الكاميرونية هيملي بوم تفحص تناقضات الأجيال الأفريقية في "حلم الصياد"

بين أطماع الشركات المتعددة الجنسية ووعود أوروبا الخائبة

رواية "حلم الصياد"

الكاميرونية هيملي بوم تفحص تناقضات الأجيال الأفريقية في "حلم الصياد"

تصدرت رواية "حلم الصياد" (2024 عن دار غاليمار الفرنسية) للكاتبة الكاميرونية هيملي بوم، المشهد السردي الأفريقي في شقه الفرنكوفوني، إذ فازت بأكثر من جائزة نوعية، بالتعاقب، منها: جائزة القارات الخمس للفرنكوفونية 2025، الجائزة الكبرى لأفريقيا 2025، جائزة لويس غيويو 2024، الجائزة الأدبية للعلوم السياسية 2024، جائزة صالون الكتاب في شومون 2024.

تنتمي الرواية إلى الرواية العائلية، راصدة مصائر جيلين مختلفين، يتمثلها الجد زكريا، الصياد المسن في قرية كامبو الصغيرة على الساحل، الشهيرة بصيد الأسماك في أقصى جنوب شرق الكاميرون، فضلا عن فرادتها الطبيعية بانتشار الغابات الاستوائية. يجابه زكريا خطر انقراض مهنته كصياد (نمط الصيد التقليدي)، بسبب استفحال السفن الصناعية الأجنبية الطارئة على المكان، بحسب اتفاقيات صيد جائرة من جهة، ومن جهة ثانية يسعى إلى التحرر، واستعادة الأرض، بسبب احتيال شركات قطع الأشجار التي حاصرته بالقروض، وحولته إلى عبد لها. زد على ذلك متغيرات المناخ القاسية ذات الأسباب المشبوهة في الغالب، مما ضاعف عزلة زكريا ومن على شاكلته، إذ ما من اهتمام توليه الدولة لهؤلاء، مع انعدام الدعم وفق سياسة اقتصادية غير عادلة، لم ولن تلتفت إليهم ولو بشكل عرضي. إنه نموذج جيل آفل يعيش على هامش الحداثة، غير مكترث بتحولات عالم تكنولوجي يتغير بسرعة خارقة.

حلم الهجرة

في المقابل حفيده زاك، الشاب التائه والمتمرد في آن، المسكون بحلم الهجرة إلى أوروبا، يرى في الضفة الأخرى خلاصه، وما من مستقبل إلا في ما ينتظره هناك من فرص وردية، يهاجر في سن 18 عاما، ملتحقا بالدراسة في جامعة نانتير الفرنسية، ويحقق حلمه في أن يصير طبيبا نفسيا سريريا، تاركا والدته دوروثي لمصيرها الأعزل، غير أن حياته شرعت تنهار دفعة واحدة، بينما روحه القلقة لا تزال عالقة بقوة بماضيه، فيتجشم عناء صدمة الاغتراب وتفاقم التمييز العنصري، مما يرج هويته، ويضطره إلى إعادة اكتشافها، من خلال الالتفات إلى تاريخه العائلي.

هو صراع مفصلي إذن بين جيلين، جيل مرتبط بالأرض والبحر، سلاحه هو معتقداته الروحية وجيل مندفع، جاهز للهروب والمغادرة نحو المجهول

هو صراع مفصلي إذن بين جيلين، جيل مرتبط بالأرض والبحر، سلاحه هو معتقداته الروحية في انسجام مع قوى الطبيعة، إنما يجد نفسه آيلا إلى التلاشي أمام وحشية القوى الدخيلة المهيمنة للشركات المتعددة الجنسية، المربكة للمنظومة البيئية والاجتماعية في آن، وجيل مندفع، جاهز للهروب والمغادرة نحو المجهول، ومع ذلك، يحمل في داخله تناقضات الوطن الموروث، والحاضر التقني، والتمزق في ما بينهما.

