في العاشر من مارس/آذار الماضي، توصلت "قسد" ودمشق، إلى اتفاق مفاجئ مثّل نهاية رمزية لسوريا المجزأة، التي شهدت انقساما على أسس عرقية وطائفية، طوال قرابة أربعة عشر عاما من الصراع الأهلي. نص الاتفاق على دمج شمال شرقي سوريا، الذي يخضع لسيطرة الأكراد، في المشهدين السياسي والأمني السوريين، حيث تُدمج "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) رسميا ضمن القوات المسلحة السورية.
ورغم أن هذا الاتفاق يُعد إنجازا تاريخيا، وخطوة أساسية نحو توحيد سوريا، عقب السقوط السريع لنظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فإن ما يطرحه من تساؤلات، يفوق ما يقدمه من إجابات. فمن المفترض أن يُطلق هذا الاتفاق، عملية تتضمن إنشاء عدد من اللجان، التي تتولى مهمة التنسيق بين "قسد" ودمشق، لوضع تفاصيل دمج قوات الأمن والنظم السياسية، بالإضافة إلى تقاسم السيطرة على مواقع حيوية كحقول النفط، ومراكز احتجاز مقاتلي تنظيم "داعش". ويُعد تنفيذ هذه الخطط خلال المهلة المحددة بعام واحد تحديا ضخما، لا سيما في ظل التباين الواضح في الرؤى بين الطرفين، إذ تسعى دمشق إلى استيعاب "قسد" وحلّها، فيما تسعى روج آفا، إلى الحفاظ على قدر من الحكم الذاتي ضمن الهيكل الفيدرالي الجديد.
وبينما يرى البعض في الاتفاق، خطوة محتملة نحو تحقيق الاستقرار الإقليمي، فإن تداعياته على مهمة "العزم الصلب" التي تقودها الولايات المتحدة تبقى معقدة، وقد تنذر بتهديد بيئة الأمن الهشة في شمال شرقي سوريا، بل وربما بإضعاف جهود محاربة تنظيم "داعش" على نطاق أوسع. ومن المرجح بشكل متزايد أن تنظر إدارة ترمب، التي تسعى بشدة إلى فك ارتباطها بالنزاعات في الشرق الأوسط، إلى هذا الاتفاق باعتباره ضوءا أخضر للشروع في انسحاب سريع من شمال شرقي سوريا، في ظل وجود خطط قائمة بالفعل لخفض عدد العناصر الأميركيين في البلاد إلى النصف. وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" ذكرت أمس الخميس، نقلاً عن مسؤولين أميركيين، أن الجيش الأميركي بدأ، اليوم (الخميس)، سحب مئات الجنود من شمال شرقي سوريا، ويعمل على إغلاق ثلاث من قواعده العسكرية الثماني هناك.
الاتفاق مع دمشق.. تحوّل في الولاءات؟
تُعدّ "قوات سوريا الديمقراطية"، وهي ميليشيا ذات أغلبية كردية، أحد الشركاء الرئيسين للولايات المتحدة في شمال شرقي سوريا، وقد لعبت دورا محوريا في كبح نشاط تنظيم "داعش" في المنطقة. وبدعم من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، ساهمت "قسد" في دحر "الخلافة" الإقليمية للتنظيم، وأسهمت في تحرير مدن استراتيجية مثل الرقة ودير الزور. كما أدّت قوى الشرطة التابعة لـ"مجلس سوريا الديمقراطية- الأسايش"، دورا وصائيا على مراكز احتجاز عناصر "داعش"، بدعم أميركي مباشر.
غير أن هذا التحالف، لم يكن يوما خاليا من التعقيدات، خاصة أن تركيا، العضو في "حلف شمال الأطلسي"، تعتبر القوى الكردية المنضوية تحت لواء "قسد" على ارتباط بـ"حزب العمال الكردستاني" (بي كي كي)، المصنّف كمنظمة إرهابية.
ورغم هذه التوترات، حافظت الولايات المتحدة على تعاونها مع "قسد" نظرا لأهميتها في الحرب ضد تنظيم "داعش". وبينما امتنعت إدارة ترمب إلى حد كبير عن تحديد سياسة جديدة لسوريا ما بعد الأسد، أدت وكالات دفاعية أميركية رئيسة، مثل القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)، دورا مهما في دفع المشهد الأمني الجديد نحو الأمام. فقد انخرط قائد (سنتكوم)، الجنرال باتريك رايدر، في جولة دبلوماسية مكوكية قبل اتفاق (قسد- دمشق) في 10 مارس، حيث التقى بشخصيات بارزة، بينها قائد "قسد"، الجنرال مظلوم عبدي، في مسعى لتشجيع الحوار مع دمشق، واستكشاف إمكانية التوصل إلى اتفاق. ويعكس هذا الدور الهادئ الذي أدته (سنتكوم) ومهمة "العزم الصلب" التي تقودها أميركا مدى تأثير الولايات المتحدة في سوريا ما بعد الأسد، خصوصا فيما يتعلق بإصلاح القطاع الأمني.
ومع انتقال الطرفين من نشوة توقيع الاتفاق إلى واقع تطبيقه، بدأت تظهر مخاوف من الغموض المحيط بنطاق الاتفاق وتفاصيله. ورغم تأكيد عبدي على وحدة الرؤية بين الجانبين في مسألة التوحيد العسكري، بقوله: "لا ينبغي أن يكون هناك جيشان منفصلان، بل قوة عسكرية موحدة"، فإن الشيطان يكمن في التفاصيل. فقد وافق كل من "مجلس سوريا الديمقراطية" (مسد) ودمشق، على إطلاق مفاوضات بين النظراء، تمتد لعام كامل تتناول مسائل الحوكمة، والأمن، والتعاون الاقتصادي، إلى جانب الجوانب اللوجستية والجداول الزمنية للتنفيذ. وتشمل بنود الاتفاق الأساسية، دمج مناطق سيطرة "قسد" بشكل أكبر ضمن الإطار السياسي والاقتصادي السوري العام، ما من شأنه أن يوفر لهذه المناطق الموارد والدعم اللازمين من الحكومة المركزية في دمشق.
ولا يمثل هذا الاتفاق خطوة برغماتية لـ"قسد" فحسب، بل أيضا خطوة إيجابية نحو توحيد المشهد الأمني السوري. فإن دمج الفصائل المسلحة، التي تتمتع بقدرات كبيرة وخبرة ميدانية يمكن الاستفادة منها في القوات المسلحة الجديدة، يُعد عنصرا أساسيا في بناء منظومة دولة موحدة وصحية. ومع ذلك، فإن الغموض القائم، إلى جانب احتمال انهيار المفاوضات إن لم تُحسم التفاصيل سريعا، قد يخلق ديناميكية خطرة من شأنها تعقيد مهمة "العزم الصلب" التي تقودها الولايات المتحدة في الشمال الشرقي، وتقويض جهود مكافحة تنظيم "داعش" في المنطقة.