زيارة الشرع إلى العراق... بين الرفض المطلق وتجاوز الماضي

شرخ واضح بين "العراق الرسمي"، والقوى التي تشكل نواة "الدولة العميقة"

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس السوري أحمد الشرع ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني

زيارة الشرع إلى العراق... بين الرفض المطلق وتجاوز الماضي

بينما تستعد مختلف المؤسسات السياسية والخدمية العراقية لاستضافة القمة العربية المزمع إجراؤها في 17 مايو/أيار في العاصمة بغداد، تحذر القوى السياسية والفصائل المسلحة العراقية من إمكانية مشاركة الرئيس السوري أحمد الشرع في هذه القمة، متجاوزين الدعوة الرسمية التي وجهها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للرئيس السوري، ومهددين باتخاذ "أعمال ميدانية"، ما لم يتخذ القضاء والأجهزة الأمنية إجراءات تنفيذية بحقه، في حال قدومه إلى العراق.

الجهات العراقية المناوئة لزيارة الشرع للعراق، وإن كانت تستند إلى ما تعتبره "السجل الجنائي للشرع في العراق"، بسبب انضمامه ومشاركته للفصائل الجهادية المتطرفة في العراق خلال الأعوام (2005-2011)، فإن المراقبين يعتبرون ذلك مجرد "أداة" لأمر آخر تماما، أكثر استراتيجية وحضورا في هذه "المناطحة السياسية"، وهو الاستراتيجية الإيرانية الساعية لخلق مسافة سياسية وأمنية بين العراق والنظام السياسي الجديد في سوريا، الذي تعتبره إيران مناوئا سياسيا وأمنيا لها، بسبب إطاحته بنظام الأسد، الموالي لإيران.

صراع داخلي

وجهت قوى سياسية ترفض زيارة الشرع طلبا للقضاء العراقي، لتبيان الموقف القانوني من شخص الرئيس السوري، ورد القضاء بوجود مذكرة اعتقال بحقه. كذلك رفع أكثر من خمسين برلمانيا عراقيا، جميعهم من كتل الإطار التنسيقي البرلمانية، مذكرة إلى السلطتين التنفيذية والقضائية، اطلعت "المجلة" عليها، وتضمنت اتهامات للشرع بـ"ممارسة نشاطات إرهابية واستخدام وثائق مزورة خلال فترة وجوده السابقة في العراق".

فيما دعا حزب "الدعوة الإسلامية" بزعامة نوري المالكي، أحد أبرز قيادات الائتلاف الحاكم، إلى "مراعاة خلو السجل القضائي العراقي أو الدولي من التهم أو الجنايات لمن يشترك في أعمال القمة العربية على أي مستوى من مستوياتها".

وحسم زعيم "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي موقف "الفصائل الولائية" المقربة من إيران، عبر منشور له على صفحته في منصة "إكس"، قائلا: "وجود علاقات بين البلدين الشقيقين العراق وسوريا أمر ضروري وفيه مصلحة مشتركة، لكن حضور رئيس النظام السوري الحالي إلى العراق يُعد سابقا لأوانه. من الضرورة الالتزام بقرارات القضاء العراقي واحترامها من الجميع، وذلك عملا بمبدأ الفصل بين السلطات".

زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى دولة قطر، ولقاؤه بالرئيس السوري أحمد الشرع، بحضور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ناقضت كُل ذلك السياق الذي عملت عليه قوى الإطار التنسيقي طوال الشهور الماضية، وأظهرت شرخا واضحا بين "العراق الرسمي"، والقوى التي تشكل نواة "الدولة العميقة" في البلاد.

إيران هي كلمة السرّ فيما يتعلق بهذا الصراع الذي ظهر في العراق مؤخرا

يشرح الكاتب والمراقب السياسي العراقي جبار المشهداني هذه الحالة الداخلية بالتفصيل، ويضيف في حديث مع "المجلة" قائلا: "القوى الشيعية المتصارعة داخل الإطار التنسيقي تغتنم أية فرصة لمنع إمكانية ظفر رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوادني بولاية ثانية، حيث تريد مختلف الأطراف ضمن الإطار أن يكون منصب رئيس الوزراء من حصتها بعد الانتخابات المنتظرة. لأجل ذلك، تستثمر أية خطوة سياسية لصالحها، سواء كانت داخلية وشديدة المحلية، مثل قضايا الاستثمار والإعمار والخدمات، أم خارجية استراتيجية، تحديدا علاقة العراق بجار قلق ومؤثر على المشهد الأمني والسياسي الداخلي، مثل سوريا".

