مفاجأة أميركية للوفد السوري في الحوار السري في مسقط... انسحابات عسكرية مقابل معلومات عن تايس (2 من 3)

الأسد يرسل وفدا منخفض المستوى الى عمان... والتعليمات: "عدم التفاوض"

المجلة
المجلة

مفاجأة أميركية للوفد السوري في الحوار السري في مسقط... انسحابات عسكرية مقابل معلومات عن تايس (2 من 3)

بعدما تناولت الحلقة الأولى، المفاوضات السورية -الاميركية في عهد ترمب، تركز الحلقة الثانية على انطلاق الحوار السري في مسقط عاصمة عمان، في عهد بايدن، ومفاجأة الوفد الاميركي بعرض الانسحاب من مواقع شرق الفرات مقابل معلومات عن الصحافي استون تايس:

وفي 2021، تجددت وساطة مدير جهاز الأمن اللبناني عباس إبراهيم بطلب أميركي لمعرفة مصير الصحافي الأميركي أستون تايس. وقال إبراهيم لـ "المجلة": "كان هناك طلب أن يتم تشكيل وفد لزيارة سوريا، إذ كانت السيدة ديبرا تايس، والدة أوستن، تضغط على الإدارة الأميركية لتحريك هذا الملف، وعَقدتْ جلسة مع الرئيس بايدن، وبعد هذه الجلسة وعدها الرئيس وأعطى أمرا أمامها لكل مستشاريه لكي يعملوا بأقصى ما يستطيعون لحل هذا الموضوع". الأمر الذي فاجأ إبراهيم أن "الأسد رفض استقبال الوفد الأميركي".

في 2022 تسارع قطار التطبيع العربي مع دمشق وأعيدت إلى الجامعة العربية وحضر الأسد القمة العربية في جدة منتصف 2023. ويقول مصدر قريب من دمشق، إن إدارة بايدن، كانت تريد "فتح نوع من التواصل مع النظام، فأولا، كانت الولايات المتحدة تدرك أن وجود قواتها العسكرية حول حقول النفط والغاز في منطقة الشمال الشرقي لسوريا أمر لا يمكن استمراره دون أفق مفتوح لإنهاء هذا الوجود، ولكنها ترغب في ضمانات من الطرف السوري بأن انسحاب قواتها من هناك لن يؤدي إلى دخول "الحرس الثوري" وميليشيات "الحشد الشعبي" الموالية لإيران إلى تلك المنطقة. وثانيا، كانت الإدارة الأميركية تتعرض لضغوط كبيرة من أسر المفقودين الأميركيين في سوريا للبحث عنهم، والتحقق من مصيرهم، وربما إطلاق سراحهم في صفقة تبادل ما مع النظام السوري، فهي مقتنعة أنهم في قبضته رغم إنكار النظام الدائم لذلك".

ورغم علم واشنطن بأن النظام لم يقدم معلومات عن مصير تايس، فإن تجارب سابقة كانت قد بينت أن النظام كان ينكر بكل قوة وجود محتجزين أجانب لديه، ثم يعود فيتراجع عن روايته وينخرط في صفقة من صفقات التبادل، فهي لعبة يلعبها النظام أملا في تحقيق القدر الأعظم من المكاسب من صفقة التبادل، ما أبقى على اهتمام أميركا بفتح أقنية حوار مع دمشق ولو في السر، حسب قول مسؤول غربي.

مر وقت قبل أن تقرر إدارة الرئيس بايدن أن تعاود التواصل مع دمشق. في عام 2022 أرسل كارستنس معاونه إلى نيويورك ليقابل السفير بسام صباغ. حاول إقناعه بفائدة التعاون في عدة ملفات، رفع صباغ الأمر إلى دمشق، فجاءه التوجيه بـ"عدم التعاون".

