"اجعل سوريا عظيمة مرة أخرى"... استعادة "أموية" بعد الحرب

"اجعل سوريا عظيمة مرة أخرى"

أ ف ب
أ ف ب
تجمع للسوريين احتفالا بالذكرى 14 لقيام الثورة السورية ضد الرئيس السابق بشار الاسد في 15 مارس ويبدو نصب "السيف الاموي" الى يسار الصورة

"اجعل سوريا عظيمة مرة أخرى"... استعادة "أموية" بعد الحرب

عندما وصل الرئيس أحمد الشرع إلى باريس الأسبوع الماضي لإجراء محادثات مع الرئيس إيمانويل ماكرون، استقبله حشد من السوريين منقسم إلى مجموعتين متباينتين. الأولى كانت احتجاجا متواضعا ضد الشرع، حضرته في الغالب جماعات من الأقليات، وأبقته الشرطة الفرنسية على مسافة آمنة. أما الثانية فكانت تجمعا مؤيدا أكثر حيوية وعددا، تألف بشكل أساسي من عرب سنّة، احتشدوا حول السيارة الرئاسية أثناء توجهها إلى قصر الإليزيه. إن رحلة الشرع اللافتة– من ارتباطات سابقة بتنظيمي "داعش" و"القاعدة" إلى منصب رئيس دولة مرحّب به في عواصم أوروبية– قد رسّخت صورته كقائد ناجح في نظر عموم السنّة.

الفخر السني بـالانتصار في الحرب الأهلية بسوريا يترجم إلى دعم للقائد المنتصر، مما يجعل أحمد الشرع ربما أول رئيس سوري يشعر معظم السنّة السوريين بالفخر العلني بدعمه. وفي استطلاع للرأي أجرته مجلة "ذي ايكونوميست" ونشر في الثاني من أبريل/نيسان، وشمل 1500 سوري من مختلف محافظات البلاد والمجموعات الطائفية، وجد أن 81 في المئة من السوريين يوافقون على حكم الشرع.

رويترز
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مصافحا نظيره السوري احمد الشرع في قصر الاليزيه في باريس في 7 مايو

لم يكن الشرع يحظى بشعبيته الحالية منذ وقت ليس ببعيد. فقد كان يُعتبر متطرفا للغاية، ومرتبطا ارتباطا وثيقا بالتشدد الجهادي، ما جعله غير مقبول في تيار الثورة السورية العام. كثير من الإعلاميين والمعلقين على مواقع التواصل الذين يمتدحونه اليوم ويتغنون بكاريزماه وبراعته السياسية، كانوا قد شجبوه بأقسى العبارات في السابق.

بطبيعة الحال، يجذب النجاح دائما المؤيدين إلى جانب المنتصر، وهذه الانتهازية أمر غير مفاجئ. لكنّ ثمة عاملا آخر، أكثر دقة، غالبا ما يُغفل عنه في الغرب: وهو سعي الشرع الحثيث لكسب تأييد الشارع العربي السني. الغرب ينشغل بمناقشة برغماتيته ورفع العقوبات للاستفادة من إعادة إعمار سوريا، لكنه يغفل عن سردية موازية تنمو في الداخل السوري، وتُرَوَّج بعناية لجعل الشرع بلا منازع في الشارع العربي السني: الأموية.

باستحضارها إرث الدولة الأموية التاريخية، تُضفي "هيئة تحرير الشام" شرعية عملية على مشروعها السياسي، وتُوسّع نطاق جاذبيتها بين المجتمعات السنية، متجاوزة بذلك الدوائر السلفية الضيقة

هذا المفهوم النوستالجي– الذي يروّج له مستشارو الشرع ويضخّمه المؤثرون الموالون على وسائل التواصل– يبشر سنّة سوريا بأنهم "الأمويون الجدد". 
إنها مقارنة جذابة وقوية: حكمت السلالة الأموية إمبراطورية امتدت من شمال أفريقيا إلى القوقاز وآسيا الوسطى، وعاصمتها دمشق، لمدة 89 عاما (661-750م). لاحقا، استقر الأمويون في الأندلس، وحكموا من قرطبة لمدة 275 عاما (756-1031م). عُرفوا بسلالةٍ دنيويةٍ وعملية، فقد طوّروا الهياكل الإدارية البيزنطية، محافظين على تسامحٍ نسبيٍ تجاه اليهود والمسيحيين، وقمعوا الخوارج ("داعش" عصرهم).
لقد كان الأمويون أيضا أعداء تاريخيين لعلي بن ابي طالب، رابع الخلفاء الراشدين وأقدس شخصية في المذهب الشيعي. تمرد الأمويون على الامام علي وقاتلوا ذريته، لا سيما ابنه الحسين الذي قُتل على يد "الخليفة" الأموي الثاني يزيد في كربلاء. وهذا يجعل من الأمويين رمز الشر في الفكر الشيعي. علاوة على ذلك، كان الأمويون قوميين عربا، انتهجوا سياسات تمييز منهجي ضد الفرس. في بلد عربي تخلص مؤخرا من "الاحتلال الإيراني"، يمثل الأمويون كل ما لم يكن يمثله الأسد وإيران.