ويضيف: "في البداية استغلت هذه القوى المناوئة للسوداني زيارته غير المعلنة لدولة قطر، ولقاءه بالرئيس السوري أحمد الشرع. مصنفين إياها كـ(سلوك لا يليق بالعراق). فهذه الجهات التي قبلت وأشادت بالزيارة التي قام بها رئيس المخابرات العراقية حميد الشطري إلى سوريا، بعد أيام من سقوط النظام السابق، كدفاع عن المصالح الاستراتيجية العراقية، عادت ووجهت سهامها للسوداني، متهمة إياه بالخضوع للفروض والضغوط التركية. قبالة ذلك، فإن موقف القوى الكردية العراقية إيجابي للغاية، إذ ظهر جليا أن القادة السياسيين الأكراد كانوا أوائل العراقيين الذين رحبوا بالتغيير في سوريا، والتقوا واجتمعوا بالرئيس السوري الجديد ووزير خارجيته، ودخلوا ضمن عملية تنسيق سياسي تقودها تركيا، تناغم بينهم وبين القيادة السورية الجديدة، وتوصل لاتفاقات مرضية لهما. أما الأطراف السُنية العراقية فليس لهم دور ورأي فيما يجري داخل العراق، وإن كان الإسلاميون السُنة قد رحبوا بالتغيير في سوريا، لكن الشعور العمومي في الأوساط السُنية يعتبر الحدث صراعا شيعيا داخليا، بين رئيس الحكومة وقوى الإطار التنسيقي".

يتابع المشهداني حديثه قائلا: "دون شك، إيران هي كلمة السرّ فيما يتعلق بهذا الصراع الذي ظهر في العراق مؤخرا. لأن الطرف الإيراني لا يرى المشهد وآلية الفعل سورية/عراقية فحسب، بل يسعى جاهدا لأن يوسع من مروحة أدواته السياسية في البلدان التي ما زال يسيطر عليها، ليُظهر نفسه كجهة قادرة وفاعلة في المشهد الإقليمي، خصوصا في هذه الأوقات الحرجة، التي تخوض فيها حوارا استراتيجيا مع الولايات المتحدة. فإيران تريد أن تثبت بمعنى ما أن (الهلال الشيعي) الذي كانت تهيمن وتتحكم به، ما يزال قادرا على التأثير بأكثر من دولة، وأن الولايات المتحدة يجب أن تعاملها وتتفاوض معها حسب ذلك".  

تجاوز الماضي

لم تصدر الشخصيات والجهات العراقية المؤيدة والمرحبة بزيارة الشرع أي موقف رسمي. لكن مجموعة واسعة من التعليقات السياسية الصادرة عنها، على وسائل التواصل الاجتماعي، حاولت تفنيد ما تقدمه القوى المقربة من إيران كحجج لمنع زيارة الشرع إلى العراق.

أ ف ب
عناصر من قوات الحشد الشعبي يحملون نعش أحد رفاقهم، الذي قتل في غارات جوية أميركية استهدفت مجموعات مدعومة من إيران، بغداد في 25 يناير

فهذه الجهات ترى فيما فعله الشرع سابقا "جزءا من التاريخ"، الذي تجاوزته الوقائع تماما، خصوصا وأن الشرع قد واجه تاريخه الشخصي بانتقادات ذاتية بعد شغله لمنصب الرئاسة السورية، مصنفا ما جرى معه وأنخرط فيه خلال "السنوات العراقية" بأنه كان تجربة غير ناضجة من "أيام المراهقة".

