"هندوتفا"... أيديولوجيا التمرد ضد الهند الحديثة

تسيطر الطبقات العليا في المجتمع الهندوسي على أجندة "هندوتفا" وتعمل على نشرها من خلال وسائل الإعلام

إدواردو رامون/المجلة
إدواردو رامون/المجلة

"هندوتفا"... أيديولوجيا التمرد ضد الهند الحديثة

بُنيت "هندوتفا"، التي تعني الهندوسية أو القومية الهندوسية، على أسس من التطرف الديني ورفض المساواة والوطنية المتطرفة والاستبداد. وتمتد جذورها بعمق إلى عصر من الضغائن التاريخية والأساطير والتصورات الخاطئة عن الهوية الوطنية والأهداف التي لا يمكن تحقيقها، والشعور المستمر بالدونية. وهي باختصار نقيض مفهوم الهند المعاصرة باعتبارها أمة تقدر التنوع، وتعتمد– وفقا لدستورها– العلمانية والديمقراطية وسيادة القانون.

وتهدف "هندوتفا" إلى استعادة عظمة الماضي الأسطوري، وتصور الهند كدولة هندوسية مهيمنة على المسرح العالمي. ولتحقيق هذا الحلم الطموح، يتعين عليها إخضاع وتشكيل سكان الدولة البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، بينهم 200 مليون مسلم، للأساطير والأوهام القومية الهندوسية.

بيد أن تفاصيل العصر الذهبي الذي تسعى إلى استعادته ليست واضحة بما فيه الكفاية، مقارنة بوضوح وصراحة الظلم الذي يحيق بالمسلمين في الهند. لكن أنصار "هندوتفا" ماهرون في تعديل وتغيير أهدافهم استجابة للمشهد المتغير للسياسة العالمية.

تسيطر الطبقات العليا في المجتمع الهندوسي على أجندة "هندوتفا" في الغالب، وتعمل على نشرها من خلال وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة نخب رجال الأعمال. وبسبب العداء تجاه المسلمين والرفض الصارم للديانات التوحيدية مثل الإسلام والمسيحية، فإن جاذبية "هندوتفا" ذات طبيعة شعبوية إلى حد كبير. إن استراتيجيتها المتمثلة في إبعاد أتباع الديانات الإبراهيمية وشيطنتهم أمر بالغ الأهمية لاستمرارها، مما يمكن الطبقة الكهنوتية من البراهمة من تأكيد سيطرتها على الطوائف الأخرى وعلى الداليت، الذين يشغلون أدنى درجات التسلسل الهرمي المجتمعي وتم تهميشهم تاريخيا باعتبارهم "منبوذين".

"هندوتفا" كفكرة سياسية

لقد كان المجتمع الهندي معقدا على الدوام. وتجلى ذلك التعقيد في فترات تاريخية مختلفة بما في ذلك قرون الهيمنة الإسلامية وعصر الإمبراطورية المغولية من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، ثم ما يقرب من قرنين من الزمان تحت سيطرة "شركة الهند الشرقية" وحكم التاج البريطاني.

ويمكن إرجاع أصول القومية الهندوسية إلى النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وبعد وفاة الإمبراطور أورنغزيب، الذي حكم من 1658 إلى 1707، وكان من أقوى الحكام المسلمين، وسيطر على أجزاء واسعة من جنوب شرق وجنوب غرب الهند، بدأت الإمبراطورية المغولية القوية في التراجع، وحدث فراغ في السلطة أدى إلى مطالبة الكثير من القادة المحليين وأمراء الحرب بالاستقلال الذاتي من خلال نظام اللامركزية التي تلت ذلك.

