غزة... انتشار الفوضى والعصابات المشبوهة على وقع التجويع

تواصل إسرائيل ممارسة عملية تجويع السكان مع استمرار حرب الإبادة

أ ف ب
أ ف ب
أطفال فلسطينيون ينتظرون مع آخرين للحصول على الطعام عند نقطة توزيع في النصيرات، وسط قطاع غزة، 2 يونيو 2025

غزة... انتشار الفوضى والعصابات المشبوهة على وقع التجويع

بعد إغلاق إسرائيل للمعابر مع قطاع غزة قرابة 90 يوما بشكل متواصل، سمحت الحكومة الإسرائيلية بدخول 957 شاحنة تابعة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي، ومحملة بالمساعدات الإنسانية من ضمنها الطحين ومواد غذائية ومعدات طبية وأدوية، وذلك على مدار الأسبوعين الأخيرين من شهر مايو/أيار الماضي، مقسمة على أيام الأسبوعين بشكل متتالٍ.

هذه البيانات الواردة عبر حساب المنسق الإسرائيلي على شبكة "فيسبوك"، والتي ادعى توريدها إلى المنظمات الدولية، لم تصل معظمها إلى وجهتها الصحيحة بسبب السرقات التي تعرضت لها الشاحنات في مناطق تقع غالبيتها ضمن السيطرة الإسرائيلية، من قبل عصابات محلية.

بدأ توريد الشاحنات التي تحمل الطحين ومستلزمات إنتاج الخبز، في 19 مايو/أيار الماضي، حيث وصلت غالبية الشاحنات إلى مخازن 5 مخابز في وسط وجنوب قطاع غزة فقط، وهي تتعاقد مع برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة لإنتاج الخبز وتوزيعه على السكان من قبل فرق تابعة للبرنامج، إلا أن الطريقة التي اعتمدها البرنامج في عملية الإنتاج والتوزيع، وفق الشروط الإسرائيلية المفروضة على البرنامج مؤخرا، لم تنجح بسبب الجوع والحاجة الماسة التي وصل لها السكان بعد إغلاق المعابر ثلاثة أشهر متواصلة، ما اضطر أصحاب المخابز لإعلان توقفهم عن العمل بعد يومين فقط من تجربة الآلية الجديدة نتيجة تدافع السكان وعدم فرض السيطرة على آلية التوزيع، ما زاد من تفاقم الأزمة التي رسمتها وتابعت تنفيذها الحكومة الإسرائيلية على مدار الأشهر الماضية.

استمر إعلان الجيش الإسرائيلي عن دخول الشاحنات التي أصبحت عرضة للسرقات، وذلك بالتزامن مع إصدار الجيش أوامر إخلاء واسعة للسكان شملت أكثر من 70 في المئة من مساحة القطاع، وأصبح أكثر من مليوني فلسطيني مجبرين على النزوح والتمركز في مناطق ساحلية مكتظة غرب مدينة غزة ومخيم النصيرات ومدينة دير البلح ومدينة خانيونس، فيما أصبحت مناطق "مدينة رفح جنوبا، وجباليا وبيت لاهيا وبيت حانون شمالا، وشرق المحافظة الوسطى ومدينة خانيونس"، جميعها مناطق قتال خطيرة يُمنع على السكان الوجود داخلها.

ولتوضيح العلاقة بين عمليات السرقة والنهب للشاحنات وأوامر الإخلاء، أجبر الجيش الإسرائيلي سائقي الشاحنات على اتباع طرق محددة هو من يقررها، حسب ما أفاد ثلاثة من السائقين لـ"المجلة"، أولها كان الطريق الساحلي غرب مدينة رفح مرورا بالطريق الساحلي المكتظ بالنازحين غرب خانيونس، كذلك اتباع طريق صلاح الدين الرئيسي في المنطقة الجنوبية الشرقية لمدينة خانيونس والمرور من وسط المدينة المكتظ بالنازحين. وحدد الجيش طريقا ثالثا من محور نتساريم وسط القطاع، مرورا بشارع الرشيد- شارع البحر- والسير باتجاه الجنوب إلى مدخل مخيم النصيرات حيث تعج المنطقة بالنازحين. تلك الطرق الثلاثة، أجبرت الشاحنات على السير وسط المناطق المزدحمة بشكل بطيء ما سمح للعصابات وبعض الناس بالهجوم على الشاحنات وتفريغها بالكامل، بل وصل الأمر حد إعطاب الشاحنات من قبل العصابات.

مع استهداف عناصر التأمين التابعين لـ"حماس" وغياب المحاسبة والعقاب، انتشرت عصابات السرقة

وأدانت جمعية النقل الخاصة بغزة، في بيان صدر عنها، تعرض سائقي الشاحنات ومركباتهم لاعتداءات من قبل مجموعات مسلحة تعمل على مهاجمتهم خلال نقلهم المساعدات الإنسانية، وصلت إلى حد التهجم الجسدي وتكسير المعدات ما ساهم بتعطيل عمل عدد منهم، موضحة أن الاعتداءات نتج عنها إصابة 80 من سائقي الشاحنات بين إصابة بالغة ومتوسطة، وتعطيل أكثر من 212 شاحنة، نتيجة استخدام المعتدين أدوات حادة. ومع ذلك ما زال الجيش الإسرائيلي يجبر سائقي الشاحنات على اتباع ذات الطرق المكتظة بالنازحين مع أنه قادر على السماح لهم باتباع مسالك في المناطق الشرقية التي يسيطر عليها تضمن وصول المساعدات إلى المخازن الخاصة بالأمم المتحدة بشكل آمن وتمهيدا لتوزيعها بشكل آمن وعادل على السكان.

