انتهاء "ثمار السلام"... أوروبا تعود إلى الاستثمار في الدفاع

تحت ضغط تهديدات بوتين و"انسحاب" ترمب

رويترز
رويترز
جندي أميركي في مهمة بنظام صواريخ المدفعية عالية الحركة (HIMARS) خلال مناورة بالذخيرة الحية مع القوات الليتوانية والأمريكية في التدريبات العسكرية البحرية السنوية "بالتوبس" في كلايبيدا، ليتوانيا، في 5 يونيو 2025

انتهاء "ثمار السلام"... أوروبا تعود إلى الاستثمار في الدفاع

تشهد أوروبا أكبر صراع منذ الحرب العالمية الثانية في أوكرانيا، ولذلك فمن غير المفاجئ أن تقدِم الحكومات الأوروبية على زيادة إنفاقها الدفاعي بشكل كبير.

ولعقود خلت بعد نهاية الحرب الباردة، استفادت الحكومات الأوروبية إلى أقصى حد مما يسمى "ثمار السلام"، فخفضت إنفاقها العسكري على نحو كبير ووجهت الأموال المتاحة إلى مجالات أخرى، مثل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.

وشهد الإنفاق العسكري انخفاضا كبيرا لدرجة أن الكثير من الدول الأوروبية فشلت في تلبية الحد الأدنى المطلوب من الإنفاق اللازم لعضوية حلف "الناتو"، والذي يتطلب من الدول الأعضاء إنفاق ما لا يقل عن 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. الأمر الذي أدى إلى أنه بحلول عام 2014، لم تتمكن سوى ثلاث دول أعضاء في التحالف الذي يضم 28 دولة من الوفاء بهذا الالتزام الأساسي بالإنفاق، وهذا الفشل كان سببا في زيادة الاحتكاك بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، علما أن متوسط الإنفاق الدفاعي الأميركي بلغ حوالي 3.5 في المئة.

وقد استمر عزوف الكثير من القادة الأوروبيين عن دفع حصتهم العادلة لحلف "الناتو"، على الرغم من تعهد الدول الأعضاء بتلبية هذا الشرط في قمة "الناتو" عام 2014 في ويلز، التي استضافها رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ديفيد كاميرون. وجاء هذا الالتزام ردا على غزو روسيا لشبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا في ذلك العام.

بيد أن الخلاف بين واشنطن والاتحاد الأوروبي اشتد بعد تولي دونالد ترمب منصبه في ولايته الأولى كرئيس للولايات المتحدة، حيث دأب البيت الأبيض على توبيخ حلفائه الأوروبيين لفشلهم في الوفاء بالتزاماتهم المتعلقة بالإنفاق الدفاعي.

ولم يخفِ ترمب إحباطه من امتناع بعض الدول الأوروبية عن دفع حصتها العادلة للدفاع عن أوروبا منذ دخوله البيت الأبيض في ولايته الثانية، وقد استمرت الانتقادات الموجهة إلى الزعماء الأوروبيين، علما بأن 22 دولة على الأقل من أعضاء التحالف تحقق الآن الحد الأدنى المنشود البالغ 2 في المئة.

إن فشل أوروبا في الالتزام بدفع حصتها العادلة من الإنفاق الدفاعي أثار حفيظة أعضاء بارزين في إدارة ترمب مثل نائب الرئيس جيه دي فانس الذي حذَّر في فبراير/شباط من أن أوروبا يجب أن تدفع مقابل الدفاع عن نفسها. غير أن تضافر عوامل أخرى، مثل استمرار الصراع في أوكرانيا، دفع عدة دول أوروبية إلى إعادة النظر جذريا في إنفاقها الدفاعي.

بعد أن انطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لغزو أوكرانيا في فبراير 2022، انتاب الكثير من القادة الأوروبيين قلق متزايد من احتمال سعي موسكو للقيام بمزيد من العمليات العسكرية

وبحسب دراسة حديثة نشرها معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن إجمالي الإنفاق الدفاعي لأعضاء حلف "الناتو" الأوروبيين بلغ 454 مليار دولار بحلول عام 2024، وهو جزء من زيادة عالمية في الإنفاق العسكري بنسبة 9.4 في المئة بالقيمة الحقيقية منذ عام 2023، ليصل إلى 2718 مليار دولار بشكل إجمالي.

وقد شهدت دول وسط وغرب أوروبا- التي تعتبر نفسها الأكثر عرضة للخطر بسبب التهديد الروسي في أعقاب الحرب مع أوكرانيا- الكثير من الزيادات الكبيرة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي. فبعد أن انطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لغزو أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، انتاب الكثير من القادة الأوروبيين قلق متزايد من احتمال سعي موسكو للقيام بالمزيد من العمليات العسكرية ضد دول في شرق أوروبا ودول البلطيق والدول الاسكندنافية، وهي خطوة قد تشعل صراعا أوسع مع حلف "الناتو".

ومع إشارة الولايات المتحدة في عهد ترمب إلى أنها قد لا تتحرك للدفاع عن أوروبا في حال وقوع عدوان روسي آخر، اختارت حكومات أوروبية كثيرة زيادة قدرتها على الدفاع عن نفسها من خلال الموافقة على زيادات حادة في إنفاقها العسكري.

أ ف ب
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وممثل,ن لدول أوروبية وكوريا الجنوبية خلال اجتماع مجموعة الاتصال الدفاعية الأوكرانية في مقر "الناتو"، في بروكسل، في 4 يونيو/حزيران 2025.