صباغ الذي كان يريد فتح الأقنية "وجد موقف الأسد غريبا وغير مفهوم" لكنه اكتفى بنقل الرسائل. أما وزير الخارجية فيصل مقداد، فكان "يريد استغلال هذه الفرصة لفتح الأقنية مع بلد في حجم وأهمية الولايات المتحدة. ولكن بشار الأسد ارتأى غير ذلك، وتم صرف النظر عن الموضوع"، حسب تقرير كتب عن التفاصيل.

القناة العمانية... وفدا التفاوض

في أواخر عام 2022 اتصل سلطان عمان هيثم بن طارق، بالأسد وتحدث معه مطولا حول رغبة الأميركيين في فتح قناة للحوار، وشرح أهمية "إبقاء باب الحوار مفتوحا حتى بين الدول المتناحرة سياسيا، ورغم أن عقلية بشار الأسد التي كانت تتسم بالعناد الشديد وضيق الأفق لم تكن مرتاحة إلى إجراء أي حوار مع الأميركيين، فقد كان من الصعب على الأسد أن يرفض طلبا لسلطان عمان، فوجد نفسه مضطرا للموافقة".

أبلغ سلطان عمان الطرف الأميركي بموافقة السوريين على اللقاء معهم سرا في مسقط، واتفق الجانبان عبر الوساطة العمانية على أن يحدد كل جانب النقاط التي يرغب في مناقشتها في جدول الأعمال دون أن يحق للطرف الآخر الاعتراض عليها. ولم يبق إلا الاتفاق على أعضاء الوفدين.

يبدو أن الأسد كان يعتبر أن المفاوضات تجري بين خصمين متكافئين يتمتعان بالندية

مسؤول غربي

أبلغ الجانب الأميركي العمانيين أن وفدهم سيكون رفيع المستوى، وسيرأسه بريت ماكغورك نائب مستشار الرئيس الأميركي المكلف بشؤون الشرق الأوسط. كما سيضم جوشوا غيلتزر وهو أيضا يشغل منصب نائب مساعد الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي، إضافة إلى خمسة أعضاء آخرين من جميع المؤسسات الأميركية، أي وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، وزارة الأمن الوطني، وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه).

كان ماكغورك مسؤولا رفيعا في إدارة الرئيس بايدن، وكان مقربا من مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ويحظى بثقة الرئيس بايدن. كان يتردد بانتظام على الشرق الأوسط فيقابل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقادة عربا وإقليميين آخرين. أما جوشوا غيلتزر فكان مختصا استراتيجيا بشوؤن الإرهاب ومستشارا قانونيا لكل من البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي. 

كان من الطبيعي أن يتوقع الأميركيون أن يرسل السوريون وفدا رفيع المستوى، كأن يضم رئيس جهاز الاستخبارات السورية ونائب وزير الخارجية أو مستشار رئيس الجمهورية أو أحد كبار قادة الجيش. وجاء قرار الأسد بأن يكون الوفد السوري برئاسة السفير عماد مصطفى (الذي عين مديرا للمعهد الدبلوماسي بعد عودته من منصبه كسفير في الصين بعد عمله سفيرا في واشنطن) وعضوية شخصين من الأجهزة الأمنية السورية، هما العميد سامر بريدي والعميد ماجد إبراهيم. يقول مسؤول غربي: "كان الاختيار مفاجئا لمسقط وواشنطن بكل المقاييس. فلم يكن هناك تكافؤ أو تناسب بين مناصب أعضاء الوفد السوري ومناصب أعضاء الوفد الأميركي الدولة العظمى في العالم".

سانا
السفير عماد مصطفى

وحسب وثيقة سورية، فإن المقداد "شعر بالحرج عندما أبلغه الأسد بقراره، فكيف سيشرح للأسد أن هناك عدم حكمة في تشكيلة الوفد السوري، وعندما أبلغ مصطفى بقرار تشكيل الوفد، جاءه رده سريعا، أنه يفهم العقلية الأميركية جيدا، وبغض النظر عن خبرته وتاريخه الدبلوماسي، فهم سيعتبرون أن إرسال وفد برئاسة مدير المعهد الدبلوماسي، وعضوية عميدين غير معروفين في الأمن السوري، هو تعبير صريح عن الاستخفاف بهذا الحوار، وعدم التعامل معه بجدية".