ويعتقد هذا المعسكر أن الشرع أثناء "تجربته العراقية" كان في الضفة نفسها التي يشغلها من يقودون العراق راهنا، من قادة الفصائل والميليشيات العراقية الموالية لإيران، التي كانت تتفاخر بـ"مقاومة الاحتلال الأميركي" خلال السنوات نفسها. ومع الأمور كلها، يقولون إن الشرع كان مسجونا خلال الأعوام 2005-2011، وبذا لم ينخرط في المواجهات الطائفية العنيفة في العراق خلال عامي 2007-2008، حيث نُفذت أفظع الجرائم على أساس الهوية.   

لكن الحجة الرئيسة التي يقدمها الفاعلون المرحبون بزيارة الشرع إلى العراق وفتح علاقة استراتيجية مع سوريا هي التركيز على عدم اختصاص القوى السياسية والفصائل المسلحة بكل ما يتعلق بالرؤية السياسية ونوعية العلاقات التي ينسجها العراق مع محيطه، وكل العالم. فهذا الأمر من اختصاص الحكومة الاتحادية فقط، صاحبة الشرعية ومالكة السيادة. مضيفين أن مجموع المؤسسات التي تحاول إيران تحريكها بشكل قصدي ووظيفي ومستقل في هذا الملف، مثل القضاء والفصائل المسلحة، هي محاولة لتفكيك السلطة الشرعية الوحيدة في البلاد.

الجهات نفسها المرحبة بزيارة الشرع إلى العراق، وهي بأغلبيتها "قوى سُنية عراقية"، ترى في محاولات منع الزيارة أداة لبتر أي تطور طبيعي لعلاقة البلدين، وخضوعا للرؤية الإيرانية للنظام الناشئ في سوريا، وإيغالا في استخدام الرؤى والخطابات الطائفية في العمل السياسي العام.

يعتقد البعض أن الشرع أثناء "تجربته العراقية" كان في الضفة نفسها التي يشغلها من يقودون العراق راهنا، من قادة الفصائل والميليشيات العراقية الموالية لإيران، التي كانت تتفاخر بـ"مقاومة الاحتلال الأميركي"

أجواء الثمانينات

لا يُعرف حتى الآن إن كان الرئيس السوري أحمد الشرع سيشارك في القمة العربية المزمع عقدها في بغداد أم لا، لكن مصدرا سياسيا عراقيا رفيعا كشف لـ"المجلة" وجود حظوظ كبرى أمام إمكانية اجتراح حل وسط للمسألة، عبر وساطة دولة عربية مقربة من الطرفين، يقتضي تكليف الشرع لوزير خارجيته أسعد الشيباني بالمشاركة في أعمال القمة، وشغل مقعد سوريا خلالها. فعدد من الدول العربية ربطت مستوى مشاركتها في قمة بغداد بآلية تعامل الحكومة العراقية مع اعتراف الجامعة العربية بالسلطة الجديدة كممثل شرعي للشعب السوري.

لكن المراقبين يعتقدون أن تعثر زيارة الشرع إلى العراق، تحديدا من موقع خضوع الحكومة العراقية ورئيسها لشروط وتهديدات الفصائل المسلحة، سيعني فعليا حدوث قطيعة سياسية مستدامة بين البلدين، مؤسسة على موقف قطعي من رأس الحكم في سوريا، والذي من المتوقع أن يشغل منصبه لفترة غير محددة في الأفق المنظور.

سيتفاقم الأمر فيما لو تمكنت هذه القوى السياسية العراقية من تحقيق نتائج بارزة خلال الانتخابات المزمع إجراؤها بعد أسابيع قليلة. لأن حدوث ذلك يعني إيغالا في قطع العلاقات بين الدولتين والنظامين السياسيين الحاكمين لهما؛ وبذا دخول العلاقات السورية-العراقية مرحلة طولية من الجمود، وغالبا التصارع بينهما.

يشبه الأمر ما كانت عليه العلاقات العراقية-السورية خلال عقد الثمانينات، حينما كان "العداء الشخصي" بين قطبي حزب "البعث" الحاكم للدولتين، صدام حسين وحافظ الأسد، عتبة لتوتر سياسي مستدام ساد علاقات البلدين لأكثر من عقد ونصف، تفاقمت بسببه المواجهات الأمنية والسياسية والدعائية بينهما، وصلت في أكثر من مرة لإمكانية اندلاع حرب عسكرية مباشرة على الحدود فيما بينهما.

font change