روسيا غير قادرة على انقاذ حليفتها إيران

عدم مسارعة روسيا لدعم طهران يعزز أجواء عدم الثقة تاريخيا

أ.ب
أ.ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في الكرملين بموسكو، روسيا، في 23 يونيو

روسيا غير قادرة على انقاذ حليفتها إيران

مع دخول الولايات المتحدة بشكل مباشر في الضربات على المنشآت النووية الإيرانية وانتقالها من الدعم غير المباشر لإسرائيل إلى المشاركة الفعلية، بدا أن روسيا في طريقها إلى تجرع خسارة مؤلمة ثانية في الشرق الأوسط في أقل من سبعة شهور. وبغض النظر عن مآلات الأوضاع بعد الضربات الأميركية والإسرائيلية، فإن روسيا في طريقها إلى خسارة شريك استراتيجي مهم لا يمكن مقارنة تداعيات فقدانه بتلك التأثيرات الناجمة عن سقوط نظام بشار الأسد نهاية العام الماضي.

تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد استقباله وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي وتنديده بالضربات الأميركية ضد المنشآت النووية الإيرانية وبالهجمات الإسرائيلية قبلها، لم تخف أن موسكو غير راغبة أو قادرة على تقديم المزيد من العون لطهران.

وعلى عكس الولايات المتحدة التي ظهرت كحليف موثوق دعم إسرائيل بالأسلحة ومنحها ضوءا أخضر بالتصرف منفردة وتدخل حين الضرورة، اقتصر الدور الروسي على التنديد بالضربات الإسرائيلية ولاحقا الأميركية، ومواصلة الدعوات للتفاوض وطرح نفسها كوسيط، والتحذير من نتائج كارثية على المنطقة والعالم في حال توسعت الحرب. والأرجح أن تردد الكرملين في تزويد طهران بمنظومات دفاع جوي أو طائرات حديثة سيعزز مشاعر عدم الثقة التاريخية بين البلدين، ويمكن أن يفتح على ضياع استثمارات روسيا في إيران في إطار عملية إعادة تموضع جيوستراتيجية نتيجة مراجعات داخل النظام الحالي أو أي نظام مقبل في حال تفاقمت الأوضاع الداخلية نتيجة الضربات الأميركية والإسرائيلية وتوسعت الشروخ بين نظام الحكم الديني في إيران والشعوب القاطنة فيها. وربما تكون خسارة روسيا مضاعفة في حال نشوب حرب أهلية في إيران قرب حدودها الجنوبية في منطقة ذات أهمية خاصة للأمن الاستراتيجي الروسي.

بعد المشاركة الأميركية في الضربات تتراجع فرص روسيا في لعب دور الوسيط، فالتفاوض سيأخذ منحى جديدا، وأقصى ما يمكن أن تقدمه روسيا مساعدات لوجستية فنية

وأدى تبادل الضربات بين إسرائيل وإيران، وانتقال الحرب بالوكالة إلى صدامات مباشرة بين الطرفين إلى مكاسب تكتيكية لروسيا. فارتفاع أسعار النفط ينقذ موازنة روسيا من العجز، ويسمح باستمرار تمويل آلة الحرب، كما صرفت الضربات المتبادلة الأنظار عن الحرب الروسية على أوكرانيا إعلاميا، وتراجعت أهمية الملف الأوكراني إلى الدرجة الثانية في قمة مجموعة السبع الأخيرة في كندا. ويفتح تحول الصراع إلى مواجهة مفتوحة بين الغرب وإيران على تحول الدعم العسكري الغربي إلى إسرائيل بدلا من أوكرانيا. وتضعف الهجمات الإسرائيلية ولاحقا الأميركية، ومواقف الأوروبيين الحجة الأخلاقية للغرب في مقارباته وانتقاداته للحرب الروسية على أوكرانيا.  