على مدى قرن من الزمان، شكلت منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" أحد أركان القومية الهندوسية. ويُترجم اسم المنظمة في اللغة الإنكليزية بـ"المنظمة الوطنية للمتطوعين"

وشهدت تلك الفترة أيضا صعود "شركة الهند الشرقية" البريطانية، التي عززت هيمنتها في المنطقة، ولا سيما بعد هزيمة سراج الدولة، حاكم البنغال، في معركة بلاسي عام 1757، بسبب خيانة مير جعفر قائد قوات البنغال الذي انحاز إلى الشركة. وأصبحت تكتيكات التوسع والسيطرة العدوانية للشركة في نهاية المطاف غير مستدامة، ما أدى إلى استياء واسع النطاق بين الهنود، سواء من الهندوس أو المسلمين. وبلغ ذلك ذروته في الانتفاضة الشرسة عام 1857، والتي اندلعت جزئيا بسبب إدخال بندقية "إنفيلد"، التي تقول الرواية إن مخازن طلقاتها كانت مشحمة بشحم البقر والخنازير، وتطلبت من الجنود عضها وفتحها، مما أدى إلى إهانة الحساسيات الدينية.

واتحد الهنود في جبهة موحدة واختاروا الملك المسلم بهادور شاه ظفر كزعيم لهم. لكن ظفر كان في الثانية والثمانين من العمر ودون سلطة حقيقية. وقد أخمد البريطانيون التمرد بوحشية لا توصف، وأعادوا ترسيخ سلطتهم، بعد اعتقال آخر إمبراطور مغولي ونفيه إلى بورما. بعدها فرض التاج البريطاني حكما مباشرا على الهند، بعد أن صودرت ممتلكات "شركة الهند الشرقية" وقواتها المسلحة عام 1858.

وكانت الهند مختبرا مهما لتطبيق سياسة "فرق تسد" التي انتهجتها بريطانيا. وفي ظل الوضع السياسي الجديد، ظهرت عقيدة هندوسية شمالي الهند، هي حركة "آريا ساماج". التي أُطلقت عام 1875 على يد داياناندا ساراسفاتي، وهو براهمي من مواليد ولاية غوجارات. وأنشأت "آريا ساماج" مجالس لحماية الأبقار في البنجاب والمقاطعات المتحدة وأماكن أخرى، وأسهمت في تحريك السياسات القومية الهندوسية بشكل جدي. وجرى إثبات أهمية البقرة كقضية قومية خلال التمرد. وقد نتج عن هذه السياسة أعمال شغب كانت الأولى من نوعها في كثير من الأماكن عام 1893. ولا تزال قضية الماشية إلى يومنا هذا تتسبب في تسميم العلاقات بين الطوائف.

منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" (RSS) وانتشار "هندوتفا"

على مدى قرن من الزمان، شكلت منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" أحد أركان القومية الهندوسية. ويُترجم اسم المنظمة في اللغة الإنكليزية تقريبا بـ"المنظمة الوطنية للمتطوعين". وتدير المنظمة شبكة من الفروع والمخيمات الشعبية، تعنى بتقديم فصول تعليمية وتدريبات بدنية ذات طابع عسكري، إلى جانب جلسات اليوغا وغيرها من الأنشطة المفيدة. وفي عام 1980، تأسس حزب "بهاراتيا جاناتا"، الذي يعتبر الجناح السياسي لهذه المنظمة.

تحت حكم حزب "بهاراتيا جاناتا" الذي استمر منذ عام 2014، تمكنت منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" من توسيع نفوذها المالي والسياسي بشكل ملحوظ. وينبع نهج الحزب في السياسة الانتخابية من سلفه حزب "بهاراتيا جانا سانغ"، الذي نشأ عام 1951. وخلال فترة الاضطرابات التي شهدتها الهند بعد فرض حالة الطوارئ من قبل رئيسة الوزراء آنذاك، أنديرا غاندي، عام 1975، تشكّل تحالف سياسي جديد من أحزاب المعارضة باسم حزب "جاناتا"، الذي ضم في داخله حزب "جانا سانغ". وشكل هذا التحالف بعد فوزه في انتخابات عام 1977 أول حكومة غير تابعة لحزب "المؤتمر" في الهند المستقلة، إلا أنه لم يستطع إكمال ولايته الرسمية البالغة خمس سنوات بسبب الانقسامات الداخلية، فعاد حزب "المؤتمر" بقيادة أنديرا غاندي إلى السلطة في انتخابات عام 1980.

