غزة... والتحول الاستراتيجي في موقف بايدن

تتزايد الدلائل على التباين بينه وبين نتنياهو

روب كارتر
روب كارتر

غزة... والتحول الاستراتيجي في موقف بايدن

لندن - ركز الرئيس الأميركي جو بايدن خلال فترة ولايته في البيت الأبيض إلى حد كبير على الانسحاب من الشرق الأوسط، ولذلك يبدو من الصعب عليه أن يدرك الآن ضرورة إعادة تأكيد نفوذ أميركا في المنطقة- عسكريا ودبلوماسيا- كأولوية حاسمة. ومنذ تنصيبه عام 2021، لم يبدِ بايدن حماسا كبيرا للحفاظ على هيمنة واشنطن الطويلة الأمد في الشرق الأوسط.

وكانت مبادرته الرئيسة هي محاولة تجديد الاتفاق النووي المثير للجدل مع إيران، وهو الاتفاق الذي قاده في البداية سلفه باراك أوباما. ومع ذلك، فإن حماس بايدن لتعزيز العلاقات مع الحلفاء التقليديين في الشرق الأوسط كان فاترا بشكل ملحوظ.

وقد انعكس موقف الإدارة بوضوح في لامبالاتها تجاه اتفاقات أبراهام، التي جرى التوصل إليها خلال رئاسة دونالد ترمب، وكان أن سهلت تطبيع العلاقات بين كثير من الدول العربية وإسرائيل. في السنوات الأولى لبايدن في منصبه، كان الازدراء الذي يكنه هو ومستشاروه لترمب شديدا لدرجة أنهم نادرا ما اعترفوا بأهمية الاتفاقات، على الرغم من اعتبارها من التطورات الإيجابية الأخيرة في المنطقة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تجاهل بايدن لتلك الاتفاقات يعد أمرا مثيرا للسخرية العميقة، نظرا لحجم الوقت والجهد الذي يبذله البيت الأبيض الآن في إحياء عملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية في أعقاب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول.

إشكالية مع نتنياهو

ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في عدم اهتمام بايدن بشؤون الشرق الأوسط علاقته الإشكالية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي تولى هذا المنصب لفترة طويلة.

يعود التعارف بين بايدن البالغ من العمر 81 عاما، ونتنياهو البالغ 74 عاما، إلى أكثر من أربعة عقود، منذ أن خدم الأول في مجلس الشيوخ وعمل الأخير ضمن طاقم السفارة الإسرائيلية في واشنطن.

وكانت العلاقات بين الرجلين ودية بشكل عام، حتى عندما لا يتفقان على المسائل الجوهرية، إلا فيما ندر. وأفضل تلخيص لعلاقتهما هو الصورة التي وقعها بايدن ذات مرة لنتنياهو، والتي كُتب عليها: "بيبي، أنا أحبك. لكنني لا أتفق مع أي شيء تقوله".

فكرة انسحاب واشنطن من سوريا أثارت قلق جماعات المعارضة فيها والتي تعتمد على الدعم الأميركي

هذا وقد خرجت علاقتهما إلى دائرة الضوء بعد أن حقق بايدن طموحه الدائم في أن يصبح رئيسا، حيث أوضح الرئيس الجديد أن إحياء الاتفاق النووي الإيراني سيكون واحدة من أولوياته الرئيسة، وهي الخطوة التي استاء منها نتنياهو وأنصاره بشدة، إذ يعتبرون أن طهران تشكل تهديدا وجوديا على الدولة اليهودية.
واكتسبت العلاقة المتوترة بين الرجلين أهمية أكبر في أعقاب هجمات 7 أكتوبر، حيث اتُهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بسعيه المستمر إلى تقويض جهود إدارة بايدن لتنفيذ وقف دائم لإطلاق النار في غزة.
وفي فبراير/شباط، مع دخول الصراع المميت في إسرائيل شهره الخامس، أدى إحباط بايدن من سلوك نتنياهو إلى إطلاقه خطبة بذيئة ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بعد اتهامه بتسريب تفاصيل حساسة إلى وسائل الإعلام عن مبادرة واشنطن لوقف إطلاق النار.

تقليص التدخل؟

شهدت السنوات الأولى لإدارة بايدن أيضا فتورا في العلاقات بين واشنطن والمملكة العربية السعودية، التي كانت تعتبر على مدى عقود طويلة أحد أقرب وأهم حلفاء أميركا في المنطقة.
كان تصميم بايدن على تقليص التدخل الأميركي في المنطقة كبيرا، وحتى بعد أن شنت "حماس" هجومها المميت ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر، كانت إدارته تسعى بشكل فعال للتفاوض على انسحاب القوات الأميركية من العراق وسوريا.