وفي المقابل، فإن الصواريخ الإسرائيلية الأولى ضد المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية لم تدمر قسما من قدرات إيران فحسب، بل دمرت استراتيجية روسيا المتبعة في التعامل مع الملف النووي الإيراني منذ سنوات طويلة وهي جولات مفاوضات غير منتهية بين طهران والغرب تمنع حصول حرب كبرى، وتعطل قدرة إيران على امتلاك السلاح النووي، مع محافظة روسيا على التأثير عبر مقعد على طاولة التفاوض لحل بعض القضايا الفنية.

أ.ف.ب
القائد العام للجيش الإيراني، أمير حاتمي، خلال اجتماع في غرفة قيادة الحرب التابعة للجيش الإيراني في مكان لم يُكشف عنه في إيران، في 23 يونيو

وفي ظل عدم وجود رغبة روسية أو قدرة، أو كلتيهما معا، في دعم إيران عسكريا، وعدم امتلاكها أوراقا كافية لفرض وقف للحرب أو تغيير مسارها، فإن جميع المكتسبات الروسية المحققة حتى الآن من الضربات تبدو هامشية مقارنة بخسائر روسيا الاستراتيجية المتوقعة، سواء سقط النظام الإيراني أو حافظ على وجوده ضعيفا أو قويا.  

وبعد المشاركة الأميركية في الضربات تتراجع فرص روسيا في لعب دور الوسيط، فالتفاوض سيأخذ منحى جديدا، وأقصى ما يمكن أن تقدمه روسيا مساعدات لوجستية فنية في التخلص من نحو 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب في إيران بنسبة 60 في المئة، بعد الأنباء عن نقل هذه المخزونات إلى مكان مجهول من غير المستبعد أن يكون محطة بوشهر الكهروذرية العاملة بإشراف روسي.

رغم تراجع مستوى العلاقات الروسية-الإسرائيلية على خلفية مواقف إسرائيل من الأزمة الأوكرانية، والانتقادات الروسية للحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، والضربات في سوريا، فإن العلاقات الثنائية لم تقطع نهائيا

محددادت الدور الروسي

وكان الرئيس بوتين، قد قال يوم الجمعة الماضي، إن موسكو تدعم إيران في نضالها من أجل مصالحها المشروعة، بما في ذلك الطاقة الذرية السلمية، لكنه أعرب عن قلق من أن العالم يتجه نحو حرب عالمية ثالثة، وأن "هناك احتمالات كبيرة لهذا الصراع، وهي آخذة في التزايد، وأمام أعيننا مباشرة، وتؤثر علينا تأثيرا مباشرا".

ومنذ الأيام الأولى نددت روسيا بالضربات الإسرائيلية، وواصلت طرح دور الوسيط، وقال بوتين في كلمة أثناء منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي إن "التحديات العالمية التي يواجهها العالم الحديث تتطلّب استجابة عالمية شاملة وغير مشروطة... لم يعد من الممكن حل المشكلات بشكل منفرد خصوصا على حساب الآخرين، هذا وهم". وذكر أن روسيا تطرح أفكارا بشأن كيفية وقف الصراع الدامي بينهما، مشيرا إلى أن روسيا على اتصال مع "أصدقائنا الإسرائيليين والإيرانيين".

وتنطلق محددات الدور الروسي في الصراع من ضرورة المحافظة على دينامية العلاقات الطيبة مع الطرفين الإسرائيلي والإيراني، وهذا ما يفسر إصرار موسكو على جهود الوساطة رغم عدم اهتمام إسرائيل والولايات المتحدة، ورفض الأوروبيين.  