 أ ف ب
سوريون يحتفلون بالذكرى 14 للثورة على الرئيس السابق بشار الاسد في ساحة الامويين في 15 مارس

لكن استخدام الأموية يتعدى ما هو طائفي. وباستحضارها إرث الدولة الأموية التاريخية، تُضفي "هيئة تحرير الشام" شرعية عملية على مشروعها السياسي، وتُوسّع نطاق جاذبيتها بين المجتمعات السنية، متجاوزة بذلك الدوائر السلفية الضيقة. وهذا يُساعدها على التحوّل من مجرد جماعة إسلامية متطرفة مسلحة إلى كيان سياسي أكثر "وطنية"، كيان يراه أنصاره قادرا على الحكم الرشيد وتحقيق إنجازات طموحة تُعلي شأن سوريا. وفي خطابٍ ألقاه في 25 فبراير/شباط، وجّه الشرع انتقادا لاذعا إلى الشيعة الذين ما زالوا يُرثون استشهاد الحسين: "فلسنا نُجيد البكاء على الأطلال، ولسنا نُجيد اللطم والعويل، بل نحن أمة العمل والجد، وإذا قلنا فعلنا".

شعار الأموية بالنسبة للسني العربي الريفي من الرقة، يشبه تماما قبعة "MAGA" الحمراء بالنسبة للطبقة العاملة البيضاء في ولاية ألاباما. ولعل ما يجعله أكثر جذبا هو وعده بعصر ذهبي جديد

الرأي السائد بين الفقهاء السنّة حول الأمويين هو أنهم كانوا مخطئين في خلافهم مع علي، وأن قتلهم للحسين كان مرفوضا وجريمة، لكن مصلحة الأمة اقتضت من المسلمين قبول قيادتهم والمضي قدما. ويتفق المؤرخون القدماء والمعاصرون على أن المصالح الدنيوية في عهد الأمويين كانت تتفوق في أغلب الأحيان على المبادئ الدينية. لم يكن اهتمامهم بالدين بقدر ما كان بالفعالية. في الواقع، اليوم أصبح مصطلح بني أمية مرادفا للسنة الذين يؤيدون الشرع وحكومته، بغض النظر عن درجة التزامهم الديني. لم يكتفِ الأمويون بالتخلي عن الورع في شؤون الدولة، بل تخلوا أيضا عن الشورى. هذا يجعلهم مرجعا تاريخيا مفيدا بشكل خاص، نظرا لأن الدولة الناشئة في سوريا ستفتقر أيضا إلى مقومات الديمقراطية، وستكون أقرب إلى شبه ملكية منها إلى جمهورية دستورية.
لا يتشارك جميع السوريين الحماس للأموية. فالأقليات الدينية تراها مرادفة للدولة الإسلامية، بينما يفسرها الأكراد كناية عن الشوفينية العربية. ويعتبرها السنة الليبراليون عقبة أمام المصالحة الوطنية والاستقرار طويل الأمد. أما بالنسبة لـ"هيئة تحرير الشام"، فهي جزء لا يتجزأ من جاذبيتها في الشارع السني، وخاصة في المناطق السنية الريفية والقبلية التي تحملت وطأة الحرب وتريد استعادة كبريائها وحصة كبيرة من دعم الدولة. 
علاوة على ذلك، فإن الفكر الأموي لا يشرح أي شيء عن كيفية حكم الشرع اليوم. لا يوجد نموذج أموي لكيفية إعادة توحيد بلد مُقسّم خرج من حرب أهلية، أو كيفية إنهاء العقوبات الدولية وجذب الاستثمارات. إن الأموية ليست برنامجا للحكم.
الأموية ليست رمزية أيديولوجية متعمقة أو معقدة- فـ"هيئة تحرير الشام" فضّلت بشكل ملحوظ المؤثرين على وسائل التواصل والإعلاميين على الكتاب والمفكرين. شعار الأموية بالنسبة للسني العربي الريفي من الرقة، يشبه تماما قبعة "MAGA" الحمراء بالنسبة للطبقة العاملة البيضاء في ولاية ألاباما. ولعل ما يجعله أكثر جذبا هو وعده بعصر ذهبي جديد، مما يمنحه صدى قويا لدى طيف واسع من السنّة في سوريا، وخاصة أولئك القادمين من البلدات الصغيرة والضواحي التي جرى تهميشها تحت حكم نظام الأسد. 
رفع راية بني أمية هو طريقتهم في الإشارة إلى أنهم الحزب الطبيعي للحكم، وأنهم الآن من يتولى السلطة، وأنهم سيجعلون سوريا عظيمة من جديد. مثل زعيمهم الجديد.. لقد وصلوا.

font change

مقالات ذات صلة