أ. ف. ب
مروحية أميركية تنقل جنودا في شمال شرق سوريا في 25 مايو 2021

وفي يناير/كانون الثاني، عقد مسؤولون أميركيون الجولة الأولى من المحادثات مع الحكومة العراقية لمناقشة مستقبل القوات الأميركية وغيرها من القوات المتحالفة المتمركزة في البلاد.
ركزت تلك المناقشات على نحو 2500 جندي أميركي متمركزين في العراق والذين كانوا في الأصل جزءا من التحالف الذي تشكل عام 2014 لمحاربة تنظيم "داعش". وقد واصلت تلك القوات عملها في العراق على الرغم من تدمير ما سمي "دولة الخلافة" التي أسسها تنظيم "داعش" في مدينة الرقة السورية.
ويهدف وجود القوات الأميركية المستمر إلى التأكد من عدم عودة الأنشطة الإرهابية لتنظيم "داعش" في المنطقة، بالإضافة إلى مراقبة الجماعات الإرهابية الكثيرة التي ترعاها إيران في المنطقة.
كان هناك أيضا اقتراحات بأن إدارة بايدن تفكر في سحب القوة الأميركية المكونة من 900 جندي والمتمركزة في سوريا، حيث تشارك هذه القوة في مراقبة الأنشطة الإرهابية الإيرانية في البلاد، إلى جانب حراسة الآلاف من مقاتلي "داعش" المتمرسين في القتال والذين أسروا بعد سقوط الرقة.
وقد أكد بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بعد انطلاق الجولة الأولى من المحادثات في بغداد أن هذه المحادثات كانت تهدف إلى إنهاء التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق، حتى لو أصدر البيت الأبيض في وقت لاحق بيانا ينفي مخططاتها لسحب قواتها من سوريا.
ومن المؤكد أن الفكرة حول ما إذا كانت واشنطن تدرس جديا سحب قواتها من سوريا قد أثارت قلقا بين جماعات المعارضة السورية التي تعتمد بشكل كبير على الدعم الأميركي للبقاء على قيد الحياة.

تدرك إدارة بايدن الآن الحاجة إلى احتواء إيران

وكما علقت سنام شيركاني محمد، وهي ناشطة معارضة بارزة في مجلس سوريا الديمقراطية، على الانسحاب المقترح للقوات الأميركية، قائلة: "إذا انسحبت الولايات المتحدة من سوريا، فإن منطقتنا بأكملها ستكون في خطر. نحن نحرس حاليا أكثر من 12500 من مقاتلي داعش المتشددين الذين سوف يطلق سراحهم وإعادتهم إلى ساحات القتال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وخارجها".
وأضافت محمد: "إن الانسحاب الأميركي سيعني أيضا أن مئات الآلاف من الأقليات المضطهدة التي لعبت دورا حاسما في إنهاء الطموحات العنيفة لتنظيم داعش ستتعرض للانتقام من قبل نظام الأسد، ومن قبل الحكومة التركية المعادية للأقليات الدينية والعرقية. مما يعني استمرار اضطهاد المسيحيين والديانات الأخرى، والخسارة الكاملة للمساواة الحالية للمرأة، والتطهير العرقي للأقليات المحمية".

نقاش معقد

هذا وقد تعقد النقاش حول ما إذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها سوف يحتفظون بوجود عسكري في العراق وسوريا في وقت لاحق بسبب الهجوم الذي رعته إيران على القوات الأميركية المتمركزة في الأردن، والذي قُتل فيه ثلاثة من أفراد الخدمة الأميركية وجرح 34 آخرون.
ردت القوات الأميركية على تلك الضربة بشن موجة من الضربات ضد الميليشيات المدعومة من إيران، بما في ذلك غارة بطائرة من دون طيار في بغداد أسفرت عن مقتل أعضاء من ميليشيا "كتائب حزب الله" المدعومة من إيران- بما في ذلك قائد كبير- قيل إنه مسؤول عن تنفيذ الهجمات الأخيرة ضد القوات الأميركية.
وقد أثارت الغارة الأميركية بطائرة مسيرة رد فعل غاضبا من الحكومة العراقية، التي انتقدت الولايات المتحدة علانية للتسبب في توتر العلاقات بين البلدين، ووصفت الهجوم بأنه "اغتيال واضح المعالم" يرقى إلى مستوى انتهاك السيادة العراقية.
وجاء في بيان صادر عن مسؤول عراقي كبير أن "هذا المسار يدفع الحكومة العراقية إلى إنهاء مهمة هذا التحالف الذي أصبح عاملا لعدم الاستقرار أكثر من أي وقت مضى".
وبغض النظر عما إذا كانت القوات الأميركية ستبقى في العراق أم لا، فمن الواضح أنه في أعقاب تصاعد التوترات الأخيرة في المنطقة، تقوم واشنطن بإعادة التفكير بشكل جدي في مواقفها المستقبلية في الشرق الأوسط، وخاصة المواجهة المتفاقمة بين الولايات المتحدة وإيران.
وبعيدا عن تقديم الدعم العسكري لـ"حماس" الذي مكنها من شن هجومها المدمر ضد إسرائيل في 7 أكتوبر، فإن واشنطن تتهم طهران بدعم عدد من الجماعات المسلحة الأخرى في المنطقة، مثل المتمردين الحوثيين في اليمن المسؤولين عن استهداف الشحن في منطقة البحر الأحمر، و"حزب الله" في جنوب لبنان، الذي يواصل تهديد حدود إسرائيل الشمالية.
ومع مشاركة البيت الأبيض العميقة في الجهود الدبلوماسية لحل أزمة غزة، تدرك إدارة بايدن الآن الحاجة إلى احتواء إيران، ومنع طهران من التسبب في المزيد من الاضطرابات في المنطقة، وهو النهج الذي سيتطلب من واشنطن الحفاظ على وجود عسكري كبير لها في المنطقة في المستقبل القريب.