اقترح مصطفى أن يرأس هذا الوفد شخصية أعلى في الموقع الهرمي في القيادة السورية، وأن يدعم المفاوضات والدبلوماسية الدولية ليكون الشخص الثاني في هذا الوفد لتحقيق "الغرض المطلوب من المفاوضات، ويرسل رسالة صحيحة إلى الجانب الأميركي". عندما اقترح المقداد على الأسد ذلك رد الأخير: "الوفد سيكون كما قلت لا تغيير فيه"، حسب شخص معني.

مصطفى كان قد عمل سفيرا في بكين وواشنطن، وكان يتقن اللغة الإنكليزية ويعرف الكثير عن آلية صنع القرار في واشنطن. لكنه لم يكن "بعثيا" ما حرمه من تعيينه في منصب رئيس في وزارة الخارجية. ورفض الأسد تعيينه في منصب رئيس. وعندما شغر موقعي نائب الوزير بعد تعيين بشار الجعفري سفيرا في موسكو، ومعاون الوزير أيمن سوسان، لم يتم ترفيع مصطفى، بل جاء الأسد بالسفير صباغ نائبا لوزير الخارجية والسفيرين أيمن رعد وحبيب عباس معاونين لوزير الخارجية.

أما العميد سامر بريدي فكان ضابطا في الاستخبارات السورية. التقطه مملوك عندما كان مديرا للاستخبارات العامة، فاصطفاه إلى جانبه، وعندما أصبح رئيسا لجهاز الأمن الوطني نقله معه من إدارة المخابرات العامة، وأصبح من أقرب المساعدين إليه. وكان يكلف عادة بالمهام الخاصة في المفاوضات واختراق المعارضة في مسار آستانة أو جنيف. العميد ماجد إبراهيم كان ينتمي إلى شعبة الأمن العسكري، في فرع فلسطين سيئ السمعة، وهو رجل أمن سوري نمطي لا توجد لدينا الكثير من المعلومات عنه.

عندما أبلغ المقداد الجانب العماني بتشكيلة الوفد، أصيب العمانيون بالدهشة من هذه التشكيلة، ولكنهم اكتفوا بإبلاغ الجانب الأميركي بأسماء الوفد السوري. وقال مسؤول غربي: "لم يسر الجانب الأميركي بتركيبة الوفد السوري، اعتبروا مستوى التمثيل دليلا على عدم الجدية. فمصطفى لم يكن في موقع عال في الهرم الرسمي للسلطة والمسؤولية، والضابطان الآخران غير معروفين، وربما كانت مهمتهما مراقبة مصطفى والعمل على ضبط إيقاعه، فهو معروف بعدم التزامه الدقيق بالخط الرسمي السوري".

أرسل الأميركيون رسالة عبر الجانب العماني بهذا الشأن، هم يريدون أن يكون الوفد السوري برئاسة علي مملوك. وكما هو مألوف في مثل هذه الحالات، ازداد تشبث الأسد بقراره: "نحن لم نتدخل بتشكيلة الوفد الأميركي. لماذا يتدخلون بتشكيلة وفدنا؟". وقال مسؤول غربي: "يبدو أن الأسد كان يعتبر أن المفاوضات تجري بين خصمين متكافئين يتمتعان بالندية. كانت المشكلة دبلوماسية بامتياز: مستوى التمثيل في الوفد السوري لم يكن مكافئا لمستوى التمثيل في الوفد الأميركي، وسوريا في ميزان القوى ليست ندا للولايات المتحدة". لكن الأميركيين وافقوا على المفاوضات.

