إيلي كوهين بعد 60 سنة على إعدامه... شخص واحد قد يعرف مكان دفنه

واحدة من أشهر قضايا التجسس في الوطن العربي الحديث

إيلي كوهين

إيلي كوهين بعد 60 سنة على إعدامه... شخص واحد قد يعرف مكان دفنه

في الثامن عشر من مايو/أيار 1965، أعدم الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين "شنقا حتى الموت" في ساحة المرجة وسط مدينة دمشق. بقي معلّقا بحبل المشنقة ساعات أمام أعين السوريين ووكالات الإعلام العالمية، وعلى صدره ألصق حكم الإعدام الصادر "باسم الشعب العربي في سوريا".

كان هذا الحدث زلزالا بالنسبة لنظام "البعث" الحاكم منذ عام 1963، وقد طال الكثير من رموزه وفي مقدمتهم، رئيس الدولة في حينها، الفريق أمين الحافظ. تفاخر الإعلام السوري الموجه بهذا المنجز الاستخباراتي الكبير، حتى إن بعضهم قالوا إن "دولة البعث" بالغت في قضية كوهين كثيرا، وضخمت دوره لكي تظهر للعالم– وللسوريين طبعا– أنها متيقظة ومتربصة لأي تهديد يوجه إليها، سواء كان داخليا أم خارجيا. واستخدم الحدث للنيل من سمعة أمين الحافظ، فقد اتهم بأنه كان صديقا مقربا من كوهين، وبأنه فكر جديا في تعيينه وزيرا في حكومة "البعث"، وقيل إن المعلومات التي حصل عليها كوهين أثناء إقامته في دمشق ساهمت إلى حد كبير في هزيمة الجيش السوري في حرب يونيو/حزيران 1967.

بعد أسبوع واحد على سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت إسرائيل عن عزمها العثور على رفات كوهين الذي دفن في قبر مجهول، مات كل من عرف موقعه، مثل أمين الحافظـ، وحافظ الأسد، وأحمد سويداني، ومصطفى طلاس، وغيرهم. لم تكن هذه هي المحاولة الأولى من قبل إسرائيل، ففي عام 2021، توسطت روسيا للبحث عن بقايا كوهين في مخيم اليرموك المدمّر، وبعد أيام من تولّي بشار الأسد الحكم سنة 2000، ناشدته زوجة كوهين للمساعدة في التعرف على قبره، ولكنه لم يستجب.

هناك شخص واحد من تلك المرحلة، كان متصلا بموضوع كوهين، من الممكن أن يعرف مكان دفنه، وهو سعيد جاويش، رئيس مجموعة المداهمة التي ألقت القبض عليه في 24 يناير/كانون الثاني 1965. كان جاويش عضوا في الوحدة 134 المتخصصة في مراقبة الاتصالات اللاسلكية، والتي أنشئت عام 1960، ومن الممكن أيضا أن يكون على معرفة باسم حفار القبور الذي دفنه، مع أنه من المستبعد أن يكون كوهين يرقد في التربة نفسها التي دفن فيها قبل ستة عقود، وعلى الأرجح أن رفاته نقل مرارا من يومها إلى أماكن مختلفة.

ارتبط دخوله إلى البلاد باسم رجل الأعمال الدمشقي ماجد شيخ الأرض، الذي تعرف عليه على متن باخرة متجهة من أوروبا إلى بيروت

وفي الذكرى السنوية لإعدامه، تفيد تقارير صحافية إسرائيلية بأن السوريين أبلغوا الإسرائيليين، في إطار الاتصالات غير المباشرة بين الطرفين، أنهم يسعون للعثور على رفات الجاسوس. ووفقا لتلك التقارير، فقد كانت تلك مفاجأة "مذهلة" للإسرائيليين، واعتبروها محاولة جادة لتقديم بادرة طيبة، "ما من شك في أنها ستترك أثرا بالغا على تل أبيب"، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "معاريف".

من هو إيلي كوهين؟

تعد قضية إيلي كوهين من أشهر قضايا التجسس في الوطن العربي الحديث، ولكن الجيل الجديد لم يسمع عنها إلا من مسلسل القصر الذي أنتجته شبكة "نتفليكس" الأميركية عام 2019، أو مما أشيع حوله في جلسات السوريين عبر الأجيال، وعن علاقته بقادة حزب "البعث" أثناء مدة عمله في دمشق، التي تزامنت مع الانقلاب العسكري الذي أوصلهم إلى الحكم في 8 مارس/آذار 1963. 