وفي الادعاءات الإسرائيلية، صرحت عدة جهات حكومية وقيادات في الجيش، بأن الهدف الأساسي لهم، يتمثل في عدم وصول أي من المساعدات إلى قيادات وعناصر حركة "حماس" السياسية والعسكرية، سواء باستلامها أو السيطرة عليها، ورفضت إسرائيل الطلبات المتكررة من إسرائيل بسماح أي جهة أمنية في غزة بتأمين الشاحنات تجنبا لتعرضها للسرقة، لكن جميع الطلبات قوبلت بالرفض، وحتى حينما قررت وزارة الداخلية التي تديرها حركة "حماس" في غزة، تأمين المساعدات دون أي موافقة إسرائيلية، تعرض عناصرها للاستهداف المباشر بالقصف والقتل.

أ ف ب
أطفال فلسطينيون ينتظرون الطعام عند نقطة توزيع في النصيرات، وسط قطاع غزة، 2 يونيو 2025

عدا عن الاستهدافات المباشرة التي تعرضت لها قوات الأمن وعناصر تأمين المساعدات التابعين لوزارة داخلية "حماس" وعمليات الاغتيال المباشر لعناصرها على مدار 20 شهرا من الحرب، والتي راح ضحيتها 754 بحسب توثيقات مكتب الإعلام الحكومي في غزة، تعرضت مجموعة تأمين لقصف مباشر بثمانية استهدافات مباشرة من طائرات استطلاع وطائرات مُسيرة إسرائيلية على مدخل مدينة دير البلح وسط القطاع خلال اعتراضهم أفراد عصابات كانوا يسرقون شاحنات المساعدات فجر 23 مايو/أيار الماضي، ما تسبب في مقتل 6 منهم، تبعها استهداف ثانٍ مباشر لأفراد من عناصر الداخلية خلال اعتراضهم عصابات على مفترق السرايا وسط مدينة غزة والمكتظ بالمارة، حيث تعرضت شاحنات للسرقة ظهر 29 مايو، وقتل منهم 5 عناصر و4 مواطنين نتيجة القصف.

مع استهداف عناصر التأمين التابعين لـ"حماس" وغياب المحاسبة والعقاب، انتشرت عصابات السرقة بشكل أكبر، ولم تتوقف عند مهاجمة وسرقة شاحنات المساعدات، بل امتد الأمر إلى مهاجمة واقتحام مخزن يتبع برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة شرق دير البلح وسط القطاع في 28 مايو، حيث كانت أطنان من الطحين والمكملات الغذائية بداخله، ومع انتشار خبر الاقتحام، توافد مئات من السكان باتجاه المكان للحصول على الطحين.

يقول "أبو عليّان"- رفض الكشف عن اسمه- لـ"المجلة"، وهو رب أسرة مكونة من 9 أفراد، إنهم لم يتناولوا الخبز منذ قرابة أسبوعين بسبب انتهاء الكمية التي حصل عليها قبل عدة أشهر من منظمة دولية، وارتفاع أسعاره في الأسواق، حيث وصل سعر الكيلو الواحد من الطحين لأكثر من 25 دولارا، مضيفا: "أنا فقدت عملي ومصدر الدخل، من وين بدي أجيب فلوس وأشتريلهم، وأنا مضطر أروح لأي مكان موجود فيه أي نوع من المواد الغذائية مجانا وآخد جزء يكفينا ناكل لعدة أيام".

كنوع من الدعاية الإسرائيلية، سمحت إسرائيل لمؤسسة غزة الإنسانية، الأميركية، حديثة المنشأ، بالبدء في عملها بتوزيع الطرود الغذائية على النازحين

حال "أبو عليّان" كحال المئات من الذين شاركوا في اقتحام المخازن، لكن الأمر ليس سهلا، "احنا اجينا بدنا كيس طحين، لكن طلع في عصابات بتسيطر على المكان ومعهم أسلحة نارية وسكاكين وغيرها من الأدوات الحادة، وبجبروك تشتري منهم أو ممكن تتعرض للقتل والإصابة، قعدت أترجاهم لما واحد سمح لي أخرج من المكان ومعي كيس الطحين لكن غيري كتار ما سمحولهم بدون دفع"، حسب وصفه.