الأسد لوفد التفاوض: "لا تتخيلوا أنكم ذاهبون للتفاوض مع الأميركيين. كل ما سيطلبونه منكم سترفضونه. نحن فقط وافقنا على المحادثات إرضاء لأخوتنا العمانيين"

الموقف التفاوضي

بدأ الوفد السوري بالتحضير لجولة المفاوضات الأولى، كانت الاجتماعات تتم في مكتب مصطفى في وزارة الخارجية السورية، وضع أعضاء الوفد قائمة بالأهداف الرئيسة المطلوب تحقيقها: "استرجاع حقول النفط والغاز (كونيكو والعمر)، وتخفيف العقوبات القاسية المفروضة على سوريا، ثم في المرحلة النهائية انسحاب القوات الأميركية من سوريا وإعادة ضم منطقة شمال شرقي سوريا". ثم وضعوا قائمة بأدواتهم التفاوضية التي يمكن أن يقدموها للأميركيين: "التعاون لكشف مصير المفقودين الأميركيين في سوريا وعلى رأسهم أوستن تايس، والتعاون ضد الإرهاب، ثم في المرحلة النهائية استئناف التعاون الأمني الذي كان قائما بين أجهزة البلدين الأمنيين إثر الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 2001"، حسب وثيقة سرية.

أكمل الوفد التفاوضي السوري تجهيز ملفهم التفاوضي، ثم انتظروا أن يستدعيهم الأسد فيعرضوا عليه ملفهم، ويأخذوا منه التعليمات النهائية قبل التوجه إلى مسقط: أين هي خطوط المرونة، وأن يمكن تقديم تنازلات تفاوضية، وما هي الخطوط الحمراء التي لا يجوز التنازل عنها. ولكن هذا الاستدعاء لم يأت. وحسب وثيقة فقبل يومين من موعد السفر، عبر مصطفى عن موقفه للمقداد، قائلا: "نحن سنسافر بعد يومين ولا نعرف ما هي حدود ولايتنا في المفاوضات".

لم يكن المقداد قادرا على تقديم الإجابات، فجميع قرارات السياسة الخارجية كانت محتكرة تماما من قبل الأسد ولم يكن من النوع الذي يستمع للآراء والنصائح من قبل فريق السياسة الخارجية لديه، بل كان يكتفي عند اللقاء معهم بشرح الواقع الدولي لهم وتزويدهم بالتوجيهات. اكتفى المقداد بنقل طلب مصطفى إلى الأسد.

وقبل يوم من موعد السفر، استدعى الأسد السفير مصطفى منفردا إلى "قصر الشعب". ذهب مصطفى حاملا الملف الذي أعده مع بريدي وإبراهيم ليعرضه على الرئيس. فيما بعد أبلغ مصطفى زملاءه في الوزارة بأنه فوجئ عندما بدأ الأسد الحديث بقوله: "لا تتخيلوا أنكم ذاهبون للتفاوض مع الأميركيين. كل ما سيطلبونه منكم سترفضونه. نحن فقط وافقنا على المحادثات إرضاء لأخوتنا العمانيين"، حسب قول مصدر. وعندما أجابه مصطفى: "لكن المطلب الأساسي للأميركيين في هذه الجولة على الأقل هو أوستن تايس. لماذا لا يمكننا التعاون معهم في هذه النقطة على الأقل؟". قال الأسد: "أوستن تايس ليس عندنا". أجاب مصطفى: "هذا أفضل، بما أنه كذلك فيمكننا أن نعرض عليهم التعاون لكشف مصيره فنكسب بذلك بعض النقاط التفاوضية. أنا درست ملفه جيدا، وهم لديهم ما يعتقدون أنها أدلة على وجوده عندنا، فيمكننا التداول معهم حول هذه الأدلة لعلنا نصل إلى تعاون مشترك قد يتطور ويفضي إلى أمور أخرى".

ختم الأسد حديثه بصورة حازمة: "أمنعكم تماما من التفاوض مع الجانب الأميركي حول تايس". عاد مصطفى إلى الوزارة فأبلغ المقداد وسوسان بفحوى اللقاء-الصدمة مع الأسد.