كان كوهين من يهود الإسكندرية، أصله من حلب التي هجرها والده سنة 1914. ولد في مصر سنة 1924 وهاجر إلى إسرائيل مع عائلته في أعقاب العدوان الثلاثي عام 1956. التحق بجهاز مخابرات الجيش الإسرائيلي، ومن ثم انضم إلى الموساد، الذي حضّره للعمل في سوريا، وأرسله إلى بوينس أيريس سنة 1961 للتغلغل في مجتمع الجالية السورية في الأرجنتين، ومنها دخل دمشق في فبراير/شباط 1962، مدعيا أنه ثري سوري مغترب يدعى كامل أمين ثابت.

الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في سوريا في ستينيات القرن الماضي

ارتبط دخوله إلى البلاد باسم رجل الأعمال الدمشقي ماجد شيخ الأرض، الذي تعرف عليه على متن باخرة متجهة من أوروبا إلى بيروت. خدع شيخ الأرض بهذا الشاب الدمث، طليق اللسان باللغة العربية، وساعده على عبور الحدود السورية–اللبنانية وعلى استئجار شقة مفروشة بشارع أبو رمانة في دمشق، تعود ملكيتها لرجل يدعى هيثم قطب، وهو موظف في بنك سوريا المركزي، ومن كبرى العائلات الدمشقية.

ولكن العلاقة بين كوهين وشيخ الأرض توقفت عند هذا الحد، لأن الأخير كان بعيدا عن الأمور العسكرية والسياسية، ولا يعلم شيئا عن النازيين المقيمين في دمشق، والذين كان رصدهم من مهام كوهين الأساسية، ومنهم الضابط الألماني الرفيع إليوس برونر، الذي دخل سوريا في زمن الوحدة مع مصر. اعتقل ماجد شيخ الأرض بعد إلقاء القبض على كوهين، ورفض عرض تهريبه من السجن لأنه بريء ولا علاقة له بهذه القضية الشائكة.

ولكن اعتقاله كان يروق للبعثيين الأوائل، لكونه من أبناء الأسر الإقطاعية التي أراد "البعث" تصفيتها ماليا وسياسيا. ويجب أن لا ننسى أن اعتقال كوهين ومن بعده ماجد شيخ الأرض جاء بعد أشهر قليلة من صدور أوسع موجة من قرارات التأميم في عهد "البعث"، في 1 يناير 1965، والتي طالت الكثير من رجال الأعمال والصناعيين الدمشقيين. نقل ماجد شيخ الأرض إلى سجن تدمر وسط الصحراء، وفيه انتحر، وقال كثيرون إنه أعدم على يد سجاني "البعث".

خُدع شيخ الأرض بهذا الشاب الدمث، طليق اللسان باللغة العربية

كوهين والمجتمع الدمشقي

رحبت الأوساط السورية بهذا المغترب الثري، على أمل أن يستثمر أمواله في وطنه الأم، واستضافته إذاعة دمشق في برنامج مخصص للمغتربين، على أنغام "طلّو أحبابنا طلوا" للمطرب اللبناني وديع الصافي. بدأ كوهين ينسج علاقات اجتماعية واسعة، مع بعض العسكريين وسيدات المجتمع، ولكنه، وعلى عكس ما أشيع عند اعتقاله، لم يدخل في طبقة دمشق المخملية لأنها لم تكن مفيدة بالنسبة له، فأزواج هؤلاء السيدات كانوا خارج دائرة صنع القرار بعد انقلاب "البعث" سنة 1963، ولا يعلمون شيئا عن الأمور السياسية والعسكرية التي جاء كوهين من أجلها.

في كتابه عن كوهين، يقول رئيس المحكمة العسكرية التي حاكمته، اللواء صلاح الدين الضللي: "كان منزل كوهين (في دمشق) بؤرة للدعارة... وكان همه الانغماس في الملذات والرحلات إلى الزبداني والغوطة (في ريف دمشق) مع الكثيرات اللواتي يروق لهن العبث والمجون. كان أسطورة في الرذيلة".

