كتابان يحاولان فهم أميركا اليوم من خلال تاريخها المظلم

أسباب جاذبية السياسات اليمينية والقادة غير الليبيراليين

Getty Images
Getty Images
مؤيدون لترمب يدخلون القاعة المستديرة بمبنى الكابيتول الأميركي في 06 يناير 2021 في واشنطن العاصمة.

كتابان يحاولان فهم أميركا اليوم من خلال تاريخها المظلم

لكل بلد وطنيوه، لكن قلة منهم تشعر بالفخر كما يشعر به وطنيو أميركا. فهم يتباهون بالمثل السامية للآباء المؤسسين، ويفاخرون بقوة بلادهم الاقتصادية والعسكرية (بينما يتخيلون أن بقية العالم طماعون). وإذا ما اعترفوا بمظالم الماضي حتى، فإنهم سرعان ما يضعونها جانبا، ربما تيمنا بقول مارتن لوثر كينغ: "إن قوس العالم الأخلاقي طويل، ولكنه ينحني نحو العدالة".

بيد أن استيلاء دونالد ترمب على الحزب الجمهوري أولا ومن ثم على البيت الأبيض، أنهى هذا الابتهاج بالتاريخ عند كثير من الأميركيين. ولا يعود سبب ذلك فقط إلى أن أنصار ترمب حاولوا اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، بل إلى أن الأميركيين قد يصوتون لصالح إعادته إلى الرئاسة بعد أشهر قليلة. وفي محاولة لفهم هذا التحول نحو القومية اليمينية ومناهضة الليبيرالية، يبحث كتابان صدرا حديثا عن إجابات عليه في اللحظات الأكثر بشاعة من تاريخ البلاد.

أميركا غير الليبرالية

الكتاب الأول بعنوان "أميركا غير الليبرالية" لمؤلفه المؤرّخ الحائز جائزة بوليتزر، ستيفن هان، الذي يرى أن أميركا ومنذ أمد بعيد، كانت بلدا غير ليبرالي إلى حد كبير. ويشير إلى أن التزام البلاد المثل التي نص عليها دستورها، كان التزاما أجوف منذ البداية، وأن "الترمبية" ليست سوى الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من الإخفاقات. ويقدم الكتاب الثاني، "أميركا في المرتبة الأخيرة" بقلم جاكوب هايلبرون، رصدا تاريخيا أكثر بساطة وأكثر نجاحا، إذ يركز المؤلف على افتتان بعض المحافظين بالمستبدين الأجانب على مدار القرن الماضي.

التزام البلاد المثل التي نص عليها دستورها، كان التزاما أجوف منذ البداية، و"الترمبية" ليست سوى الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من الإخفاقات

كتاب هان هو لائحة اتهام شاملة. فهو يرى أن الأفكار غير الليبرالية "متأصلة بعمق في تاريخنا، لا على هامشه، بل في المركز، وتشبعت بها تربة حياتنا الاجتماعية والسياسية". بينما يفضل الأميركيون أن يرووا لأنفسهم قصة مؤثرة مفعمة بالدفء عن بلدهم، قصة تتخلص فيها الأمة ببطء إنما بثبات، من العبودية والفصل العنصري والتمييز الجنسي.

يرى هان أن هذا غير كاف. ويحلل باقتدار، على مدى ما يقرب من 500 صفحة، الفصول المظلمة من تاريخ البلاد. ويرى أن الخطيئة التي في أساسات أميركا هي استعباد الإنسان، التي يحميها الدستور صراحة، فضلا عن عمليات الطرد الجماعي لسكان أميركا الأصليين والمسيحيين من طائفة المورمون، والرقابة على الكلام وخنق المعارضة والموجات المتعاقبة من كراهية الأجانب التي اجتاحت السياسة الأميركية.

ميول انعزالية

في أيام الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثل، أخذت منظمة مكونة من المواطنين تسمى "رابطة الحماية الأميركية" على عاتقها، بمباركة من وزارة العدل، تحديد هوية "الفوضويين والخونة المشبوهين". بعض الأصداء التاريخية لهذه الظواهر غريبة. فالميول الانعزالية للجنة أميركا أولا، التي عارضت الدخول في الحرب العالمية الثانية، كانت صورة مسبقة لجاذبية حركة "ماغا"MAGA (شعار الرئيس السابق ترمب: Make America Great Again) المعاصرة.

ومع أن هان محق في أن المكاسب الليبرالية غالبا ما تؤدّي إلى ردود فعل عكسية، إلا أنه لم يثبت على نحو مقنع ادعاءه بأن التوجهات المعادية لليبرالية تقع قطعا في قلب التاريخ الأميركي. كما تبدو سرديته سوداوية على نحو صادم. لنتأمل وصفه المتشائم لحركة حق المرأة في التصويت: "مع أن حق المرأة في التصويت، وبعد قرن من النضال تقريبا، أقر في جميع أنحاء البلاد عام  1920أخيرا مع التعديل التاسع عشر، فقد بقيت الحقوق السياسية للنساء السود موضع تجاهل، كما أثبت معدل مشاركة النساء البيض أنه ليس أفضل مما هو عند الرجال البيض".

