حرب غزة والحروب الجامعية في الولايات المتحدة

إصرار المحتجين على توقع جمع الجماهير خلف تحركاتهم قد يكون أحد أسباب فشلها

أ ف ب
أ ف ب
طلاب يشاركون في تجمع احتجاجي في جامعة جورج واشنطن في العاصمة الأميركية في 25 أبريل

حرب غزة والحروب الجامعية في الولايات المتحدة

نجح "طوفان الأقصى" وما تلاه من حفلة جنون حربية بقطاع غزة، في تدمير الكثير من المفاهيم والمؤسسات القائمة، ومنها مساحات مجردة خاصة، يبدو أن منها الجامعات، التي فشل بعضها في التصدي للكثير من التحديات الأخلاقية والسياسية، ما يفتح الباب أمام إعادة تمجيد العنف والفوضى ضمن مؤسسات وجدت في الأصل لتلعب دورا معاكسا لذلك.

المظاهرات والحروب الطلابية التي تعصف بالكثير من المؤسسات التربوية العريقة في كل من أوروبا والولايات المتحدة دليل على التخبط الذي تعيشه "المؤسسات"، بحيث ينظم بعض طلاب جامعة كولومبيا وبرنستون وهارفارد احتجاجاتهم، ويطرحون شعارات من شأنها الدفع إلى إعادة التفكير والبحث عن صياغة لدور تلك المؤسسات في عالم "ما بعد الطوفان"، خاصة إذا وجدت الرغبة في صون وإبقاء النموذج الليبرالي للتعليم وما يمثله كقيمة للبشرية.

الحاجة إلى قراءة هادئة

عبر التاريخ تحولت الجامعات من أبراج عاجية للطلاب الميسورين والعلماء الكلاسيكيين إلى واحات للحركات السياسية والأفكار "التقدمية" التي أرست التعليم كحق مكتسب لجميع البشر وبوابة عبور نحو عالم أفضل وربما أكثر عدالة. من خلال تجربتي الشخصية والمتواضعة كأحد قادة الطلاب، وكأستاذ حالي في الجامعة الأميركية في بيروت- إحدى أعرق المؤسسات التعليمية في الشرق- فإن ما نشهده حاليا من حراك في حرم الجامعات يتطلب منا قراءة هادئة واقعية، تبتعد عن وصم التحركات بأنها فورة دم شبابية حتى لو انطفأت حركتها خلال الأسابيع القادمة.

ومن المؤكد أن مشهد "قوات مكافحة الشغب" وهم يقتادون الطلاب والأساتذة مكبلين بالأصفاد أمر مرفوض لاسيما عندما يكون مثل هذا العمل رد فعل على اعتصام سلمي ضمن سياق المطالبة بوقف القتل وسفك الدماء الذي يحصل في قطاع غزة.

بطبيعة الحال، إن الاعتراض على هذا القمع لا يعطي الحق للغلاة من مؤيدي القمع أو غلاة المحتجين بفرض آرائهم، خصوصا الذين يؤمنون باستعمال العنف والتهويل لمنع أخصامهم من حرية التعبير عن أنفسهم. رغم ذلك، فإن تلك "الحروب" في حرم الجامعات هي مجرد إعادة إحياء للمظاهرات الطلابية السابقة التي شهدتها الجامعات في الجزء الثاني من منتصف القرن الماضي، ويظهر لسوء الحظ أن مصيرها بحسب سير ومضمون حركتها سيكون الضمور والفشل، كسابقاتها.

حمل راية "حزب الله"، المعروف بالقتال إلى جانب بشار الأسد في تجمع يطالب بإنهاء الإبادة الجماعية، يشبه ارتداء زي "الكو كلوكس كلان" للمطالبة بحقوق السود