ورغم تراجع مستوى العلاقات الروسية-الإسرائيلية على خلفية مواقف إسرائيل من الأزمة الأوكرانية، والانتقادات الروسية للحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، والضربات في سوريا، فإن العلاقات الثنائية لم تقطع نهائيا، وراعى الجانبان الخطوط الحمراء للآخر. ولم تشارك إسرائيل في العقوبات الغربية على روسيا، ولم تزود أوكرانيا بمنظومات دفاع جوي متطورة، باستثناء منظومة باتريوت قديمة تعود إلى تسعينات القرن الماضي تسلمتها أوكرانيا قبل أيام من الضربة الإسرائيلية على إيران. ومن الواضح أن العلاقات بين زعيمي البلدين بوتين وبنيامين نتنياهو فترت، وتوقفت "هدايا بوتين الثمينة" مثل استرجاع رفات الجندي زاخاريا باومل من سوريا ومقتنيات العميل الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين، لكن هذه العلاقات ضرورية لكليهما. ورغم علاقات المد والجزر واصلت روسيا التزامها بحق إسرائيل في الوجود، وضمان أمنها إلى جوار دولة فلسطينية، وأبدت تفهما لمخاوف الدولة العبرية الأمنية، وأطلقت يدها في سوريا ضد الأهداف الإيرانية والميليشيات اللبنانية والعراقية التابعة لها. وإضافة إلى "الكيمياء" بين نتنياهو وبوتين، فإن موسكو تنطلق من أن قرابة خُمس سكان إسرائيل من الناطقين بالروسية، وأن لوبي إسرائيل في الولايات المتحدة له دور مؤثر في قرارات الإدارات الأميركية المتعاقبة، إضافة إلى دور أصحاب المليارات الروس من حاملي الجنسية الإسرائيلية.

مع انطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا وما رافق بداياتها من إخفاقات للجيش الروسي، لعب تزويد إيران لروسيا بمسيّرات "شاهد 136" دورا حاسما في الحرب

وفي المقلب الآخر، طورت روسيا علاقاتها مع إيران منذ صعود بوتين إلى الحكم في إطار مساعيها لبناء عالم متعدد الأقطاب، ونسق البلدان مواقفهما في مجال النفط والطاقة، وبعد طول انتظار أتمت روسيا بناء محطة بوشهر الكهروذرية ووقعت مذكرات لبناء ثلاث محطات إضافية. ولعبت روسيا دورا مهماً في التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران في 2015. وفي خريف العام ذاته أنقذ التدخل العسكري الروسي نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وترددت تقارير عن أن التدخل جاء بطلب من قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني للرئيس بوتين أثناء اجتماع في موسكو. ورغم الخلافات بشأن الموقف الروسي من ضربات إسرائيل، والتنافس للهيمنة على القرارات السياسية والاقتصادية للنظام الذي بات وجوده معتمدا على الطرفين، حافظت روسيا وإيران على حوار منتظم عبر منصة آستانة، والشراكة في مجال محاربة النزعات الانفصالية والمنظمات المصنفة إرهابيا. وصمد "تحالف الضرورة"  في سوريا رغم تضارب أهداف روسيا وإيران فيما يخص مستقبل سوريا ودورها في المنطقة، إلى أن تلقى البلدان ضربة قوية بسقوط النظام.

ومع انطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا وما رافق بداياتها من إخفاقات للجيش الروسي، لعب تزويد إيران لروسيا بمسيّرات "شاهد 136" دورا حاسما في الحرب. وتعززت العلاقات وباتت روسيا معتمدة على إمدادات المسيرات الإيرانية منذ خريف 2022، ولاحقا زودت طهران موسكو بصواريخ وقذائف مدفعية.

رويترز
صورة جوية لمجمع فوردو التقطت بعد تعرضه لقصف الطائرات الاميركية

وساعدت إيران روسيا في تطوير أساليب للالتفاف على العقوبات الغربية وبخاصة في مجال النفط. وعمل الجانبان على تطور خطوط نقل بديلة مثل ممر "شمال-جنوب" لنقل البضائع من شواطئ المحيط الهندي إلى روسيا عبر إيران وبحر قزوين وجنوب القوقاز. وارتفع التبادل التجاري بين البلدين بشكل لافت في السنة الأولى للحرب على أوكرانيا.