وركز حزب "بهاراتيا جاناتا" جهوده على تعزيز قوته بهدف إزاحة حزب "المؤتمر" عن مقاعد الحكم من خلال تعزيز أجندته الأيديولوجية الخاصة. وتُعَد منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" إحدى المؤسسات التي تعتمد على الكوادر، وتتميز بفاعليتها البارزة في جذب وتحفيز الناخبين. ورغم وصفها لنفسها بأنها منظمة "ثقافية"، فإن النقاد كثيرا ما يتهمونها بإثارة الصراع والعنف بين الهندوس والمسلمين.

تأسست منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" عام 1925، وحظرت في أعقاب اغتيال زعيم النضال من أجل حرية الهند، غاندي، عام 1948

وتضم المنظمة فروعا تعمل في مختلف القطاعات، بما في ذلك العمال والطلاب والقبائل، كما أسست وحدة باسم "مسلم راشتريا مانش" بهدف جذب المسلمين وإشراكهم في قضايا القومية الهندوسية. وبالإضافة إلى ذلك، تمتلك منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" مجموعات فعالة تنشط بين الجاليات الهندوسية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك في أميركا الشمالية وبريطانيا وأستراليا ومنطقة الخليج العربي وجنوب شرقي آسيا. وتُعَد منظمة "باغرانغ دال"، التابعة لـ"راشتريا سوايامسيفاك سانغ" والتي تأسست عام 1984، شبكة تضم مقاتلي الشوارع من خلفيات عامية بشكل رئيس. ويظهر أعضاؤها وهم يحملون الرماح والسيوف والعصي والسكاكين والبنادق خلال فعاليات الاحتجاج والاشتباكات والهجمات المتوجهة ضد المساجد والكنائس.

تأبين قاتل غاندي

تأسست منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" عام 1925، وحظرت في أعقاب اغتيال زعيم النضال من أجل حرية الهند، مهنداس كارامشاند غاندي، المعروف شعبيا باسم المهاتما غاندي، في يناير/كانون الثاني 1948. وكان ناثورام غودسي، وهو قومي هندوسي متعصب ولد في عائلة براهمانية في ولاية ماهاراشترا، قد أطلق ثلاث رصاصات على غاندي من مسافة قريبة باستخدام مسدس بيريتا. جاء غضب غودسي لأنه كان يرى أن غاندي كان تصالحيا تجاه المطالب السياسية للمسلمين قبل تقسيم الهند.

ارتبط اسم غودسي  بـ"المهاسابها" الهندوسية، ومنظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ"، لكن المنظمة تنصلت من الجريمة من خلال التأكيد على أن غودسي ترك المنظمة منتصف الثلاثينات. ومع ذلك، يثير القلق حاليا توجه كثير من المتطرفين إلى تقديس غودسي  بشكل علني واعتبار غاندي شخصا خائنا.

إدواردو رامون/غيتي/المجلة

أنتجت منظمة "ماهاسابها" الهندوسية، التي تأسست عام 1915، الكثير من المؤيدين المعروفين لـ"الهندوتفا"، منهم: ناثورام غودسي، زميل زعيم "المهاسابها" فيناياك دامودار سافاركار. ويشيد أنصار سافاركار بغودسي  باعتباره مناضلا من أجل الحرية، ويعتبرون إشارة النقاد إلى تعاونه مع البريطانيين وكتابته التماسات الرحمة للخروج من السجن في جزر أندامان ونيكوبار أمرا مهينا.

ومما لا شك فيه أن سافاركار كان يدافع عن التفوق الهندوسي والعنف ضد المسلمين. وعلى الرغم من أنه كان يعتبر نفسه ملحدا فإنه كان يراعي هويته الهندوسية بالمعنى الإقليمي والثقافي والسياسي. وكان شعاره "هندوسية السياسة وعسكرة الهندوسية". كما استلهم منظرو "الهندوتفا" أفكارا من الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني والزعيم النازي الألماني أدولف هتلر.

وقد تبنى سافاركار مواقف مختلفة عن "آريا ساماج" ومنظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" فيما يتعلق بعدم اعتبار البقرة كائنا مقدسا يستحق العبادة. بالنسبة له، لم تكن البقرة أماً بل كانت مجرد حيوان. يعتبر سافاركار، رجل التناقضات، شخصية محبوبة من قبل الكثير من أنصار اليمين المتطرف. ومؤخرا، قامت بوليوود، التي بدأت تُستخدم بشكل متزايد في الترويج لأفكار "الهندوتفا"، بإنتاج فيلم عن سيرته الذاتية.