في مسقط 

استيقظ أعضاء الوفد السوري في وقت مبكر صباح الأربعاء 22 فبراير/شباط 2023 واجتمعوا في فندقهم في مسقط لمراجعة أخيرة لملفاتهم قبل التوجه إلى مقر الاجتماع. لاحظ مصطفى أن العضوين الآخرين لم يكونا على علم بتوجيهات الأسد. اصطحبت المخابرات العمانية الوفد السوري إلى فيلا فاخرة منعزلة تطل على خليج في بحر عمان. ولدى وصولهم كان الوفد العماني في استقبالهم. جلسوا في غرفة استقبال كبيرة، وبعد تبادل قصير للمجاملات وصل أعضاء الوفد الأميركي. 

وقال مسؤول مطلع على المفاوضات، إنه كان واضحا أن الوفد السوري لم يكن قادرا على تخمين الكيفية التي سيتعامل الأميركيون معهم بها. هل سيكونون باردين ومتباعدين أم لطفاء؟ هل سيصافحونهم أم سيكتفون بإيماءة من الرأس؟ عندما وصل الوفد الأميركي إلى غرفة الاستقبال بدأوا بمصافحة المضيفين العمانيين، ثم استداروا تجاه الوفد السوري وصافحوهم. وكعادة الأميركيين، رفعوا الكلفة فورا، وبدأوا بسؤال مصطفى عن رحلتهم من دمشق إلى مسقط، وعن الفندق الذي ينزلون فيه، وغير ذلك من الأمور غير المهمة. 

بدأ الأميركيون الحديث، قدموا التعاطف والتعازي للشعب السوري إثر الزلزال المدمر الذي ضرب المدن السورية قبل أيام في فبراير، ثم انتقل بريت ماكغورك للحديث عن أهمية التعاون بشأن أوستن تايس

في العاشرة صباحا، اصطحب العمانيون الوفدين إلى غرفة الاجتماعات، ألقوا كلمة ترحيبية قصيرة ثم انسحبوا تاركين الوفدين التفاوضيين على انفراد. لم يكن هناك أي مترجمين. دار الحديث باللغة الإنكليزية التي كان مصطفى يتقنها. العميد بريدي كان ملما بها يفهم معظم ما يقال ولكنه لم يكن متمرسا بالحديث بها، أما العميد إبراهيم فلم يكن يعرف كلمة إنكليزية واحدة. "كان العميد بريدي يسجل الحديث الدائر بجهاز صغير كان معه"، حسب قول أحد المشاركين.

بدأ الأميركيون الحديث، قدموا التعاطف والتعازي للشعب السوري إثر الزلزال المدمر الذي ضرب المدن السورية قبل أيام في فبراير، ثم انتقل بريت ماكغورك للحديث عن أهمية التعاون بشأن أوستن تايس، وكيف أن هذا التعاون سيغير من طبيعة العلاقات السورية-الأميركية، وسيفتح آفاقا للتعاون حول ملفات أخرى. كان ماكغورك يتكلم لخمس أو ست دقائق، ثم كان يعطي الحديث لجوشوا غيلتزر فيتكلم هو الآخر لخمس أو ست دقائق فيعود ماكغورك لاستئناف حديثه، ثم يعطي المجال لستيفن غيلين قبل أن يكرر مرة أخرى أهمية التعاون حول أوستن تايس. 

ولم يخل الجو من بعض الغرابة. وقال أحد المشاركين: "كان العميد ماجد إبراهيم يلتفت إلى السفير مصطفى ويسأله بصوت عال: ما الذي يقولونه؟ فيطلب مصطفى من ماكغورك التوقف لبرهة وجيزة ليلخص للعميد إبراهيم ما قاله الأميركيون بصوت عال وبالعربية". أما عضوة الوفد التي كانت تمثل استخبارات الدفاع الأميركية فكانت تتابع تدوين ما يقوله مصطفى بالعربية لماجد إبراهيم، فأدرك أنها تلم بالعربية إلماما جيدا. ولاحظ أيضا علامات الدهشة ترتسم على وجوه أعضاء الوفد الأميركي. فليس من المألوف في المفاوضات الدولية أن يوقف رئيس الوفد مجريات الاجتماع ليلخص لأحد أعضاء الوفد ما الذي كان يدور حوله!