أ.ف.ب
الرئيس السوري حافظ الأسد يشرب فنجان قهوة في 27 أكتوبر 1973 بعد صلاة العشاء في الجامع الأموي بدمشق

صحيح أن كوهين تمكن من اختراق المجتمع السوري، ولكن لو عدنا إلى المحاكمة التي بثّت عبر أثير إذاعة دمشق وشاشة التلفزيون السوري، لوجدنا أن أصدقاء كوهين في سوريا كانوا من رجالات الصف الثاني والثالث فقط، لكونه تحاشى شخصيات الصف الأول، خوفا من فضح هويته. أحد هؤلاء الصغار كان صحافيا يدعى جورج سيف، الذي أعطاه بطاقة صحافية، وعرّفه على مساعد ملاح جوي في مطار دمشق يدعى إيلي ألماظ. حكم على جورج سيف بعشر سنوات من الأشغال الشاقة، وحكم على ألماظ بالسجن ستة أشهر. أما بقية الأصدقاء، فمنهم موظف في وزارة الشؤون البلدية، وآخر في وزارة السياحة، والثالث ابن صحافي من بيت الخشن، كان يريد أن يزوّج كوهين من شقيقة زوجته.  

أصدقاء كوهين في سوريا كانوا من رجالات الصف الثاني والثالث فقط، لكونه تحاشى شخصيات الصف الأول، خوفا من فضح هويته

أما عن صديقات كوهين فمعظم هؤلاء كن من البسطاء، يطمحن للتقرب من "كامل أمين ثابت" بهدف الزواج لا أكثر، لأنه طرح نفسه اجتماعيا على أنه مغترب ثري و"عازب". وجميعهن جرت تبرئتهن أمام المحكمة المخصصة.

ولكن الوصول إلى هذه المحاكمة المسجّلة يبدو متعثرا الآن، لأن القائمين على التلفزيون مسحوها قبل سنوات طويلة لأجل تسجيل خطابات حافظ الأسد. ويجب الإشارة إلى أن هذه المحكمة سجّلت في الأساس فوق الأشرطة الأولى للأعمال التلفزيونية، على حساب أعمال مؤسس الدراما السورية سليم قطايا. كان قطايا من مؤسسي التلفزيون، وقد قتله "البعث" مرتين، كانت الأولى عندما أصيب بنوبة قلبية وفارق الحياة على أثرها عندما اقتحم البعثيون مبنى التلفزيون لاعتقال بعض المتورطين في محاولة انقلابية سنة 1963، والثانية، عندما مسح "البعث" أعماله لأجل محاكمة إيلي كوهين.

من أصدقاء كوهين مثلا كان ابن أخ قائد الجيش في مرحلة الانفصال، اللواء عبد الكريم زهر الدين، قبل الإطاحة به في 8 مارس 1963. كان هذا الضابط الشاب يعمل في الجيش مع عمه، وسرح معه أيضا في زمن "البعث"، وتولى منصبا صغيرا في وزارة الشؤون القروية والبلديات، أي إنه أصبح بعيدا عن أخبار الجبهة، وتنقلات العسكريين. كان يجتمع بكوهين، إما في دار الأخير أو في مقهى الكمال، وقد اعتقل وحكم عليه بالسجن خمس سنوات.

نيتفليكس
عرضت شبكة "نيتفليكس" حلقات عن شخصية ايلي كوهين وبها بعض المغالطات التاريخية

قيل إنه أخذ كوهين في جولة على الجبهة السورية–الإسرائيلية، وبأنه أعطاه معلومات عسكرية خطيرة، ولكن كل القائمين على الجبهة أقيلوا في أعقاب انقلاب "البعث" سنة 1963، أي إن أي معلومات من الممكن أن يكون كوهين قد حصل عليها من زهر الدين في مرحلة الانفصال لم يعد لها أية قيمة بعد عام 1963.

جميع ضباط الجبهة نقلوا أو سرحوا، وتغيرت كل الحيثيات العسكرية مرارا، وحول ما أشيع عن أن هذه المعلومات ساعدت إسرائيل على هزيمة الجيش السوري في حرب عام 1967 لا صحة لها لأن قادة الجبهة وخططهم العسكرية، تغيرت في أعقاب انقلاب جديد في 23 فبراير 1966. وبما أن الفارق بين زيارة كوهين للجبهة وهزيمة الحرب كان خمس سنوات كاملة، فإن ذلك كان كفيلا بجعل أية معلومة قد حصل عليها كوهين نهاية عام 1962 لا قيمة حقيقية لها في صيف عام 1967.