وباستثناء الحصول على 20 طنا من الذهب، لا توجد تقارير مؤكدة حول ما قدمته روسيا لإيران في المقابل، مع وجود أنباء عن تزويد إيران بمنظومات للدفاع الجوي ورادارات ووسائل حرب إلكترونية وغيرها، ولكن المؤكد أن روسيا لم تتجاوب مع طلبات إيران المتكررة بشأن منظومات "إس 400"  وطائرات حديثة كان يمكن أن تساعد إيران أثناء الصراع الحالي مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

عدم مسارعة روسيا لدعم طهران تزيد حجج المشككين بجدوى العلاقة، وتعزز أجواء عدم الثقة تاريخيا منذ زمن الإمبراطوريتين الفارسية والروسية

وبعد 2022، انضمت إيران إلى منظمة شنغهاي للتعاون، وباتت عضوا في مجموعة "بريكس"، ووقعت اتفاقية للتجارة الحرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وحصلت على عضوية هذه المنظمات في إطار الجهود الروسية لبناء عالم متعدد الأقطاب عبر تكتلات تضم محيطها السوفياتي السابق ودول الجنوب العالمي. ومن نافلة القول إن عدم مسارعة روسيا لإنقاذ إيران يقلل من مغريات الانضمام  إلى هذه التجمعات.

ومنذ الساعات الأولى للضربة الإسرائيلية، حذرت روسيا من التداعيات على أمن واستقرار المنطقة والعالم. ويتمثل السيناريو "الكابوسي" لروسيا بانهيار النظام الإيراني بما يعنيه من انهيار منظومات الأمن في بحر قزوين، وجنوب القوقاز، وموجات لجوء إلى المحيط السوفياتي السابق. كما يخشى الكرملين من ضياع الاستثمارات الروسية الاقتصادية والسياسية في إيران لسنوات طويلة، وخسارة شريك في معاداة الولايات المتحدة ومحاولة تعديل النظام العالمي الحالي. وبعدما كان السيناريو الأفضل لروسيا استمرار جولات التفاوض حول الملف النووي بلا نهاية لضمان بقاء إيران ضمن معسكرها، مع عدم جواز امتلاك إيران للسلاح النووي، فإن مخاطر انهيار النظام  وإعادة اصطفاف إيران ضمن المعسكر الغربي تلحق ضربة جيوستراتيجية كبيرة بطموحات الكرملين العالمية. ورغم حدة الخطاب الروسي فإن انعدام القدرة والرغبة لدى روسيا في مساندة إيران يجعلها تراهن كأقصى حد على لعب دور على طاولة التفاوض لتهدئة الأوضاع واستمرار العلاقات الطيبة مع إيران وإسرائيل وهو هدف بات شبه مستحيل في ظل التطورات الأخيرة.

أ.ف.ب
سيارة إسعاف محترقة تابعة للهلال الأحمر الإيراني، استُهدفت في غارة إسرائيلية، كما هي معروضة في طهران، في 23 يونيو

وشنت أميركا أولى ضرباتها على إيران في يوم يتندر منه الروس "الجمعة 13"، وتدور حوله حكايات النحس والحظ السيئ. وتدخلت الولايات المتحدة ضد إيران تزامنا مع إحياء الذكرى الرابعة والثمانين للهجوم الألماني النازي على قلعة بريست في بيلاروسيا، ودخول الاتحاد السوفياتي رسميا في الحرب العالمية الثانية. وربما يكمن سوء الطالع في أن الكرملين لا يملك سوى القليل من أدوات التأثير على الصراع المتصاعد في الشرق الأوسط. وروسيا اليوم أمام خيارات صعبة، أحلاها القبول بدور دولة إقليمية كبرى، وأمرّها فقدان شريك استراتيجي وتغير في موقف ترمب بشأن أوكرانيا، وخوض صراع أصعب من الحرب العالمية الثانية مع غرب موحد في دعم أوكرانيا، واقتصاد لن تطول استفادته من ارتفاع مؤقت في أسعار الطاقة.

وفي الخلاصة الإيرانية، من الواضح أن عدم مسارعة روسيا لدعم طهران يزيد حجج المشككين بجدوى العلاقة، ويعزز أجواء عدم الثقة تاريخيا منذ زمن الإمبراطوريتين الفارسية والروسية. ومع ترجيح عدم مدّ الكرملين يد العون العسكري لإيران، فإن النظام الحالي إن صمد، أو أي نظام مستقبلي، تعلم درسا إضافيا مفاده عدم المراهنة على التحالف مع روسيا.

font change

مقالات ذات صلة