يجري مسرد الرواية في صيغتين، إذ يتولى الحفيد زاك الحكي بلسان المتكلم، فيما يُحكى تاريخ العائلة بضمير الغائب مسلطا الضوء على الجد زكريا، في الصيغة الأولى يسري إيقاع حميم، يتداعى نفسيا بانسياب، وفي الصيغة الثانية يغدو المنظور أوسع، شموليا.

wikipedia
كامبو، الكاميرون

بهذه الازدواجية، يوغل مشرط الرواية في اجتراح صورتين غائرتين، في الصورة الأولى يقاوم زكريا من أجل قيم الكرامة والعراقة والتاريخ الموروث، عبر الاستمرار في مهنته المهددة من قبل نظام استهلاكي متوحش، صناعي ساحق، وبذلك، يحارب في المجمل من أجل الجذور الكاميرونية، الأفريقية، ضد التهميش الوضيع، الماحق. وأما الصورة الثانية، فيجسد فيها حفيده زاك بشكل صارخ الانسلاخ عن الجذور والقطع مع الماضي، والتنكر للهوية، والارتماء الأعمى في حضن ثقافة غيرية، تمثل له الحلم على مصراعيه.

في القرية المنسية، على الساحل الكاميروني، تنعطف أقدار الشخصيات الهامشية التي تعاني فداحة الإهمال، وعنوة الإقصاء، وبرغم استشراء البطالة، فهي تراهن على المقاومة الروحية. بالقدر الذي يعي هؤلاء سياسة نهب ثرواتهم البحرية من الطرف الآخر، بتفويض من السلطة الفاسدة داخليا، لا يستطيعون أن يغيروا شيئا، ما دام أن النخبة الفاسدة محكومة هي الأخرى بما هو أشمل استغلالا واستنزافا، الغرب وإرث الاستعمار الثقيل، بملء جراحه النازفة، المستعصية على أن تندمل (الصين وأوروبا)، كل هذا يفضي إلى تدهور أسلوب حياتهم التقليدي، مع اختلال توازن الطبيعة، وانهيار الاقتصاد المحلي.

البحر كفضاء وشخصية روائية في آن

يحضر البحر كعلامة فضائية مركزية، إذ هو المكان الأثير الذي تتشابك فيه الوقائع، وتتقاطع المصائر. بالنسبة الى الصياد المسن زكريا، البحر هو الهوية والتاريخ، الماضي والمستقبل، الوطن ومصدر الخير، لا يتفرد بأن يكون ذاكرة ذاتية للصياد وحده، بل ذاكرة جماعية، تخص البلاد قاطبة. ولا يقف عند هذه الحدود، بل يتحول البحر إلى شخصية روائية كذلك.

على هذا النحو المتحول، يغدو البحر الذي كان مصدرا للحياة، بقدرة قادر هاوية للموت، بعد تفاقم الهجرة السرية، وتعاقب غرق المهاجرين

يختل هذا الارتباط الغائر بالبحر، بالبيئة، بالأرض، ما أن تغزو السفن الأوروبية والصينية الساحل، بترخيص من منظومة الحكم، فتسود ظواهر العنف الدموية، ويسطو الاغتراب. أما المأسوي في الأمر، فهو العجز الذي ينتاب الصياد وجيله أمام جبروت النهب الممنهج لثروات ساحلهم المترامي الأطراف.

على هذا النحو المتحول، يغدو البحر الذي كان مصدرا للحياة، بقدرة قادر هاوية للموت، بعد تفاقم الهجرة السرية، وتعاقب غرق المهاجرين الذين يعج المشهد اليومي بجثثهم الطافية.

هيملي بوم

ذلك هو الكابوس الذي أمسى يعيشه الصياد وجيله، وقد صودرت غاباتهم الشاسعة، وأُجْهِزَت خصوصية تراثهم في آن، مع العصف بحياتهم الراسخة، التي أضحت هشة، وتطايرت في أيما جهة، كالغبار.

