون تابت يتابع دراسة الهندسة المعمارية بباريس في ذلك الوقت. وعاد منها إلى بيروت لممارسة مهنته فيها ابتداء من سنة 1928، مطلعا عن كثب على تلك التيارات الثقافية والفنية ومتأثرا بها بقوة، إلى جانب أصدقائه الثلاثة الذين كان جورج شحادة رائدهم في الكتابة الشعرية باللغة الفرنسية، وأوكل إلى صديقه تابت، حينما كان في باريس، البحث عن دار نشر فرنسية لإصدار مجموعته الشعرية الأولى لديها. وفي بيروت السنة الأخيرة من العشرينات، كان "فرسان" التمرد الثقافي الفرنكوفوني "يمارسون الكتابة التلقائية على الطريقة السوريالية". وكلف جورج نقاش، رئيس تحرير صحيفة "الأوريان" الفرنسية البيروتية، المهندس أنطون تابت تحرير صفحة أدبية في الصحيفة، فدعا جورج شحادة وأصدقاءه الآخرين إلى مشاركته في هذا العمل الجديد.

IMEC
صورة تجمع "الفرسان" في منطقة المنارة بيروت في أواخر العشرينات من القرن الماضي

لم يصدر سوى عدد واحد من "الأوريان الأدبي"، تصدرته مقالة عن الفن المعماري كتبها أنطون تابت، وأشار فيها إلى "ثورة الحجر ضد الزخرفات التي تنتقص من قوته وتماسكه"، داعيا إلى "العودة إلى حقيقة المادة"، وإلى وضع تصاميم لـ"البيوت الحديثة البيضاء التي يدخلها النور من الجهات كلها، فيلتذ المرء بممارسة الجنس فيها". ويبدو أن هذا، إلى جانب سواه من الكتابات التلقائية السوريالية، أدى إلى تلقي الصحيفة سيلا من الاحتجاجات على ما اعتُبر "كلاما فارغا يجافي الذوق السليم".

أنطون تابت شيوعيا

يرى جاد تابت أن انهيار اقتصاد الحرير في لبنان الثلاثينات، حمل سلطات الانتداب الفرنسي والنخبة اللبنانية على إيجاد بديل من ذاك الاقتصاد المنهار، فابتُكر شعار "لبنان سويسرا" الشرق للسياحة والاصطياف. وهذا ما يسمى في الأدبيات الاقتصادية والسياسية اليسارية اللبنانية "اقتصاد الخدمات وتجارة الترانزيت" في خدمة مصالح "الطبقة البورجوازية المركنتيلية".

وكانت الثلاثينات والأربعينات وصولا إلى الخمسينات، حقبة يمتزج فيها التمرد الثقافي والفني الجديد على التيارات التقليدية والمحافظة، بالتمرد السياسي اليساري الماركسي. وفيما كان أنطون تابت يضع التصاميم المعمارية لفندق "السان جورج" البيروتي - درّة "اقتصاد السياحة والخدمات" في العاصمة اللبنانية، إلى جانب وضعه تصاميم فندق "أوريان بالاس" في دمشق – وكذلك لأول معمل بيرة في لبنان، وللمبنى الجديد لمدرسة الحكمة، كان يقترب في ميوله السياسية إلى الحزب الشيوعي اللبناني - السوري الذي انتمى إليه رسميا سنة 1938.

وبسبب ميله وانتمائه هذين شهدت علاقته بأصدقائه من قدامى "الفرسان" فتورا، خصوصا بالشاعر جورج شحادة، الذي لم يفهم تحوّله من التمرد الثقافي إلى النضال السياسي الحزبي الشيوعي الذي انغمس فيه طولا وعرضا، وأسس سنة 1941 مجلة "الطريق" الشيوعية المذهب الفكري.

وكرس جاد تابت الفصول الأساسية من كتاب سيرة والده، لاقتفاء بحثه عن "عمارة ذات بعد اجتماعي" تتلاءم مع مذهبه السياسي الحزبي، فيما كان يصنع تصاميم معمارية تكرّس مقولة لبنان اقتصاد السياحة والخدمات. لذا يلاحظ تابت الإبن أن والده "لم تتسن له أية فرصة لإعداد مشاريع سكنية ذات طابع اجتماعي (...) كما كانت الحال في (...) أوروبا ذلك الوقت، باستثناء تجربته الوحيدة في المجمع السكني الصغير المخصص لموظفي شركة النفط العراقية في حيفا". لكن المعروف أن تلك الشركة كانت صنيعة مصالح أمبراطورية بريطانيا العظمى الاستعمارية والرأسمالية، حسب النظرة اليسارية. وهذا ما لا يغيب عن كاتب سيرة والده، فيكتب: "لم تغب هذه المفارقة عن ذهن المهندس الشاب الذي انخرط في النضال السياسي، مؤكدا المسؤولية الاجتماعية للثقافة الملتزمة". ويبدو أن شعار "الثقافة الملتزمة" الذي صاغه المذهب الماركسي، وبرز بقوة في العهد الستاليني، لا تزال دلالاته حيّة على حالها في فهم جاد تابت لمعنى الثقافة والالتزام الذي فقد تماما صلته بعالم اليوم.

قد يكون مفهوما انتماء أنطون تابت إلى المذهب الماركسي الشيوعي في غمرة تمرده الثقافي وفي خضم الحرب العالمية الثانية و"النضال العالمي ضد الفاشية"، وبعدها في بدايات "الحرب الباردة". ذلك أنه نضال كان ينطوي على تمرُّد يستقي مصادره من تيارات ثقافية وفنية عالمية كثيرة المصادر وتتمازج روافدها. لكن ما يصعب فهمه أن تُستعاد اليوم سيرة ذاك "النضال"، كما لو أن زمن العالم لا يزال على حاله منذ الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.

والحق أن جاد تابت اجتهد ليكتب سيرة "رسمية" أمينة، بل مطابقة تماما لنظرة والده إلى ذاته وإلى العالم، بعد مضي 60 سنة على رحيله سنة 1964. لكن ما كتبه - سوى الفصول الأولى من اقتفائه أثر سيرة عائلته القديمة في خرائب بحمدون - قد يكون أقرب إلى رسم إطار ثقافي وسياسي رسمي لسيرة والده التي لم يكتب منها سوى شذرات قليلة تتعلق بأسفاره وأفكاره وعمله المهني.

font change

مقالات ذات صلة