العلاقة مع أمين الحافظ

أما عن علاقة كوهين برئيس الدولة أمين الحافظ، الذي قيل إنه تعرف عليه في الأرجنتين عندما كان الأخير ملحقا عسكريا في بوينس أيريس، فقد نسجت حولها قصص وأساطير كثيرة، جاء مسلسل "نتفليكس" ليعززها مع نفحة درامية قبل بضع سنوات. في شهادته على العصر في لقاء تلفزيوني عام 2001، نفى الحافظ هذه العلاقة بشدة، وقال إنه لم يصل إلى الأرجنتين إلا بعد سفر كوهين إلى دمشق في فبراير 1962. أنكر الحافظ معرفته بالرجل، وهو ما أكده سعيد جاويش، الذي صرح مرارا كيف نقل كوهين إلى فرع التحقيق بعد اعتقاله، حيث التقى بأمين الحافظ للمرة الأولى. وبحسب روايته، فقد سأل الحافظ كوهين: أنت ولاه... إيش اسمك ولاه؟".

أجابه كوهين: "كامل أمين ثابت".

أمين الحافظ: شو بتشتغل؟

كوهين: أنا تاجر عربي مسلم من الأرجنتين.

أمين الحافظ: إذن اقرأ لنا الفاتحة.

كوهين: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن....

وحين توقف سأله الحافظ: "ليش توقفت؟".

أجابه كوهين بأنه نسي التتمة، فقال الرئيس السوري: "ولاه ... في مسلم بعمرك ما بيعرف الفاتحة؟".

لم يظهر الحافظ مع كوهين في أي مناسبة رسمية أو خاصة، ولا يوجد أية صورة تجمع بينهما، ما يعزز أن رواية الصداقة المزعومة كانت من خيال الصحف المصرية الرائجة آنذاك

وعند هذا الحد توقف الحديث وطلب الحافظ إلى الرائد عدنان طيارة إحالة كوهين إلى غرفة التحقيق في "القبو"، وتسليمه إلى المحقق النقيب عبد القادر الجليل. لم يصمد كوهين أمام التحقيق طويلا، وأمام الضرب المبرح الذي برع فيه البعثيون، قال: "اسمي إلياهو بن شؤول كوهين، يهودي مصري من مواليد الإسكندرية".

توالت الاعترافات، ومعها الشائعات، وقد رد عليها الحافظ في لقاء صحافي مع مدير مكتب مجلة "الأسبوع العربي" في دمشق، زهير المارديني، نشر بتاريخ 21 مايو 1965:

"لقد وردتنا ألوف البرقيات التي ترجونا بالحفاظ على رأس كوهين... مداخلات، وساطات، وإغراءات. كنا نبتسم ونكتفي بالابتسام من القصص والإشاعات التي كان يروجها بعضهم كذبا وافتراء. قالوا إن كوهين كان صديقا للأستاذ صلاح البيطار (رئيس الوزراء وأحد مؤسسي "البعث")، وإنه سافر معه إلى الأردن. لقد قالوا إننا نعرف كوهين منذ أمد بعيد، وإن لكوهين صلات وثيقة ببعض الرسميين. ليقولوا ما يشتهون، أما نحن فنقول لهم بكل صدق إننا تعرفنا فعلا على كوهين، ولكن بعد اعتقاله بأيام قليلة. وأنا شخصيا واجهته في السجن، وكان التحقيق وقتها في أوله". 

لم يظهر الحافظ مع كوهين في أي مناسبة رسمية أو خاصة، ولا توجد أية صورة تجمع بينهما، ما يعزز أن رواية الصداقة المزعومة كانت من خيال الصحف المصرية الرائجة آنذاك، والتي كانت في حرب كلامية مفتوحة مع النظام الحاكم في دمشق، وتحديدا بعد اعتقال عدد من الناصريين في أعقاب محاولة انقلاب فاشلة قاموا بها في 18 يوليو/تموز 1963.

كانت الصحف المصرية، ومعها اللبنانية، تصف نظام "البعث" بالفاشي، وقد ضخمت كثيرا من قضية كوهين لإظهار أمين الحافظ بأنه عميل للصهيونية. وقد تناقل السوريون هذه القصة بكثرة، وتحديدا بعد الإطاحة بأمين الحافظ واعتقاله عام 1966، ومن ثم في أعقاب انقلاب حافظ الأسد عام 1970.

font change