في توتر العلاقة بين الصياد زكريا، وحفيده زاك، تستغور الرواية الصراع الأفريقي بين نسقين أخلاقيين متناقضين، بين منظومتين مختلفتين، الأولى ترى في الماضي ما يشمخ كمرجع، كحكمة، كدرس، ملؤه احترام الطبيعة، صون الهوية والذاكرة، والتشبث بالأرض، والثانية نقيضة، مستلبة، عمت بصيرتها عن جمال وخيرات مكانها، إذ هي منصرفة بهوس إلى الضفة الأخرى، الحلم الأوروبي، كخلاص خارق، حيث نموذج الحداثة في تقدير هؤلاء، إيقاع الحياة الأسرع، كذا نمط مجتمع استهلاكي يوفر أكثر من إمكان للعمل، وحرق المراحل للثراء والرفاهية.

تتحاشى الرواية السقوط في فخ الانحياز لهذا النموذج ضد ذاك، أو العكس، بل تلتزم الحياد، في حين تولي الاهتمام بالتشخيص، والتفكيك، وقراءة هذه المتغيرات ضمن صوغ إشكالي ملح، توجزه في أزمة الحوار بين الجيلين، فلا زاك يصيخ السمع لحكمة جده زكريا، ولا زكريا يمتلك الأدوات الكافية كي يجعل خطابه مسموعا لدى حفيده زاك، كي يقنع بصوته كما ينبغي، وهذا التعثر في الحوار بين الجد والحفيد، بين الجيلين، يترجم فشلا جماعيا، أمميا، في قدرة أفريقيا على بناء مستقبل محلوم به، يحتكم إلى صلابة ماضيه، أو يستثمر غنى جذوره بالأحرى.

بين الواقع والحلم والسراب

تعمل الرواية على قيافة رحلة زاك في العبور إلى أوروبا، راصدة الأخطار المحدقة في العيش على الضفة الأخرى، التمييز ومصير التشرذم والذل، واختتاما بالحجز والطرد.

على هذا النحو يتشظى الحلم الأوروبي، الذي يسفر عن وهم على سبيل السخرية السوداء. والخلاصة أن الجنة الأوروبية المحلوم بها، محض فضاء للرقابة، يعقبه الإقصاء المهين في الغالب.

تنزاح الرواية عن التقرير، والبساطة الفجة، بنجاحها في صوغ شعرية تعي جيدا واقعيتها الوظيفية، ذات بلاغة قديرة في رسم اليومي، مكينة في استغوار طبقات الاجتماعي المتناقض، واستقراء العادات، وترجمة محفل الأصوات الساحلية، يستمرئ معها القارئ الطعام، والروائح، وملح البحر.

ما عساها تجدي المقاومة الروحية أمام جشع الشركات الكبرى التي تعلي قيمة قيمة السوق على قيمة الانسان؟

ومثلما تتقلب الرواية بين الماضي والحاضر، تتأرجح أيضا بين الواقع والحلم آيلة إلى سراب، وفي بزوغ الحوت في أحلام أو رؤى الصياد زكريا، وحيوانات أخرى، مثال على نزوعها السحري، العجائبي.

وكيفما رانت نغمة السحرية والأحلام، لا تنفك الرواية تفكك بخطابها الإشاري، المعضلة السياسية، مفصحة بلغة روائية وليس إنشائية، عن استفحال الفساد، عن خيبات ما بعد الاستقلال، عن طغمة الاستعمار الجديد.

يتناغم خيطان رفيعان في نسج إيقاع الرواية المزدوج، الأول سيكولوجي مبطن، والثاني اجتماعي درامي معلن، يتضافران ضمن منحى شعري، ملحمي، إذ يجد الفرد نفسه أعزل، في مجابهة صادمة لتاريخه المنفرط كحبات عقد.

ومع انقراض نمط الصيد التقليدي، وتخريب الغابات وتقويضها، ثم تشريد السكان المحليين إثر انهيار المنظومة الاجتماعية والبيئية في آن، ما عساها تجدي المقاومة الروحية أمام جشع الشركات الكبرى التي تعلي قيمة قيمة السوق على قيمة الانسان؟

وفي صراع الذاكرة والنسيان، الجذور والانسلاخ، البقاء والهروب، الوطن والمنفى، يغدو الحلم داء ودواء في آن، سلاحا وجرحا، أملا وخيبة، عزاء وخذلانا.

font change