بعد حوالي الساعة وعشر دقائق من حديث الوفد الأميركي، بدأ مصطفى بالحديث، استعرض معهم تاريخ العلاقات السورية-الأميركية، وحدثهم عن خبرته السابقة في التعامل مع مدير "سي آي إيه" ويليام بيرنز والذي كان يتعامل معه بشكل كبير بصفته السابقة كنائب لوزير الخارجية الأميركي، وكيف تعاونا في كثير من الملفات قبل انهيار العلاقات الثنائية. كان مصطفى يتحدث عن العلاقات الدولية والصراع العربي الإسرائيلي، أو التعاون الدولي في مكافحة الإرهاب وغير ذلك من قضايا السياسة الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط. 

لاحظ مسؤول غربي أن مصطفى "لم يتحدث مطلقا عن موضوع أوستن تايس رغم إلحاح الأميركيين المتكرر عليه ليناقشهم حول موضوع تايس"، دون أن يعرف الجانب الأميركي أن "الأسد وجهه بأن يقول بأن أوستن تايس ليس عندنا، ففضل بدلا عن ذلك أن لا يقول شيئا". وزاد: "لعدة مرات كان ماجد إبراهيم يقاطعه ليسأله: ما الذي تقوله لهم؟ " فيبتسم أعضاء الوفد، ويبتسم الوفد الأميركي لغرابة الموقف.

بعد انتهاء حديث مصطفى، عاد الوفد الأميركي برأسيه بريت وجوشوا فأكدا على ضرورة التعاون لكشف مصير أوستن تايس، وقال ماكغورك: "نحن ندرك أن سوريا تشهد حربا طاحنة على أراضيها، وندرك أن السيطرة على الأراضي تتغير دون توقف، ونعلم أن أوستن تايس كان قد وقع في قبضة الأمن السوري فاحتجز لديهم، ثم نعلم أنه تمكن من الفرار من سجنه حيث تواصل معنا وأرسل لنا رسالة فيديو قصيرة، ثم اختفت آثاره، ربما هو الآن بحوزتكم، ربما قتلته إحدى الجماعات المسلحة، ربما قتل وهو قيد الاحتجاز لديكم أثناء معارك الكر والفر بينكم وبين المعارضة، نحن لا نهدف إلى توجيه اللوم، نحن نريد كشف مصيره، هذا هو التعاون الذي نطلبه منكم".

في الواحدة ظهرا، قاطع المضيفون العمانيون الاجتماع ودعوا الطرفين لتناول الغداء على طاولة مشتركة. أجلسوا مصطفى بين ماكغورك وغيلتزر وجلس بريدي على يمين ماكغورك، وإبراهيم على يسار غيلتزر. على الطرف المقابل حول المائدة جلس العمانيون وسائر أعضاء الوفد الأميركي. وقال أحد المشاركين: "كانت الأحاديث هادئة وودية وشملت أمورا كثيرة، سألوا مصطفى عن الفرق بين تجربته في واشنطن وتجربته في بكين، فيما جلست مندوبة مخابرات الدفاع الأميركية على يمين سامر بريدي وانخرطت معه في أحاديث مطولة. أما ماجد إبراهيم فاكتفى بتناول الطعام وتبادل عبارات المجاملة مع العمانيين".

ويشير خبير مطلع على محضر الاجتماع: "كان هذا تكتيكا مألوفا لدى الأميركيين، كانوا يدرسون شخصية كل مفاوض على حدة، ويحاولون فهم ما الذي يدور حقا في ذهنه، وما هو موقفه غير الرسمي، وهل توجد وسيلة يمكنهم عبرها بناء قنوات مباشرة معه، أو الاستفادة منه في الحصول على معلومات ثمينة، بل حتى إغراؤه للعمل لصالحهم مقابل وعود ومكتسبات شخصية. كان عماد مصطفى معتادا على الطرق الأميركية هذه، فتعامل معها بتجاهل لطيف، فيما انهمكت السيدة الأميركية التي تتقن اللغة العربية بحديث مطول مع سامر بريدي، أما ماجد إبراهيم فكان صامتا معظم الوقت".

