كانت هناك ثمة خشية حقيقية من أن يؤجج التصعيد الحالي للعداوة بين الهند وباكستان، حالة من عدم الاستقرار طويل الأمد في منطقة جنوب آسيا.
فتصاعد حدة المواجهة إلى هذا المستوى قبل إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب المفاجئ عن قبول الطرفين وقفا لإطلاق النار بعد وساطة بلاده دون الإفصاح عن تفاصيله، وبين دولتين نوويتين مسلحتين تسليحا كثيفا خلال أيام قليلة، كان ينذر بدخول المنطقة في حرب جديدة بين البلدين.
فعلى الرغم من الدعوات إلى ضبط النفس الصادرة عن دول نافذة، التي ترى الهند أن بعضها متعاطف مع موقفها، فإن حكومة ناريندرا مودي مضت قدما في تنفيذ ضربات صاروخية داخل الأراضي الباكستانية، وفي منطقة كشمير الخاضعة للإدارة الباكستانية خلال الأيام الماضية.
عكست الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية، التي أعلنتها الهند وباكستان في أعقاب حادثة باهالغام مباشرة، استعداد الجانبين الجلي لتصعيد المواجهة
وبدا أنه لا يوجد ما يثني الهند عن هذا المسار، على الرغم من خطر نشوب حرب شاملة مع باكستان. ويبدو أن إدارة مودي كانت واثقة، من أن المزاج العام عقب الهجوم المسلح الذي وقع في 22 أبريل/نيسان وأسفر عن مقتل 26 شخصا في منطقة باهالغام بكشمير، قد وفر فرصة سانحة لضرب باكستان.
وأطلقت القوات المسلحة الهندية على ضرباتها اسم "عملية سندور"، في إشارة إلى مسحوق الزنجفر، الذي تضعه النساء الهندوسيات المتزوجات في مفرق الشعر فوق الجبين كرمز للزواج.
مواطن هندي يعود من باكستان عبر معبر واغا الحدودي بين الهند وباكستان، في 28 أبريل
وما انفكت الهند تصرّ على تحميل باكستان المسؤولية عن هجوم باهالغام، على الرغم من نفي إسلام آباد القاطع لذلك، ورفضت النظر في اقتراح باكستان، بإجراء تحقيق دولي محايد في الحادث الذي استهدف مدينة باهالغام السياحية الخلابة، على بعد حوالي 90 كيلومترا من سريناغار، العاصمة الصيفية لجامو وكشمير.
في الأيام الفاصلة بين الهجوم والضربات الصاروخية، في السابع من مايو، انخرط مسؤولون كبار من كلا الجانبين في مساعٍ دبلوماسية، فالتقوا بمبعوثين أجانب، وأجروا محادثات هاتفية مع قادة العالم ليعرض كل منهما روايته الخاصة قبل إعلان ترمب.
وقوض التنافس المستمر بين الهند وباكستان السلامَ والأمن الإقليميين، وازداد ذلك التنافس في أعقاب التبادلات العسكرية الانتقامية في فبراير/شباط 2019 عقب تفجير بولاوما الذي أودى بحياة 40 من أفراد القوات شبه العسكرية الهندية.
لم تكد حدة تلك الأزمة تخفت في نهاية المطاف– ربما لأن أيا من البلدين، لم يكن على استعداد لتحمل مواجهة عسكرية مطولة– حتى انفجرت الجولة الحالية، من الأعمال العدائية التي من المرجح أن تولد أسبابا ومبررات وذرائع جديدة لنزاعات مستقبلية في المنطقة.
والأمر الأكيد أن خطاب كل من نيودلهي وإسلام آباد اليوم، هو بلا أدنى شك لغة الحرب خلال الأيام الماضية، عكست الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية، التي أعلنتها الهند وباكستان في أعقاب حادثة باهالغام مباشرة، استعداد الجانبين الجلي لتصعيد المواجهة.
لقد عمّقت الإجراءات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية الجديدة من حدة الضغائن المتراكمة منذ عام 2019
لقد عمّقت الإجراءات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية الجديدة من حدة الضغائن المتراكمة منذ عام 2019. لقد حدث تطوران مهمان منذ ذاك التاريخ، هما تبادل الضربات بين البلدين وإقدام الهند في أغسطس/آب 2019 على إلغاء المادة 370، وهي المادة الدستورية التي كانت تمنح ولاية جامو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة قدرا من الحكم الذاتي، وأسهم هذان العاملان في إذكاء موجة واسعة من الغضب والاستياء.
إلى ذلك، قسّمت الحكومة الهندية الولاية إلى منطقتين متحدتين هما "لاداخ" و"جامو وكشمير" تخضعان للإدارة المباشرة من نيودلهي، ما أثار مخاوف من تغييرات ديموغرافية مفروضة، ومن انتقال السيطرة على ملفات حساسة مثل الثقافة والتعليم والشؤون الإدارية إلى أطراف غير محلية.