ويحمل الكتاب عددا من هذه الأمثلة. فصياغة الدستور - وهي وثيقة ثورية على الرغم من عيوبها – تجاوزها هان سريعا حتى يتمكن من الكتابة عن المعارضين المناهضين للفيدرالية. وبدلا من أن يسهب في الحديث عن تعديلات حقبة إعادة الإعمار التي أدخلت على الدستور بعد الحرب الأهلية، والتي حظرت العبودية وضمنت للأميركيين من أصل أفريقي حق التصويت، يركز هان على بند استثنائي أباح تشغيل المدانين. كما حظيت حركة الحقوق المدنية بتركيز أقل بكثير من تركيزه على جهود البيض لمقاومتها. وهذه هي السردية التي يظهر فيها جورج والاس، حاكم ولاية ألاباما الديماغوجي المؤيد للفصل العنصري، أثقل حضورا من حضور قادة الحقوق المدنية كمارتن لوثر كينغ.

أما عندما يصل سرد هان إلى الزمن الراهن، فإنه يغدو هذرا مفككا. فهو يشير إلى أن النيوليبرالية (وهو مصطلح غامض يستخدم بلا تحديد) مكنت من نشوء نزعة يمينية مناهضة لليبرالية، أحد تنويعاتها هي "الترمبية"، وهذا بالضبط هو الأمر الذي لا يوضح لنا كيف حدث. وقد أتى على ذكر هذه المظالم: السجون الخاصة وقوات الشرطة الشبيهة بالجيش وظهور عمالقة التكنولوجيا الذين "لا مصلحة لهم في الحقوق الشخصية ولا مسألة السيادة التي تدعي المجتمعات الليبرالية أنها تقوم عليها". ويبدو أن هذه الأمور لا تضيف دليلا كافيا يدعم اتهامه الجسور لليبرالية الأميركية.

أميركا أخيرا

أما رحلة هايلبرون في تاريخ البلاد، التي عرضها في كتابه، "أميركا أخيرا"، فهي أكثر وضوحا وتمضي إلى هدفها مباشرة. وهو يهدف إلى تتبع "الافتتان - ما يمكن تسميته بالمخيلة غير الليبرالية - الذي استمر تأثيره أكثر من قرن من الزمان على الطرف اليميني من الطيف السياسي". وتمضي الجولة بتسلسل زمني عبر العديد من حالات من الشغف بالأنظمة الاستبدادية، بدءا من القيصر فيلهلم الثاني، إمبراطور ألمانيا الأخير، وصولا إلى بينيتو موسوليني وأدولف هتلر وفرانشيسكو فرانكو وأوغستو بينوشيه وجوناس سافيمبي. وكان من بين المعجبين الأميركيين بهم هنري فورد، وهو رجل صناعة ومعاد للسامية، وتشارلز ليندبيرغ، وهو طيار وتميمة الانعزالية لاحقا، وكلاهما قبلا جوائز من النظام النازي.

يحظى بوتين بالثناء من الدوائر المحافظة في الولايات المتحدة لموقفه من القيم المسيحية التقليدية ومعارضته حقوق المثليين

لا يؤكد الكتاب أن الاستبداد أمر متأصل في اليمين الأميركي، فكثير ممن ينتمون إلى اليسار قدموا الأعذار لشخصيات بغيضة مثل جوزيف ستالين وبول بوت وماو تسي تونغ. لكنه يشير بدلا من ذلك إلى أن المستبدين الأجانب قادرون على خطف إعجاب المحافظين الأميركيين السذج إذا قدموا أنفسهم على أن لديهم الأعداء المناسبين. في البداية كانت الشيوعية ثم الإرهاب، والآن العولمة وصعود ما يسمّى "اليقظة"woke العالمية.

وهذا يساعدنا على تفسير التعلّق المرضي لليمين القومي بالقادة الأجانب هذه الأيام. "اليوم، القائد المجري القوي الذي يروج للفكر العرقي القومي الشعبوي كبديل من أيديولوجيا عموم أوروبا... هو أحدث موضوع تتجه إليه عبادة الديكتاتور عند اليمين" كما يكتب هايلبرون عن فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري الاستبدادي الذي يعده أنصار ترمب محلّ تبجيل عندهم.

يساعد هذا الإطار على تفسير الولاءات الخارجية الحالية لليمين القومي، بما في ذلك التملق لفيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري الاستبدادي، الذي يصفه هايلبرون بأنه يروج لأيديولوجيا قومية عرقية في جميع أنحاء أوروبا، مما يجعله رمزا حديثا يقدسه الديكتاتور اليميني، وكذلك يفعل "الترمبيون" المتطرفون. وبالمثل، يحظى فلاديمير بوتين بالثناء من الدوائر المحافظة في الولايات المتحدة لموقفه من القيم المسيحية التقليدية ومعارضته حقوق المثليين، ومن بين هؤلاء برزت شخصيات مثل الصحافي الشهير تاكر كارلسون والنائبة في الكونغرس مارجوري تايلور غرين، وكلاهما يدعم بوتين علانية على الرغم من سياساته العدوانية، مثل غزو أوكرانيا.

مع ذلك، يترك كتاب "أميركا أخيرا" سؤالا حاسما دون إجابة، مما يولد الإحباط لدى القارئ: كيف تحول هذا الفصيل المعجب بالمستبد من الهامش السياسي ليصبح قوة سائدة داخل التيار المحافظ الأميركي؟ تظل هذه القضية التي لم يتم حلها ملحة بشكل خاص مع اقتراب الولايات المتحدة من انتخابات لا يستبعد أن يستعيد فيها دونالد ترمب، المعروف بإعجابه بالقادة المستبدين مثل كيم جونغ أون، وفلاديمير بوتين، وشي جين بينغ، سدة الرئاسة.

font change

مقالات ذات صلة