كان الاقتصاد السوري في حالة انهيار تام، وكان الشعب السوري يعاني من حالة فقر غير مسبوقة، وها هم الأميركيون يقولون للسوريين: "خذوا آباركم وأعطونا أوستن تايس"

مفاجأة غير متوقعة 

في الثانية بعد الظهر عاد الوفدان إلى غرفة الاجتماعات، وهنا فجر الأميركيون مفاجأة غير متوقعة. قال بريت ماكغورك: "من معرفتنا بكم، نحن ندرك جيدا أنكم لا تقدمون شيئا دون مقابل، ولذلك سنتقدم لكم بالعرض التالي. قوات جيشكم النظامي تتمركز على بعد مئات قليلة من الأمتار عن قواتنا الموجودة اليوم في حقلي عمر وكونيكو. نحن مستعدون لسحب قواتنا من هذين الحقلين والسماح لكم باستعادة السيطرة عليهما مقابل أن تتعاونوا معنا في كشف مصير أوستن تايس. طبعا لدينا شرطان لتحقيق هذا الانسحاب: أولهما أن لا تدخل إلى المنطقة التي ننسحب منها أي قوات غير نظامية، أي إن (الحرس الثوري) الإيراني وميليشيات (الحشد الشعبي) لا يمكنها دخول تلك المناطق، وثانيهما هو تحصيل حاصل: لا يجوز أن تستعمل الأراضي التي ننسحب منها منطلقا لأي هجوم بقذائف الهاون أو الكاتيوشا على قواتنا، وإلا فإننا سنجد أنفسنا مضطرين لإعادة احتلالها مرة أخرى".

كان "العرض سخيا" حسب قناعة الوسطاء، إذ إن سوريا كانت تعاني من وطأة الحرمان من مصادرها النفطية، وكان الاقتصاد السوري في حالة انهيار تام، وكان الشعب السوري يعاني من حالة فقر غير مسبوقة، وها هم الأميركيون يقولون للسوريين: "خذوا آباركم وأعطونا أوستن تايس". لكن مصطفى كان مقيدا بتعليمات صارمة من الأسد بعدم التفاوض حول أي موضوع. لكن الضابطين المرافقين له لم يطلعا على هذا الأمر. وحسب قول أحد المشاركين: "قال مصطفى لبريدي: أعتقد أن هذا موضوع عسكري بحت وأنا لا علاقة لي بالأمور العسكرية والأمنية وبالتالي أترك لك مجال الكلام وأنا سأكتفي بالترجمة".

أخرج بريدي فورا من حقيبته مجموعة خرائط تبين مواقع وجود القوات الأميركية في سوريا، وبدأ يرسم عليها بالقلم دوائر تبين الأماكن التي يجب عليهم الانسحاب منها. وقال المصدر: "عندما حاول الاقتراب من منطقة التنف أبلغوه بأن التنف خط أحمر، فهي موقع مهم لهم لحماية الدول المجاورة في إشارة إلى إسرائيل، من أي هجمات إرهابية جهادية".

أخذ الجانب الأميركي تلك الخرائط، واتفق الجانبان على العودة إلى رؤسائهم في واشنطن ودمشق، على أن يعودوا فيلتقوا مرة ثانية بعد ثلاثة أسابيع في مسقط، أي في مارس/آذار المقبل. 