الأمة الهندوسية" لجولوالكار

كان قرار حظر منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" الذي أصدرته الحكومة يوم 4 فبراير/شباط 1948 يهدف إلى "استئصال قوى الكراهية والعنف". ويُعتبر فالابهبهاي باتيل، وزير الداخلية في حكومة رئيس الوزراء الأول جواهر لال نهرو، والذي أُشيد به باعتباره "الرجل الحديدي" لتمكنه من دمج الولايات الأميرية (التي ظل يحكمها أمراء توارثوا السلطة) في الاتحاد الهندي، متعاطفا مع "هندوتفا"، ولكن مقتل غاندي أزعجه بشدة. وفي رسالة إلى رئيس منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ"، مادهاف ساداشيفراو جولوالكار، أشار باتيل إلى أن المنظمة كانت تنشر السم وتشجع على الكراهية، ونتيجة لذلك فقد غاندي حياته.

يُعد كتاب جولوالكار "نحن أو أمتنا المحددة" الذي نشر عام 1939 بمثابة نوع من الكتاب المقدس للناشطين القوميين الهندوس. إذ اقترح جولوالكار على المسلمين "... أن يبقوا في البلاد، خاضعين بالكامل للأمة الهندوسية، دون المطالبة بأي شيء، أو الحصول على أي امتيازات، ناهيك عن أي معاملة تفضيلية- ولا حتى حقوق المواطن".

على مدار عقود من الزمن، حاولت منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" إعادة بناء صورتها التي حطمها اغتيال غاندي

وظهر إعجابه بهتلر واضحا عندما كتب: "للحفاظ على نقاء العرق وثقافته، صدمت ألمانيا العالم بتطهيرها البلاد من الأجناس السامية- اليهود. هنا تجلى الفخر العرقي في أعلى مستوياته. كما أظهرت ألمانيا أيضا مدى استحالة استيعاب الأعراق والثقافات، التي لها اختلافات تمتد إلى الجذور، في كلٍ واحد متحد، وهذا درس جيد لنا في هندوستان لنتعلمه ونستفيد منه".

رُفع الحظر المفروض على منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" في يوليو/تموز 1949 تحت شروط متعددة، بما في ذلك ضرورة احترام الدستور الهندي والعلَم الهندي. وعلى مدار عقود من الزمن، حاولت منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" إعادة بناء صورتها التي حطمها اغتيال غاندي.

بعد ذلك، حُظرت منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" للمرة الثالثة بعد هدم مسجد بابري الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر في أيوديا يوم 6 ديسمبر/كانون الأول 1992 على يد حشد من الهندوس، إلا أن الحظر ألغي من قبل القضاء بعد فترة وجيزة. وفي يناير/كانون الثاني 2024، أعلن عن افتتاح معبد رام في موقع المسجد باعتباره انتصارا تاريخيا لـ"الهندوتفا".

وفي العقود الأخيرة اكتسبت المنظمة نفوذا كبيرا. وفي السابق، كان أعضاؤها وأنصارها يتسللون سرا إلى مختلف القطاعات مثل مؤسسات الدولة، والفضاء المؤسسي والفكري، وأجهزة إنفاذ القانون، والأجهزة الحكومية. ومنذ عام 2014، سيطر المناصرون لأجندة منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" على كل القطاعات. وبات من الصعب على أي قطاع، سواء التعليم أو الطب أو البيروقراطية أو الإعلام أو تطبيق القانون، أن يتحدى منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ".

ولرئيس الوزراء ناريندرا مودي والكثير من وزرائه خلفية مرتبطة بمنظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ". وفي الحفل الذي افتتح فيه مودي معبد رام، جلس موهان بهاجوات، رئيس منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" بجواره مباشرة. ومع ذلك، يمكن القول إن مكانة مودي كزعيم سياسي أصبحت أكبر من مكانة منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ". ويبقى السؤال هنا عما إذا كان مودي يحتاج إلى هذه المنظمة أم إن المنظمة هي التي تحتاجه أكثر؟

font change

مقالات ذات صلة