العنصر الأساسي في أي احتجاج جامعي هم الطلاب، حيث يتأثر نشاطهم من حيث المبدأ بحاجتهم إلى حضور الدروس واجتياز الامتحانات. وبالتالي، فإن أي احتجاج طلابي ينظم قبل أسابيع قليلة من الامتحانات النهائية أو في فترة المراجعة محكوم عليه بالفشل، حيث يقوم معظم الطلاب، بأداء امتحاناتهم والتخرج. في حين سيأخذ آخرون عطلتهم الصيفية المنتظرة، تاركين عددا قليلا من النشطاء المتحمسين لمواجهة إدارة جامعية مستاءة تهتم فقط بوظيفتها الأساسية في التعليم، التي لا يمكن أن تستمر مع خطط الطلاب لاحتلال المباني ومضايقة من يرغبون في حضور الفصول.
في ربيع 1971 و1974، تحول حرم الجامعة الأميركية في بيروت إلى مسرح لإضرابات كبيرة ضد زيادة الأقساط، قادتها حركة طلابية مؤيدة للثورة الفلسطينية آنذاك في احتجاج ما لبث أن تحول إلى احتلال مباني الجامعة واقتحام الأمن اللبناني الحرم لإنهاء حركة استحوذ عليها اليسار الجديد وأفكاره حول الثورة المستمرة وتدمير السلطة نهائيا.
بينما يستجيب الحرم الجامعي حول العالم رفضا للإبادة الجماعية التي تُرتكب ضد المدنيين الفلسطينيين ليتحول إلى شكل من أشكال الحرب، نجد أن معظم المشاركين يتبنون الخطاب نفسه الذي كان سائدا خلال الحرب الباردة، عقيدة رأت الصراع محاطا بمواجهة لا تنتهي بين "الشمال الإمبريالي الاستعماري الأبيض" و"الجنوب العالمي"، الذي ستنتهي مشكلاته بمجرد رفع هذا "الاحتلال". ومن المفارقات، أن مثل هذه الأفكار لم تنشأ في "الجنوب العالمي"، بل وجدت انطلاقتها في مؤسسات النخبة الغربية مثل جامعة كولومبيا، حيث تطورت على مر الزمن أفكار لعديدين ومنهم الناقد الأدبي والناشط الفلسطيني- الأميركي إدوارد سعيد وثقافته حول الاستشراق، وهي أفكار تعمدت تجاهل توجيه أي نقد للأنظمة الاستبدادية مثل الاتحاد السوفياتي والصين، أو في الحرب الجارية في غزة، لإيران.

شعارات قديمة

بالمصادفة، كثير من الطلاب الذين يهتفون من أجل حرية فلسطين "من النهر إلى البحر" لا يدركون أن هذا الشعار غريب عن شعب فلسطين الذي لا يرغب في العيش في الماضي، بل في مستقبل يأملون فيه أن يحيوا بكرامة وسلام، وهو شيء لن تتمكن الاحتجاجات عبر هذه الجامعات الأميركية المرموقة من التأثير فيه بشكل إيجابي أبدا.
اجترار الشعارات القديمة وارتداء قمصان تشي غيفارا، والهتاف بدمار أميركا وإسرائيل لا يرقى إلى مستوى النشاط السياسي، كما لا يعتبر رفع راية "حزب الله" والميليشيات الإيرانية، المسؤولة ليس فقط عن قتل المواطنين الأميركيين بل أيضا عن تدمير دول المشرق العربي بما في ذلك لبنان، أمرا مقبولا. فبالإضافة إلى السذاجة وعدم الإحساس بخطورة مثل هذه الأفعال، فإنها توفر لـ"الصهاينة"، الذين يحاول هؤلاء الطلاب المحتجون محاربتهم، المزيد من الذرائع لتجريد الآخرين من إنسانيتهم وتبرير المذبحة المستمرة في غزة. حمل راية "حزب الله"، المعروف بقتل معارضيه السياسيين والقتال إلى جانب رئيس النظام السوري بشار الأسد في تجمع يطالب بالعدالة وإنهاء الإبادة الجماعية، يشبه تماما ارتداء زي "الكو كلوكس كلان" في تحرك للمطالبة بحقوق السود.
ومع ذلك، حتى عندما حذّر نورم فينكلشتاين، مؤلف الكتاب الشهير والمثير للجدل "صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال معاناة اليهود"، المتظاهرين في جامعة كولومبيا من استخدام هذا الهتاف وتجنب الانغماس في غرورهم وتذكُر ما يحاولون تحقيقه، تم تجاهل نصائحه بشكل فظ من قبل المنظمين الشباب، في حركة تشير إلى صبيانية ممزوجة بخلطة من التهور والغباء.

كثير من مشكلات العالم العربي، بما في ذلك فلسطين، تكمن في أن العرب فشلوا في تحرير العقول قبل تحرير الأرض