بعض السكان اتهموا المنظمة الدولية بتجويع السكان من خلال تخزينها للطحين وغيره دون توزيعه، لكن "الأغذية العالمي"، قال في بيان عقب تعرض المكان للسرقة، إن الكميات الموجودة كان من المفترض أن يتم توزيعها على المخابز لاستمرار تشغيلها كما في الأسابيع الماضية، لكن المنظمة تلقت أوامر إسرائيلية في 19 من الشهر الماضي، بوقف عملها وعدم السماح لطواقمهم بالوصول إلى الطحين وتزويد المخابر بالكميات المتوفرة لديها، وهو ما تسبب في وقف عمل المخابز في حينها وتعميق أزمة الجوع. أي إن إسرائيل تعمدت زيادة الضغط على السكان ومساومتهم على رغيف الخبز مع استمرار عمليات القصف والقتل والتشريد.

رويترز
فلسطينيون يتفقدون مقبرة تضررت جراء القصف الإسرائيلي في دير البلح وسط قطاع غزة، 2 يونيو 2025

وكنوع من الدعاية الإسرائيلية التي تدعي عملها على تخفيف أزمة المجاعة، بعد ضغوطات وانتقادات دولية وأميركية، سمحت إسرائيل لمؤسسة "غزة الإنسانية"، الأميركية، حديثة المنشأ، بالبدء في عملها بتوزيع الطرود الغذائية على النازحين، حيث عملت المؤسسة على افتتاح مركز توزيع واحد في 27 مايو غرب مدينة رفح، تبعه افتتاح مركز ثانٍ على محور موراج الفاصل بين رفح وخانيونس في اليوم الثاني، وعملت في اليوم الثالث على افتتاح مركز ثالث على محور نتساريم وسط القطاع، للتوقف عن العمل في اليوم الرابع، وتعمل في اليوم الخامس من خلال مركز واحد.

وقال ممدوح العموري (34 عاما)، نازح من رفح إلى خانيونس، إنه سمع عن بدء توزيع الطرود الغذائية من قبل "غزة الإنسانية" برفح، وتوجه في اليوم الأول ولكن لم يحصل على أي طرد بسبب توفر كميات بسيطة مقارنة بآلاف النازحين من مختلف الفئات والذين توجهوا لاستلام الطرود، وأضاف لـ"المجلة": "صار لنا فترة مش قادرين نوفر اللقمة لولادنا، لقيت كل الناس بتروح على رفح ومشيت معهم، آلاف من الناس كانت رايحة لكن ما لقينا إشي وبسبب الزحمة والتدافع في ناس هجمت على مركز التوزيع وكل واحد سرق إيش في قدامه، طاولة كرسي الخشب اللي بتحمّل عليه المساعدات، الجدار الحديدي، كل إشي سرقوه، وفي ناس صارت تهجم على بعض ويسرقوا الطرود من بعض".

تواصل إسرائيل ممارسة عملية تجويع السكان في غزة مع استمرار حرب الإبادة الجماعية

وفي شهادته، أشار إلى أن عددا من النازحين تعرضوا لإصابات بآلات حادة نتيجة السرقات، كما تعرض آخرون إلى الإصابة برصاص من قبل الجيش الإسرائيلي الذي تقدم للأمام بعد انسحاب موظفي غزة الإنسانية وأفراد شركات الأمن الأميركية الموكل لهم مهمة تنظيم العمل، حيث أعلن مكتب الإعلام الحكومي بغزة، مساء اليوم الأول من بدء عملية التوزيع، أن الجيش الإسرائيلي بالتنسيق مع المؤسسة الأميركية، عمل على استدراج النازحين إلى "مصائد الموت" ما نتج عنه مقتل 3 مواطنين وإصابة 46، وفقدان 7 آخرين، متهما الجيش باعتقال عدد منهم.

لكن، مؤسسة "غزة الإنسانية" في بيان لها وصل عبر الإيميل، نفت الادعاءات بقتل وإصابة النازحين خلال توجههم لاستلام الطرود الغذائية في الأيام الأولى لعملها، مشيرة إلى أنها اتخذت قرارا بعدم اتباع أي إجراءات فحص للسكان "الجوعى" خلال عمليات التوزيع، والسماح لكل من يصل إلى المراكز الخاصة بها بالحصول على ما يشاء من الطرود الغذائية المتوفرة، بسبب التزاحم الكبير وحالة الجوع التي وصلوا لها نتيجة إغلاق المعابر ومنع وصول المواد الغذائية لهم في الفترة الماضية.

وتحاول إسرائيل الاستمرار في ممارسة عملية تجويع السكان في غزة مع استمرار حرب الإبادة الجماعية، لكنها تتبع أساليب مختلفة من خلال الإعلان عن فتح المعابر ودخول عدد من الشاحنات على مدار أسبوعين، وهو ما لا يكفي لسد الحاجة الملحة بسبب حالة الجوع والتجويع المتمادي، كما السماح بعمل مؤسسة "غزة الإنسانية" على توزيع عدد محدود جدا من الطرود الغذائية، ما ساهم في ازدياد عمليات السرقة والبلطجة من قبل عصابات مكونة من عائلات معروفة محليا بسلوكها غير الملتزم والعدائي منذ سنوات طويلة، ويتهمها الغزيون بالتعاون والتواطؤ ولعب دور مشبوه يتماشى مع المصالح الإسرائيلية ضد أبناء شعبها.

font change