ومنذ ذلك الحين، ظلت باكستان على موقفها الرافض بشكل قاطع لتعديلات عام 2019، ولا سيما أن كلا من الطرفين يدّعي السيادة الكاملة على الإقليم.وقد شهدت العلاقات الثنائية تدهورا حادا، تمثل في تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي، ووقف التبادل التجاري المباشر، وتقليص التفاعل الشعبي إلى الحد الأدنى. وزاد من تأزيم الوضع استمرار الخطاب العدائي في وسائل الإعلام، والمواجهات المتكررة في المحافل العامة والدبلوماسية.
وفي المقابل، تسعى الإدارة القومية الهندوسية في الهند، إلى الحفاظ على تعبئة قاعدتها الانتخابية حول أجندتها السياسية الكبرى، وهي تستخدم ورقة باكستان في كل مرة تتراجع فيها نسب التأييد للحزب الحاكم، أو تتصاعد الأزمات الداخلية.
تستخدم الحكومة السردية المناهضة لباكستان كوسيلة لقمع المعارضة داخل المجتمع المسلم الهندي، الذي لا تزال علاقته بمودي وحزب "بهاراتيا جاناتا" متوترة
انقسام أيديولوجي عميق
ويُغذّي هذا الصراعَ المستمر انقسامٌ أيديولوجي عميق: بين رؤية "أخاند بهارات" الهندوسية القومية، التي تنفي وجود باكستان وبنغلاديش كدولتين مستقلتين، ونظرية "الدولتين" الباكستانية التي ترى في المسلمين والهندوس كيانين قوميّين منفصلين جوهريا.
وقد عزز رئيس أركان الجيش الباكستاني، الجنرال سيد عاصم منير، مؤخرا هذا الموقف الأيديولوجي من خلال تأكيده علنا على نظرية الدولتين باعتبارها الأساس الجوهري لباكستان، فكان بذلك يضع شروط الاشتباك.
ويُعقّد المشهد السياسي الداخلي في الهند فرص التهدئة. فحتى في حال مغادرة حزب "بهاراتيا جاناتا" سدة الحكم، تبقى المرجعية الأيديولوجية للحزب، والمتمثلة في منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ"، قادرة على التأثير في السياسات الداخلية والخارجية، مستفيدة من نفوذها الواسع في الشارع، وحضورها الإعلامي، وتشعب شبكاتها المؤسسية. ولا تزال هذه المنظمة تدافع بلا هوادة عن رؤية "أخاند بهارات" التوسعية، وهي رؤية لا مكان فيها لباكستان.
وفي ظل مثل هذه الظروف، لن يكون تحقيق السلام بين الهند وباكستان في المستقبل القريب هدفا سهل المنال، بل ستظل منطقة جنوب آسيا على الأرجح بؤرة نووية متقلبة.
آثار الحطام لقصف مدفعي باكستاني في البلدة الرئيسية في منطقة بونش الهندية في 9 مايو
عبور "نهر السند"
سبق المواجهة العسكرية الأخيرة تدهور إضافي في العلاقات الدبلوماسية، وقطعت جميع الروابط التجارية، وحظرت وسائل الإعلام والحسابات الفردية البارزة على منصات التواصل الاجتماعي، بل إن الهند "علّقت" معاهدة مياه السند لعام 1960، التي تنظم تقاسم مياه الأنهار. وقد أدانت باكستان هذه الخطوة باعتبارها "عملا حربيا" وحذرت من أنها، باعتبارها دولة مصب، لن تسمح بانتزاع شريان حياتها.
وهكذا، اجتاز الطرفان نقطة اللاعودة– أو نهر السند، إن شئت– إذ يمكن للنزاع حول المياه أن يشعل فتيل حرب مستقبلية. إن مستوى عدم الثقة بين البلدين هش لدرجة أن أي حادث بسيط قد يستحيل سببا للحرب.
وبينما يضعف الأمل في تحسين العلاقات الثنائية، تعمل كل من الهند وباكستان على تعزيز علاقاتهما مع دول أخرى، في محاولة من كل منهما إلى إدامة عدائه تجاه الآخر عبر تحالفات خارجية. فتسوّق الهند حجم سوقها كإغراء استراتيجي لكسب الحلفاء، بينما تحاول باكستان لفت الانتباه على موقعها الجيوستراتيجي، وبالتالي اشتغل كلا البلدين بنشاط الميزات الخاصة بكل منهما. وبالطبع، ستكون لطريقة استجابة الدول الأخرى، ولا سيما في آسيا، لهذا العداء تأثير كبير على الاستقرار الإقليمي.
لقد وجدت الهند نفسها، بعيد اندلاع النزاع الأخير محل مقارنة مع باكستان من جديد، وهي ترفض أن تُرى جنبا إلى جنب مع جارتها، معتقدة أنها تجاوزت مرحلة المقارنة، على أن الجغرافيا السياسية المتغيرة للمنطقة، قد تُجبرها على تقبّل هذا الواقع المزعج.