ربما يكون من المفيد لهؤلاء الطلاب ومرشديهم، الذين اعتنقوا السردية الشاملة لما يسمى "محور المقاومة"، أن يراقبوا الكثير من الدول التي تقبع تحت هيمنة واحتلال "الحرس الثوري الإيراني"، بدءا من لبنان وصولا إلى اليمن وإيران، ليدركوا أن الذين يدعون الدفاع عن فلسطين لم يفعلوا شيئا لحماية شعبها أو تحسين ظروفه سوى تعزيز الخطاب المعادي للسامية وتمكين التعصب اليميني داخل المعسكر الإسرائيلي المناهض للسلام. فمنذ نشأتها، استُخدمت القضية الفلسطينية من قبل الأنظمة لطمس فشلها في الحكم، بدءا من الزعيم المصري جمال عبد الناصر الذي رأى أنه من المناسب تذويب خصومه في الأسيد، أو وضع مفكرين وكتاب بعضهم تخرج في جامعات أوكسفورد وكامبريدج في معسكرات الاعتقال، بهدف عدم تشتيت الجماهير عن المسيرة نحو تحرير فلسطين. والمقارنة اليوم تجوز أيضا مع بعض السخرية، فكثير من أنصار إيران داخل النظام التعليمي الأميركي، يدينون قمع الاحتجاجات الجامعية، وهم أنفسهم يصمتون أمام احتجاجات الشبان في إيران أو وفاة مهسا أميني في سبتمبر/أيلول 2022، التي اعتقلتها "شرطة الأخلاق" الإيرانية لمجرد عدم وضعها الحجاب بشكل "مناسب"، قبل أن يتم الإعلان عن وفاتها بعد ساعات.
إذا كنا سنتجاهل هذه المعايير المزدوجة، فإن الاحتجاجات الطلابية فعليا تعمل على تشتيت الانتباه عما يجري بغزة، حيث إن الأخبار ولقطات الفيديو لاعتقال نويل ماكافي، رئيسة قسم الفلسفة بجامعة إيموري، صرفت الانتباه ببساطة عن المحنة الحقيقية وموت الأبرياء الفلسطينيين، تماما كما فعلت صور الصلوات للمتظاهرين التي أضافت الدين إلى مشكلة دنيوية بأساسها. وفي السياق نفسه، من الصعب حتى لغلاة مناصري القضية الفلسطينية فهم كيف يمكن أن تكون إزالة العلم الأميركي ورفع العلم الفلسطيني في حرم جامعة هارفارد فكرة جيدة، أو كيف يمكن أن تُظهر مثل هذه الأفعال الإخلاص لقضية نبيلة بأسلوب متعجرف مروع. بنفس طريقة الهجمة الصاروخية الإيرانية على إسرائيل قبل بضعة أسابيع والعرض الضوئي المصاحب لها التي جعلت قتل الفلسطينيين يتراجع عن المركز الأول ووجهت الأضواء نحو طهران.
ومن الواضح أن غالبية قادة الحراك ومناصريهم ينحدرون من عائلات مهاجرة، وهم بأنفسهم أميركيون من الجيل الثاني أو الثالث، ولم يعيشوا في بلدانهم الأصلية إلا ربما خلال عطلات الصيف، يتذوقون في ربوعها الحمص الذي تصنعه الجدة في المنزل، ولذلك فإنه من المثير للاهتمام ملاحظة أن الكثير من البلدان التي فرّ منها آباء هؤلاء الطلاب لا تخرج إلى الشوارع للاحتجاج من أجل فلسطين، ولا تشهد جامعاتها التحركات نفسها التي تحاول بعض الجامعات الأميركية التعامل معها. 

أ ف ب
عناصر من الشرطة يواجهون المتظاهرين المنددين بالحرب على غزة في جامعة تكساس في 24 أبريل

لا يكفي مجرد تجاهل هذا النقص في الفعالية على أنه مرتبط بالأنظمة الاستبدادية في كثير من هذه الدول. بل إن شعوب هذه الدول الفقيرة تدرك جيدا أن مثل هذه السلوكيات الشعبوية يمكن أن تضعف القضية الفلسطينية وتعزز قوة إيران، التي قوضت بشكل منهجي كل البنية التحتية للدول التي يمكن أن تدعم الفلسطينيين.
علاوة على ذلك، على عكس حياة آبائهم الماضية التي هربوا منها، ليس لدى هؤلاء المهاجرين من الجيل الثاني أو الثالث أية فكرة عما يعنيه العيش تحت حكم ديكتاتور أو الحرمان من الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية وقبل كل شيء الكرامة الإنسانية، وبالتالي لا يوجد لديهم أي قيود في المطالبة بتدمير ما يسمى النظام الاستعماري الأبيض الذي يقمعهم وهم يرتشفون قهوتهم التي تساوي راتب موظف حكومي في بلد مثل السودان.
في هذا السياق، تظل المطالبة بمزيد من مشاركة الطلاب في إدارة الجامعات والمطالبة بالتعليم المجاني للجميع قضية جديرة بالدعم، ولكن يجب أن لا تُخلط هذه المطالب مع القضية الفلسطينية، كما يجب أن لا تغفل هذه المطالب حقيقة أن الكثير من مشكلات العالم العربي، بما في ذلك فلسطين، تكمن في أن العرب أنفسهم يتحملون جزءا من المسؤولية لفشلهم في بناء دول قادرة على تحرير العقول قبل تحرير الأرض.
قبل أعوام قمت بأبحاث وكتبت عن حركة الطلاب في الجامعة الأميركية في بيروت ولبنان لتصدر في كتاب "حرم جامعي في حالة حرب: سياسة الطلاب في الجامعة الأميركية في بيروت 1967-1975"، ولست متفاجئا حقا بأن الناشطين الحاليين يقومون ببساطة بتكرار أفعال أسلافهم، التي فشلت في تحقيق الكثير من مطالبهم. في جوهرها، وضعت عملية التأطير داخل الحركة الاجتماعية التي يتبنونها أفكارا ومصطلحات وأساليب تعتبر في جوهرها نخبوية، والتي بالصدفة لا تكون مفهومة إلا لهم وليست مفهومة بالضرورة من العامة.