ففي ألمانيا، على سبيل المثال، وهي دولة كانت تحظى بعلاقات جيدة مع موسكو ولم ترَ ضرورة للحفاظ على الإنفاق الدفاعي عند 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفع الإنفاق العسكري بشكل كبير بنسبة 28 في المئة ليصل إلى 88.5 مليار دولار، مما يجعلها أكبر دولة منفقة في أوروبا الوسطى والغربية والرابعة في الإنفاق العسكري على مستوى العالم.

وهذا الارتفاع يدل على أن ألمانيا أصبحت، للمرة الأولى منذ إعادة التوحيد، الأكثر إنفاقا في المجال العسكري في أوروبا الغربية.

أما بولندا، ذات التاريخ الممتد من الصراع مع روسيا، فقد استجابت هي الأخرى للتهديد المتزايد الذي تشكله موسكو، حيث زاد الإنفاق العسكري البولندي بنسبة 31  في المئة  ليصل إلى 38 مليار دولار في عام 2024، وهو ما يمثل 4.2  في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لبولندا.

وقد جاءت هذه الزيادات الهائلة في الإنفاق الدفاعي كنتيجة مباشرة لقرار بوتين بوضع الاقتصاد الروسي في حالة تأهب للحرب، حيث أشارت التقديرات إلى أن الإنفاق العسكري الروسي وصل إلى 149 مليار دولار في عام 2024، بزيادة قدرها 38 في المئة عن عام 2023، أي ضعف ما كان عليه في عام 2015. الأمر الذي يعني أن 7.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا و19 في المئة من إجمالي الإنفاق الحكومي الروسي يركز على دعم الجيش.

دفع ارتفاع مستوى التهديد العالمي رئيس الوزراء البريطاني ستارمر إلى إجراء مراجعة جذرية لاحتياجات البلاد الدفاعية، وتعهد برفع الإنفاق الدفاعي إلى 2.5 في المئة

وفي المقابل، ارتفع إجمالي الإنفاق العسكري الأوكراني بنسبة 2.9 في المئة ليصل إلى 64.7 مليار دولار أميركي، وهو ما يعادل 43 في المئة من الإنفاق الروسي. مما يعني أن أوكرانيا تنفق حوالي 34 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على المجهود الحربي ضد روسيا.

وعلى الرغم من هذه الزيادات، ما زالت الولايات المتحدة تحتل الصدارة في الإنفاق على الدفاع في العالم، حيث ارتفع الإنفاق العسكري بنسبة 5.7 في المئة ليصل إلى 997 مليار دولار، وهو ما يمثل 66 في المئة من إجمالي إنفاق حلف "الناتو" و37 في المئة من الإنفاق العسكري العالمي في عام 2024.

وفي الوقت نفسه، احتلت الصين المركز الثاني في الإنفاق العسكري في العالم، حيث زاد إنفاقها العسكري بنسبة 7 في المئة ليصل إلى ما يُقدر بـ314 مليار دولار أميركي، مسجلا بذلك ثلاثة عقود من النمو المتواصل. وشكّل الإنفاق الصيني 50 في المئة من إجمالي الإنفاق العسكري في آسيا وأوقيانوسيا في عام 2024.

أ ب
في هذه الصورة، المأخوذة من فيديو وزعته دائرة الصحافة بوزارة الدفاع الروسية يوم الأربعاء، 4 يونيو 2025، يُظهر إطلاق راجمة صواريخ روسية ذاتية الحركة من طراز "غراد" صواريخ باتجاه موقع أوكراني في أوكرانيا

ومن جانب آخر، دفع ارتفاع مستوى التهديد العالمي رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى إجراء مراجعة جذرية لاحتياجات البلاد الدفاعية، وتعهد برفع الإنفاق الدفاعي للبلاد إلى 2.5 في المئة بحلول 2027/2028، وأعلن أن "طموحه" النهائي هو رفع الإنفاق العسكري إلى 3 في المئة بحلول عام 2034.

وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة واحدة من الدول القليلة التي حافظت على الالتزام بالحد الأدنى من الإنفاق المطلوب لحلف "الناتو" بنسبة 2 في المئة، فقد انخفضت قدراتها العسكرية بشكل كبير منذ نهاية عملياتها القتالية في أفغانستان في عام 2014. الأمر الذي دفع ستارمر إلى القول إن بريطانيا ستغير نهجها الدفاعي تغييرا جذريا لمواجهة التهديدات الروسية والمخاطر النووية والهجمات الإلكترونية من خلال الاستثمار في المسيرات والحرب الرقمية.

وردا على إصرار ترمب على أن تتحمل أوروبا المزيد من المسؤولية عن أمنها، تعهد ستارمر بأكبر زيادة مستدامة في الإنفاق الدفاعي للمملكة المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة كجزء من المراجعة الدفاعية الاستراتيجية لحكومته.

وربما دفعت نهاية الحرب الباردة الزعماء الأوروبيين إلى الاستنتاج بأنه لم يعد ثمة حاجة ملحة للاستثمار بكثافة في ميادين الدفاع، إلا أن الحرب في أوكرانيا، وعودة ترمب إلى البيت الأبيض، حملتهم على الاقتناع بأن هذه قضية لم يعد بإمكانهم تجاهلها.

font change

مقالات ذات صلة