خلوة ماكغورك-مصطفى 

بعد انتهاء الجلسة في الساعة الخامسة والعشرين دقيقة من بعد ظهر اليوم نفسه، تقدم ماكغورك من مصطفى وطلب إليه أن يختلي معه ليتحدثا على انفراد. خرج الاثنان إلى شرفة خارجية تطل على منظر بديع لخليج عمان، كانت الشمس تميل إلى الغروب. وفي المياه المقابلة للفيلا كان هناك يختان يحومان بشكل دائري، قال ماكغورك لمصطفى: "أتعتقد أن هذين اليختين يتبعان للمخابرات وأنهما كانا يتنصتان على مفاوضاتنا؟". أجابه مصطفى بدعابة مماثلة: "أؤكد لك أنهما تابعان للمخابرات الإسرائيلية التي تريد أن تعرف مجريات الأمور بيننا". 

غضب الأسد عندما قرأ أن العميد بريدي قد تفاوض مع الأميركيين حول تفاصيل الانسحاب من حقلي عمر وكونيكو، كما انزعج بشدة من عملية تبادل الأرقام بين ماكغورك ومصطفى

بعد ذلك انتقل الحديث إلى مواضيع جدية. قال ماكغورك لمصطفى: "أنا سأغادر مسقط اليوم، وسأتوجه مباشرة إلى تل أبيب. لدي موعد غدا صباحا مع نتنياهو، ما رأيك في أن أجس نبضه في مسألة عملية استئناف محادثات السلام الإسرائيلية-السورية؟ سيكون لاستئناف هذه المحادثات وقع إيجابي هائل لدى أعضاء الكونغرس والمعارضين داخل الإدارة الأميركية لأي انفتاح أو تقارب مع سوريا".

أجاب مصطفى ماكغورك: "أقترح أن نحل مشاكلنا الثنائية أولا قبل البدء بالحديث عن مشاكلنا مع طرف ثالث". أجابه ماكغورك: "ربما كان الحق معك، فإذا تعاونتم معنا في حل قضية أوستن تايس سيؤدي هذا إلى خلق ديناميات جديدة تدفعنا للتفكير في إحياء محادثات السلام بينكم وبين إسرائيل".

بعد ذلك طلب ماكغورك من مصطفى أن يتبادلا أرقام الاتصال المباشر باستخدام تطبيق "واتساب". أعطاه رقمه وسجل رقم مصطفى ثم تصافحا وغادر الجميع مكان الاجتماع. 

أ.ف.ب
قوات أميركية تسير دوريات في حقول نفط قرب الحدود الشمالية الشرقية لسوريا مع تركيا في ريف القحطانية، شمال شرق محافظة الحسكة، في 3 سبتمبر 2024

 بعد عودة الوفد السوري إلى دمشق رفع مصطفى محضر الاجتماع إلى الأسد في عشرين صفحة. وقال مصدر: "غضب الأسد عندما قرأ أن العميد بريدي قد تفاوض مع الأميركيين حول تفاصيل الانسحاب من حقلي عمر وكونيكو، كما انزعج بشدة من عملية تبادل الأرقام بين ماكغورك ومصطفى".

أبلغ المقداد مصطفى بأن "الأسد قد أمره بأن يقوم مصطفى بمسح رقم ماكغورك من هاتفه وحذره من أي اتصال مباشر مع ماكغورك". نفذ مصطفى الأمر الموجه إليه وقطع أي اتصال مباشر له مع ماكغورك.

بعد ثلاثة أيام من ذلك الاجتماع، أرسل ستيفن غيلين رسالة إلى مندوب سوريا الدائم في نيويورك بسام صباغ يعلمه فيها أن الجانب الأميركي يعتبر أن محادثات مسقط "كانت جيدة جدا ويريد مواصلتها". قام صباغ بإرسال محتوى هذه الرسالة إلى الوزير المقداد الذي رفعها إلى الأسد ما زاد من شكوكه بمصطفى. أبلغ الأسد الوزير المقداد أن المحادثات لم تؤد إلى أي نتيجة وأنه لا داعي لعقد جولة تالية. 

الحلقة الثالثة: الامارات تتوسط بين الأسد وبايدن... و"لقاء" سوري – أميركي قبل أيام من هروب الأسد

font change

مقالات ذات صلة