على أي شخص يدعي رغبته في حماية وصون إسرائيل وسكانها أن يعمل على منح الفلسطينيين حقوقهم بأي شكل

كما أن إصرار المحتجين على توقع جمع الجماهير خلف تحركاتهم قد يكون أيضا أحد أسباب فشلها وسقوطها. وبينما كان المئات يعتصمون في حرم جامعة كولومبيا، على مسافة قصيرة بالمترو إلى "يونيون سكوير"، اجتمع الآلاف من سكان نيويورك لمشاهدة رجل يرتدي قناعا برتقاليا يتناول علبة من كرات الجبن، والتي للأسف بالنسبة لهم، هي أكثر أهمية من السلام والعدالة لفلسطين.

 أ ف ب
طلاب مؤيدون للفلسطينيين يتظاهرون في جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلس في 25 ابريل

لربما السقطة الكبرى لهؤلاء "الثوار"، هي رفضهم الاعتراف بأن الجامعة، رغم تأثيرها السياسي، تبقى فقاعة محصورة بالنخبة الفكرية والأفراد الميسورين ماليا، وأن العمل السياسي في حرمها الجامعي لا يمكن أن يكون بقوة الإنتاج العلمي والمعرفي الذي تقدمه. في هذا الصدد، ساهمت آلاف المنشورات حول القضية الفلسطينية من قبل علماء مرموقين ودور نشر جامعية أكثر من أي اعتصام للطلاب أو هيئة التدريس أو احتلال لمباني الحرم الجامعي. فقد قدمت الكتب والدراسات من قبل رشيد ووليد خالدي، وإدوارد سعيد، وليلى بارسونز، وآفي شلايم، وروز ماري صايغ، وليلى فرساخ، للفلسطينيين أكثر مما قدمه قاسم سليماني، المسؤول عن قتل المدنيين والأطفال عبر سوريا والعراق، أو ما قدمته وعود الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله بالصلاة في القدس.
من ناحية أخرى، رفض معارضو الاحتجاجات، والذين يدعمون بشكل رئيس رواية الدولة الإسرائيلية للأحداث، هذه المظاهرات باعتبارها مجرد تصرفات طائشة وغير جديرة بالتأمل، لكنهم أيضا ساهموا في تفاقم الوضع السيئ أصلا. ربما يكون هؤلاء الشبان والشابات قد تصرفوا بشكل أعمى في بعض الأمور، وقد تكون الوسيلة التي اختاروها لتوصيل رسالتهم موضع تساؤل أو غير مقبولة للكثيرين، ولكن المطالبة بالسلام ووقف الدماء ليست شيئا يجب تجاهله على أنه معاداة للسامية. 
وبالتالي، يجب على أي شخص يدعي رغبته في حماية وصون إسرائيل وسكانها أن يعمل على منح الفلسطينيين حقوقهم بأي شكل أو طريقة ممكنة، سواء من خلال حل الدولة الواحدة أو الدولتين، وأن يفهم جيدا أن تأثير وقوة "حماس" والنظام الإيراني يكمنان في السماح ببقاء هذه الحقوق عالقة. مجرد اعتماد الروايات التاريخية التي يشاركها المؤيدون عبر الحدود واستخدامها في الحرب المستمرة على الشرعية وتبرير العنف لن يجلب الاستقرار لعالم أصبح مجنونا- الحرب في السودان وأوكرانيا وأي نزاع مستقبلي هو تذكير آخر بذلك الجنون.
ربما يكون من المستحيل التفاهم مع الشباب الثائر في هذه المرحلة، ولكن بمجرد أن يستقر الغبار ويتم دفن الجثث، يظل من الحكمة لهم أن ينظروا إلى الوراء نحو حركة احتجاجهم وأن يتعلموا ويمضوا قدما، ولكن حتى ذلك الحين، نصيحة يمكن قولها: احذروا من توجيهات بعض أعضاء هيئة التدريس وغيرهم من المتعطشين للدم، هؤلاء لم يتعلموا من الماضي فقط، وكذلك لا يمكن المراهنة على رؤيتهم للمستقبل.

font change

مقالات ذات صلة