حرب متعددة الجبهات

يدرس المسؤولون الأميركيون خيارات لمعالجة الحرب متعددة الجبهات التي تطورت في المنطقة والتي تشمل كلا من إسرائيل وإيران وغزة بناء على ما يسميه بعض المحللين الأميركيين "مبدأ بايدن" الجديد للشرق الأوسط.
ووفقا لكاتب العمود في صحيفة "نيويورك تايمز" توماس فريدمان، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع إدارة بايدن، فإن النهج الأميركي الجديد سيكون له ثلاثة عناصر رئيسة.

تدهور الوضع الأمني في المنطقة استلزم إعادة تقييم عميقة لأهداف السياسة الأميركية

حيث يتمثل التحول الرئيس الأول في نهج واشنطن بتبني مواقف أكثر حزما بشأن قضية إيران، بما في ذلك الانتقام العسكري القوي إذا واصل وكلاؤها هجماتهم ضد الولايات المتحدة وحلفائها.

رويترز
إنزال مساعدات أميركية جوا لسكان غزة في 11 مارس

كما يوجد عنصر هام آخر يتمثل في إطلاق مبادرة دبلوماسية أميركية غير مسبوقة للترويج لإقامة دولة فلسطينية، تتضمن شكلا من أشكال الاعتراف الأميركي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة.
إن فكرة دعم إنشاء دولة فلسطينية مستقلة في الوقت الذي لا يظهر فيه صراع غزة بين إسرائيل و"حماس" أي علامة على التراجع، قد تبدو سابقة لأوانها. فمثلا، فكرة ظهور "حماس" كزعيمة لكيان فلسطيني جديد بمجرد انتهاء القتال ستكون غير مقبولة في نظر كثيرين بسبب تورطها في هجمات السابع من أكتوبر.
وتنطوي استراتيجية واشنطن على الضغط على حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للقبول بدولة فلسطينية من خلال إعادة تأكيد التزامها بحل الدولتين. علاوة على ذلك، وفقا لفريدمان، تدرس الولايات المتحدة توسيع تحالفها الأمني مع المملكة العربية السعودية بشكل كبير، مما قد يؤدي إلى تطبيع السعودية للعلاقات مع إسرائيل– وهي خطوة كانت قيد الدراسة بالفعل قبل هجمات 7 أكتوبر.

تحول استراتيجي 

يمثل هذا التحول الاستراتيجي انعكاسا صارخا عن الموقف السابق لإدارة بايدن، والذي بدا أنه يُظهر القليل من الاهتمام بالحفاظ على علاقات قوية مع الحلفاء الإقليميين الرئيسين، سوى أن تدهور الوضع الأمني في المنطقة، والذي يعود في قسم كبير منه إلى تصرفات الميليشيات المدعومة من إيران، إلى جانب التحديات المتزايدة من روسيا والصين للهيمنة التقليدية للولايات المتحدة، قد استلزم إعادة تقييم عميقة لأهداف السياسة الأميركية.
يمكن لنتائج إعادة التقييم هذه أن تغير بشكل كبير نهج الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط لسنوات مقبلة، مما يشير إلى موقف أكثر مشاركة وربما أكثر تصالحية تجاه الصراعات والتحالفات الإقليمية الطويلة الأمد.

font change

مقالات ذات صلة